ما المعنى الحقيقي للتواضع؟ إليكم إجابات أبرز الفلاسفة

4 دقائق
المعنى الحقيقي للتواضع
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: تظهر الشبكات الاجتماعية في عصرنا هذا كساحة للتباهي بالنفس وإثارة إعجاب الآخرين وإيلاء القيمة المطلقة لأداء الفرد، وفي خضم هذا السباق المحموم نرى أن من حقنا التوقف قليلاً والتساؤل: ما الدور الذي بقي لفضيلة التواضع؟ يرى أرسطو في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" (Nicomachean Ethics)، أن التواضع فضيلة تتوسط رذيلتين الأولى هي الإفراط والثانية هي التفريط، ويوضح أن الإنسان الحكيم يتحلى بالنبل الذي يتوسط التواضع والغرور أو حتى بالمصداقية المثلى التي تتوسط مدح الذات والانتقاص منها، فما هو المعنى الحقيقي للتواضع بالنسبة إلى فلاسفة آخرين؟

تظهر الشبكات الاجتماعية في عصرنا هذا كساحة للتباهي بالنفس وإثارة إعجاب الآخرين وإيلاء القيمة المطلقة لأداء الفرد، وفي خضم هذا السباق المحموم نرى أن من حقنا التوقف قليلاً والتساؤل: ما الدور الذي بقي لفضيلة التواضع؟

هل يمكننا أن ننادي بالتواضع في مجتمع تحكمه المنافسة؟ تعطي الليبرالية الجديدة التي نعيشها اليوم الأفضلية لأداء الفرد، فتعزز باستمرار مفهوماً مفاده: "يجب أن تتفوق على الآخرين لتنجح". وتعزز الشبكات الاجتماعية، ولا سيما لدى الشباب والمراهقين الحاضرين فيها بقوة، الرغبة في التباهي بالنفس، فكيف يمكن للتربية في هذا السياق أن تنادي بفضيلة التواضع؟

ونتساءل أيضاً: ألا تؤدي تربية الأجيال على التواضع إلى تخلفها عن الركب وبقائها على هامش المجتمع إلى الأبد؟ وما المكاسب التي سيجنيها المرء من التواضع في هذا العصر بخلاف سخرية الآخرين منه؟ تناول الفيلسوف مايكل ساندل (Michael Sandel) في كتابه "غطرسة الاستحقاق" (The tyranny of merit) حالة الغطرسة التي تنشأ لدى الناجحين في المجتمع وتصبح معياراً لتحديد مكانة كل فرد منه، وفي هذا السياق فقد بتنا بحاجة إلى تسليط الضوء على تعاليم بعض أعظم الفلاسفة حول فضيلة التواضع.

التواضع يعني تقدير الذات بإنصاف

لا يعني التواضع غياب الطموح بل تجنب الإفراط، ويمكن تعريفه بأنه الانضباط في تقدير الذات. ويرتبط الأمر بعلاقة الإنسان الصادقة مع نفسه أولاً والآخرين ثانياً أي عدم التظاهر بغير حقيقته وقبل كل شيء عدم الاعتقاد بأنه أقوى أو أفضل مما هو عليه، فالإنسان المتواضع هو ذلك الذي يتمتع بالقدرة على تقدير ذاته بإنصاف.

يرى أرسطو في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" (Nicomachean Ethics)، أن التواضع فضيلة تتوسط رذيلتين الأولى هي الإفراط والثانية هي التفريط.

ويوضح إن الإنسان الحكيم يتحلى بالنبل الذي يتوسط التواضع والغرور، أو حتى بالمصداقية المثلى التي تتوسط مدح الذات والانتقاص منها.

ويشيد ديكارت بالاعتدال بالطريقة ذاتها ضمن أولى القواعد فيما أطلق عليه "الأخلاق المؤقتة"، فيقول: "الغلو مذموم دائماً والأصلح للإنسان التمسك بأكثر الآراء اعتدالاً، وهي تلك التي أجمع عليها أعقل أفراد المجتمع".

التواضع وفق مفهوم الاعتدال والتوسط هو سلوك فاضل يتيح للمرء إدارة حياته بكفاءة من الناحيتين الأخلاقية والعملية.

التواضع يعني الصدق مع الذات

ليس التواضع ضعفاً أو استكانة بل حالة من الشفافية مع الذات تنطوي على رفض الغطرسة والغرور، وبهذا المعنى ذاته كان موت سقراط عندما حُكم عليه بالإعدام درساً حقيقياً في قوة التواضع.

ويرى الفيلسوف الفرنسي آلان (Alain) في كتابه "عناصر الفلسفة" (Eléments de philosophie) أن سقراط هو مثال على تواضع الحكيم، ووفقاً لشهادة أفلاطون في كتابه "دفاع سقراط" (Apology of Socrates) الذي استعرض فيه رد سقراط على لائحة الاتهام الموجهة إليه، فقد قدم الأخير حججه دون غلو وذلك على الرغم من أن الكاهن الأعظم في معبد دلفي كان يرى أنّ لا أحد أكثر حكمة من سقراط.

وعلى هذا النحو كان سقراط مثالاً على الحكمة البشرية الخالصة التي فهم أصحابها أن الحكيم الحقيقي لا يدّعي أنه كذلك، فقد يبدو المرء حكيماً لنفسه وللكثيرين من حوله في حين أن الحقيقة مختلفة. ويقول أفلاطون نقلاً عن سقراط: "يظن الحكيم الزائف أنه يمتلك معرفةً ليست لديه، في حين أنني عندما أجهل موضوعاً ما لن أعتقد بمعرفتي به.

التواضع هو عكس وهم التفوق الذي يغمر أذهان العديد من الأشخاص ممن يعتقدون أنهم ذوو معرفة على الرغم من أن الواقع يقول إنهم لا يمتلكونها أو أنها محدودة"، فهذه الفضيلة تحكم تطور معرفة الإنسان بذاته والآخرين والعالم كله.

التواضع عندما يقترن بالكبرياء الحميد

صدم كبرياء سقراط كلَّ من حضر محاكمته، فهل ثمة نوع من الكبرياء يسير جنباً إلى جنب مع التواضع؟ لا شك في أن التواضع هو دلالة على إدراك الإنسان الصادق لحدوده لكنه قبل كل شيء رفض لطغيان المظهر، فالشخص المتواضع هو الذي يفضل الاتساق مع جوهره على جمال ما يُظهره للآخرين.

وباعتراف الجميع؛ ثمة ما هو مصطنع عند الحديث عما يفصل بين الجوهر والمظهر الذي بات أولويةً في هذا المجتمع، وكما يقول بول فاليري (Paul Valéry) في قصيدته "شظايا إنسان نرجسي" (Fragments du Narcisse):

"أحبك وحدك يا جسدي؛ يا جسدي العزيز، فأنت الوحيد الذي تدافع عني في وجه الموت".

لكن لا يمكن اختزال أي إنسان في مظهره، وبخاصة مظهره الاجتماعي، وقد عرفنا ذلك منذ قال بليز باسكال ذات مرة: "الروعة الظاهرية لا تستحق إلا احتراماً ظاهرياً أيضاً"، فالظهور على وسائل الإعلام مثلاً يهم فقط أولئك الذين يعني المظهر كل شيء بالنسبة إليهم ومهما كبر عددهم، لا يمكن أن يصبح الظهور على هذه الوسائل معياراً تُقاس به قيمة الناس.

ونعود هنا إلى باسكال الذي وجد لنفسه مكاناً فيما سماه "ترتيب المحبة"؛ إذ رأى أنّ "الرغبات الجسدية" تلائم الأغنياء والملوك الذين يتمحور تفكيرهم حول الجسد، وأنّ حب الفكر يثير الفضوليين والمثقفين، وأخيراً أنّ الحكمة المقترنة بالكبرياء تثير اهتمام الإنسان الحكيم الذي يبتغي العدل.

يشعر الإنسان المتواضع بالكبرياء عندما يسعى نحو تحقيق العدالة ونفع الآخرين دون انتظار مكافأة مقابل ذلك، مهما كان مجاله وبغض النظر عن مدى نجاحه فيه (كأب أو مدرس أو زوج أو صديق أو حرفي أو فاعل اجتماعي أو كاتب أو عالم فلك أو حتى باحث في الفيزياء)؛ تماماً كما يبتغي الصالحون رضا الله في أعمالهم.

ووفقاً لباسكال فإن المرء يرى الحكمة بقلبه لا بعينيه، وهذه الرؤية هي التي سيسعى إليها أولئك الذين فهموا المعنى الحقيقي للتواضع كتتويج للتربية الناجحة.

المحتوى محمي