ملخص: تحرمنا البطالة من عدد من المميزات الاجتماعية التي يجلبها لنا الانخراط في بيئة العمل؛ ومنها مشاركة الخبرات والشعور بالمكانة الاجتماعية. وليس من الغريب أن يكون العمل أحد العوامل المساعدة في التغلب على بعض الاضطرابات والأمراض النفسية لتوفيره نظاماً يومياً وتجارب ذات مغزىً تساعد الفرد على إتقان مهاراته وإدارة عواطفه وكذلك تحسين قدرته على التعايش مع الآخرين. فإذا كنت تعتقد أن العمل لا يمثل سوى مصدر للدخل المادي، إليك هذا المقال الذي يعرفك أكثر على العلاقة بين البطالة والصحة النفسية.
غالباً يكون محركنا الأساسي للعمل هو توفير احتياجاتنا المادية؛ الشخصية والأسرية، وربما نمت لدينا عبر سنوات العمل التي نسعى فيها إلى تطوير مهاراتنا للحصول على عائد مادي فكرة أن دور العمل لا يتعدى أن يكون مصدراً للدخل والأمان المادي لسد احتياجاتنا الحالية والمستقبلية؛ إلا أن أثر العمل والبطالة يتعدى فقدان الأمان المادي ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصحة النفسية.
ما العلاقة بين البطالة والصحة النفسية؟
وفقاً لدراسة أجراها باحثون من قسم الاقتصاد في جامعتيّ واشنطن ولي، فقد بدأ الجدل حول مدى تأثير البطالة في الصحة النفسية بين علماء النفس والاجتماع منذ فترة الكساد العظيم، وأشاروا إلى أن البطالة تضر بالصحة النفسية؛ حيث تؤدي إلى التطور النفسي الاجتماعي غير المكتمل والشعور بالعجز الناجم عن الافتقار الملحوظ للسيطرة، بالإضافة إلى الفشل في الحصول على الفوائد غير المادية للعمل؛ مثل مشاركة الخبرات مع الآخرين والشعور بالمكانة الاجتماعية.
وأضاف الباحثون تعارض ذلك مع متطلبات بناء الشخصية ونموها العاطفي الصحي، باعتقاد الشخص أنه يخطو خطوات لإثراء نفسه من خلال الإسهام بدور فعال في أسرته ومجتمعه؛ ما يعني أن البطالة تهدد احترامه لذاته لأنها قد تسبب القلق والشك الذاتي وكذلك الشعور بالعجز.
وتنشأ مشاعر العجز تلك عندما يشعر الشخص أن تأثيره ضئيل في الأحداث المهمة في حياته مثل تأمين عمل هادف، وقد تنتج من استمرار هذا الشعور لفترة طويلة الإصابة بالاكتئاب.
وتتطور الاستجابة النفسية الناتجة عن البطالة عبر مراحل مختلفة؛ حيث تبدأ بالصدمة وهي مرحلة أولية لا يزال الفرد فيها متفائلاً إلا أنها تستحيل تشاؤماً وشعوراً بالضيق مع استمرارها لفترة طويلة، وفي النهاية يستسلم الفرد ويحاول التأقلم مع حالته الجديدة دون حماس للتغيير.
ويؤكد العلماء إن لذلك أثراً سلبياً في الصحة النفسية للفرد بسبب المستويات المرتفعة من الإحباط وخيبة الأمل، بالإضافة إلى العزلة.
وتكون هذه المشاعر أكثر وضوحاً بين الأفراد الذين يتحملون مسؤوليات مالية أكبر، ومَن لديهم إحساس أعلى بالكفاءة الذاتية يعززها النجاح السابق في بيئات مختلفة بما في ذلك المدرسة والعمل؛ وبالتالي فإن ذوي التعليم العالي والآباء أكثر عرضة للعواقب النفسية والعاطفية المنهكة للبطالة.
الآثار النفسية السلبية للبطالة
أظهرت نتائج دراسة منشورة بالدورية الأميركية للصحة العامة (American Journal of Public Health) ارتفاع أعراض اضطراب الجسدنة -أحد الاضطرابات النفسية الذي يدفع الفرد للتركيز بشكل غير طبيعي على الأعراض الجسدية التي يشعر بها مثل الألم- والاكتئاب والقلق بشكل ملحوظ في العاطلين عن العمل مقارنة بالعاملين.
كذلك، ارتفع عدد زيارات العاطلين إلى أطبائهم بدرجة كبيرة وتناولوا الأدوية بمعدل أكبر من الأفراد العاملين، على الرغم من تشابه نسبة تشخيص الأمراض بين كلتا الفئتين.
علاوة على ذلك، أظهر تقرير من مؤسسة الصحة النفسية البريطانية في يناير/ كانون الثاني من عام 2021 معاناة 43% من العاطلين عن العمل من تدهور في الصحة النفسية مقارنة بـالعاملين، وشعورهم بمزيد من التوتر وانخفاض احترام الذات بسبب فقدان نظام العمل اليومي أو وصمة العار المرتبطة بالبطالة.
في السياق ذاته، فحصت دراسة من جامعة الجزائر أثر البطالة في الصحة النفسية للشباب ومدى تأثيرها في ارتفاع اليأس والاكتئاب ومعدلات الانتحار لديهم. شملت الدراسة فئة الشباب من الجنسين بمتوسط أعمار بلغ 27 عاماً، وتراوحت مدة البطالة من سنة إلى تسع سنوات، وأوضحت النتائج ارتفاع معدل الاكتئاب واليأس والأفكار الانتحارية طرداً مع زيادة فترة المعاناة من البطالة. وقد عانت الإناث من اليأس بدرجة أكبر من الذكور، بينما ظهرت الأفكار الانتحارية لدى الذكور أكثر من الإناث، ولم تكن هناك اختلافات في درجة الإصابة بالاكتئاب بين الجنسين.
كيف يساعد العمل على تجاوز الاضطرابات النفسية؟
إلى جانب السعي إلى الأمان المادي والتطور واكتساب المعرفة وتقلّد المناصب، تظهر للعمل قيمة أكبر. فوفقاً لمديرة برنامج غوندرسون التابع لشركة ماكلين التابعة لكلية الطب بجامعة هارفارد (McLean’s Gunderson Residence)، كارين جاكوب (Karen Jacob) ثبت أن العمل يساعد على تحسين حالة الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في الصحة النفسية.
على سبيل المثال؛ غالباً ينطوي جانب مهم من التعافي بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدية (BPD) على الانخراط في بيئة العمل، لأنه يوفر هيكلاً ونظاماً يومياً وتجارب ذات مغزىً. وقد تنتج هذه الآثار النفسية الجيدة من العمل ذاته أو التفاعلات بين الشخص وزملاء العمل؛ ما تنجر عنه فرص أفضل لإتقان المهارات مثل إدارة العواطف والنمو العاطفي وتحسين قدرة التعايش مع الآخرين، بالإضافة إلى تطوير الإحساس بالكفاءة في العمل نفسه.
5 نصائح للحفاظ على الصحة النفسية خلال فترة البطالة
إذاً، تؤثر البطالة في الصحة النفسية تأثيراً قوياً يختلف من شخص لآخر بناء على عدة عوامل. على سبيل المثال؛ قد يساعد وجود شريك أو أشقاء وأصدقاء داعمين على تخفيف الأثر النفسي السلبي للبطالة إلا أن عدم توفر هؤلاء الأفراد لا يعني أن الفرد لن يجد خلاصاً من براثن البطالة وتأثيرها السلبي في صحته النفسية. ولتجاوز هذه المرحلة بسلام تقدم الطبيبة كريستين فولر (Kristen Fuller) النصائح التالية:
- توقّف عن لوم نفسك واعمل على تعضيد صِلاتك الاجتماعية.
- طوّر روتيناً يومياً لمحاربة مشاعر اليأس والعزلة والاكتئاب الناتجة من البطالة عن طريق:
- الحفاظ على مواعيد نوم واستيقاظ منتظمة.
- ممارسة الرياضة يومياً.
- تخصيص وقت لتطوير مهارة جديدة أو العمل في مشروع جديد.
- قضاء ما لا يقل عن 30 دقيقة يومياً خارج المنزل.
- قضاء وقت مع الأصدقاء والمقربين.
- التأمل وممارسة اليوغا.
- التركيز على الهوايات والأنشطة التي تجلب السعادة مثل القراءة.
- لا تندفع وتبذل كل وقتك وجهدك في البحث عن وظيفة جديدة؛ بل حدد مقداراً معيناً من الوقت كل يوم أو كل بضعة أيام للبحث عن فرص عمل جديدة، وكذلك تحديث سيرتك الذاتية والتواصل مع الأشخاص الذين يمكنهم تقديم المساعدة في الحصول على عمل جديد.
- نظّم أمورك المادية وقيّم أي إنفاق إذا كان ضرورياً أو لا، فمن المهم توفير المال خلال هذا الوقت حتى لو كانت لديك مدخرات تمكّنك من تغطية فواتيرك الشهرية.
- وأخيراً، تخلَّص من مصادر الطاقة السلبية التي تزيد شعورك بالضغط، سواء كانت وسائل التواصل الاجتماعب أو الأشخاص السلبيين من حولك، واستبدل ذلك بقضاء مزيد من الوقت مع أفراد داعمين.