ملخص: تشغل فكرة الوصول إلى السعادة الحقيقية والبحث عن السعادة جزءاً كبيراً من تفكير كثيرٍ منا، فمَن منا لا يريد أن يكون سعيداً! وعلى الرغم من وجود اختلاف في الآراء حول كيفية تحقيقها؛ حيث يرى البعض إنها تتحقق بالحصول على المزيد من المال، ويراها آخرون في الرضا بما يملكه الفرد، بينما يذهب آخرون إلى فكرة امتلاك هدف في الحياة وتحقيقه؛ يظل تحديد العوامل التي تساعد على الوصول إليها محل دراسة، ليكشف لنا بحث جديد عاملاً لم يُسلّط عليه الضوء كثيراً من قبل رغم فعاليته في تحقيق سعادة الفرد في الحياة.
لما كانت الإجابة عن سؤال "ما الذي يجعلك سعيداً؟" مختلفة من شخص إلى آخر، وكذلك إجابات المختصين حول أسئلة مثل "كيف يكون الفرد سعيداً في عمله؟" أو "كيف يكون الفرد سعيداً في الحياة؟"، عكف الباحثون من جامعة هارفارد على دراسة العوامل التي يمكن أن تجلب السعادة الحقيقية للإنسان في دراسة استمرت نحو 70 عاماً.
وتوصلت الدراسة إلى نتائج ملهمة مفادها أن امتلاك الفرد لعلاقات قوية وأكثر دفئاً مع الآخرين والحفاظ عليها له النصيب الأكبر في جلب السعادة الحقيقية للإنسان مقارنة بعوامل أخرى أكثر شيوعاً.
كيف تكون سعيداً في حياتك؟
يشير الطبيب النفسي والمدير الحالي لمشروع هارفارد الذي استمر نحو 7 عقود لبحث ما يمكن أن يجلب السعادة الحقيقية للإنسان، روبرت والدينغر (Robert Waldinger) إلى وجود عاملَين رئيسيَّين يحددان سعادتنا وإمكانية عيشنا حياة مزدهرة؛ وهما:
- الاهتمام بالصحة بممارسة الرياضة والتوقف عن التدخين والحفاظ على وزن صحي وغيرها من العوامل التي تحسّن من الصحة البدنية للفرد؛ حيث يأتي ذلك بثماره في العيش لفترة أطول بصحة جيدة ويغذّي سعادة الفرد.
- الاهتمام بجودة العلاقات؛ حيث ينعم الأشخاص الذين يحافظون على علاقات أكثر دفئاً بصحة أفضل ويعيشون لفترة أطول كما لو أن هذه العلاقات تنفذ لداخل الجسد لتبقيه بحالة جيدة.
وكان العامل الثاني ملهماً للباحثين؛ حيث ارتبطت جودة العلاقات وقوتها بطول عمر الأفراد وسعادتهم بدرجة أكبر من غيرها من العوامل التي كانت محل الدراسة؛ مثل المال والمكانة الاجتماعية والذكاء والاهتمام باللياقة البدنية.
اقرأ أيضاً: كيف تؤثر السعادة في صحتنا البدنية والنفسية؟
كيف تؤثر جودة علاقات العمل في صحة الفرد وسعادته؟
تُعد الوحدة مصدراً للضغوط يؤثر في حياة الأفراد سلباً، فعندما يكون الفرد وحده يكون أكثر عرضة للشعور بالخطر؛ ما يحفّز لديه استجابة الكر والفر. بينما عندما يكون وسط مجموعة يشعر بالانتماء إليها وتكون بينه وبين الآخرين علاقات جيدة، يشعر الجسم بالراحة وتنخفض معدلات هرمونات التوتر بحسب والدينغر.
وكما يُعد تكوين علاقات قوية أمراً مهماً في الحياة الشخصية؛ يظهر دوره البارز في الحياة العملية أيضاً على الرغم من اعتقاد البعض بأن العلاقات بين أفراد العمل غير مهمة.
في هذا السياق، تشير الرائدة والمستشارة في مجال تطوير مكان العمل والتنمية البشرية، آنا ماري مان (Annamarie Mann) في مقالها إلى أهمية تكوين علاقات قوية وامتلاك أصدقاء مقربين في العمل لدورهما القوي في تعزيز سعادة الفرد وزيادة إنتاجيته.
وتوضح إننا نعيش ونعمل في عصر نتوقع فيه أن تكون الوظيفة أكثر من مجرد راتب، ويبحث العديد عن شركات وبيئات عمل لديها ثقافات تشمل مشاعر الثقة والانتماء والاندماج لأننا نقضي ساعات في العمل أكثر مما نقضي في المنزل، فمن الطبيعي أن نرغب في بناء علاقات مع أعضاء فريقنا رغبة منا في الشعور بأن العمل يستحق العناء وأن وجود المقربين والأفراد الموثوق بهم يساعد على تعزيز هذا الشعور. وفي ظل غياب هذه العوامل، يمكن أن يبدو العمل مصدراً للعزلة والوحدة.
وتشير مان إلى قوة تأثير خلق علاقات قوية مع زملاء العمل في نشوء الرضا الوظيفي والسعادة. بالإضافة إلى ذلك، تساعد صداقات العمل على زيادة الإنتاجية والمشاركة؛ حيث وُجد ارتباط ملموس بين وجود صديق مقرّب في العمل ومقدار الجهد الذي يبذله الموظفون في عملهم وشعورهم بالاندماج.
على سبيل المثال؛ تشعر النساء اللاتي لديهن صديق مفضل أو مقرب في العمل بالاندماج بدرجة أكبر من اللاتي ليس لديهن أصدقاء مقربون بنسبة 63% و29% على التوالي.
وفي حالة غياب العلاقات القوية في بيئة العمل، قد نستخدم مواهبنا وقوتنا كل يوم لكننا على الأرجح لا نشعر بالحيوية أو الحافز الكامل لفقدان شعورنا بالانتماء في المقام الأول. ذلك لأن شعورنا بالانتماء إلى أعضاء الفريق يدفعنا لاتخاذ قرارات إيجابية تفيد الشركة قد لا نفكِّر فيها إذا لم تكن لدينا علاقات قوية مع زملاء العمل، وفقاً لمان.
5 استراتيجيات لتكوين علاقات قوية
في مقالها حول الاستراتيجيات الفعالة لتكوين علاقات قوية، تشير أستاذة علم النفس الاجتماعي بكلية هارفي مود الأميركية، ديبرا مشيك (Debra Mashek) إلى أن العلاقات الاجتماعية تخضع لما يسميه علماء الاجتماع "الأعراف المجتمعية" والتي نقدم فيها مزايا للآخرين لدعم رفاهتهم وليس لكسب منافع تعويضية لأنفسنا.
كذلك، نحن ننشىء هذه العلاقات ونسعى إلى تمتينها ليس لأننا مضطرون لذلك أو لأننا مدينون للطرف الآخر بشيء ما؛ ولكن لأننا نرى فرصة للإسهام بشكل إيجابي في عالم شخص آخر. فكيف يمكن لنا تكوين علاقات أفضل تساعدنا على الشعور بمزيد من الترابط والدعم والرضا؟
توضح مشيك إن الأمر يبدأ بالبحث عن طرائق صغيرة لإضفاء القليل من الضوء على عوالم الآخرين، وفعل ذلك دون السعي إلى الحصول على مقابل. كذلك، يعزز السلوك الحميمي الثقة والمشاعر الإيجابية والشعور بالانتماء والقبول. وفيما يلي 5 استراتيجيات لخلق هذه العلاقات القوية تقدمها مؤسِّسة مؤسَّسة شفاء الأسرة والمجتمع، سوزانا وو-بونغ كالفيرت (Susanna Wu-Pong Calvert):
- السعي إلى فهم الطرف الآخر أولاً: تُعد مهارة الاستماع مهمة في تكوين العلاقات، ويجب تطويرها إذا كنت ترغب في تعزيز علاقات صحية. يتطلب الاستماع الفعال التركيز، لذلك يجب أن تبذل جهداً كبيراً للابتعاد عن المشتتات خلال التواصل مع الطرف الآخر. ومن المهم أيضاً تجنب وضع الافتراضات أو التسرع في إصلاح الأشياء أو الهروب -جسدياً أو عاطفياً- من المواقف الصعبة.
- إظهار الاهتمام والتفهم: لا يكون إظهار الاهتمام والتفهم من خلال اللغة المنطوقة فقط مثل "نعم، أفهم ما تمر به"، فلغة الجسد لها دور مهم في ذلك. ويمكن إظهار الاهتمام من خلال الاتصال بالعين والإيماء بالرأس، فهي أشياء مهمة لإثبات أنك تستمع جيداً إلى حديث الطرف الآخر.
- ممارسة التعاطف: في كثير من الأحيان، قد لا يشارك المتحدث مشاعره لذلك يمكنك أن تتخيل كيف يمكن أن يشعر وما يحتاج إليه لدعمه بالطريقة الصحيحة. من المهم عند إبداء التعاطف تجنُّب الخلط بين مشاعر الطرف الآخر ومشاعرك لقراءة مشاعره بشكل صحيح.
- عرض الدعم: من المفيد أيضاً بعد الاستماع إلى الطرف الآخر وإظهار الاهتمام بما يقوله وما يمر به؛ التأكد من أنه قال كل ما يريد وأنك سمعته بشكل صحيح باستخدام أسئلة مثل: "هل هناك أي شيء آخر تريد أن تخبرني به؟ " و"هل فهمت ذلك بشكل صحيح؟"، للتأكد من أنك فسّرت ما قاله بدقة، فإظهار الدعم يساعد كثيراً على بناء المزيد من الثقة.
- المعاملة بالمثل والالتزام: تتمتع العلاقات الناجحة بالتوازن بين الأخذ والعطاء؛ حيث يسهم فيها الطرفان من مناطق قوة كل منهما مع الاهتمام أيضاً بفرص نموهما. لذلك، قد تبدو معادلة كل علاقة مختلفة تماماً عن غيرها.
اقرأ أيضاً: 7 طرق تمنحك السعادة
وأخيراً، إذا كان الوصول إلى السعادة الحقيقية يبدأ بعلاقات قوية مع الآخرين، يجدر بنا إعطاؤها الكثير من اهتمامنا كي ننعم بالسعادة في حياتنا الشخصية والعملية، ونطلق العنان لطاقتنا بدلاً من إبقائها مقيدة لشعورنا بعدم الراحة أو الانتماء إلى المكان الذي نعيش فيه ونعمل به.