إلى أي مدى يمكن للإنسان تغيير نفسه؟

4 دقائق
تغيير الإنسان نفسه نحو الأفضل
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

تغيير الإنسان نفسه نحو الأفضل وتطوير الذات والتخلص من نقاط الضعف والسلوكيات السلبية، كلها رغبات مشتركة بين الناس جميعهم ولكن هل يمكن تحقيقها؟
يقول الفيلسوف هراقليطس (475 – 535 ق. م)، في كتابه "شظايا هراقليطس" (Fragments of Heraclitus): "المرء لا يستحم في النهر ذاته مرتين". وكان يقصد بالنهر دورة الحياة، فأنت الآن ليس كما كنت منذ لحظة وهذا الوجود كله في حالة حركة وتغير مستمر. يُعد هراقليطس أول فيلسوف تطرق إلى فكرة أن كل شيء في تغير مستمر، وكان قد بدأ بالبحث عن ذاته والتساؤل عن هويته عندما لاحظ عدم الاستقرار الذي يحكم الحياة مستلهماً من التغيرات التي تشهدها الطبيعة، فالثمار تنضج والأزهار تتفتح ثم تذبل، والحيوانات تنمو ثم تختفي، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي هذه التغيرات.

تتطلب إرادة التغيير وتطوير النفس التمتع بالقدرة على تأمل الذات واستحضار الذكريات ووجود صورة ذاتية ثابتة، مثلاً قرر ديكارت في مرحلة ما من حياته أن يشكك في كل معارفه التي اكتسبها منذ شبابه، أما سبينوزا فقد تحدث في كتابه "رسالة في إصلاح العقل" (Treatise on the Reform of the Understanding) الذي كتبه عام 1665 تقريباً عن سبب رغبته في التغيير، وهو تحرير نفسه من الرغبات الجوفاء التي تجعل الناس يشعرون بالغيرة؛ إذ أدرك أن الأهداف التي تسعى إليها البشرية المتمثلة في تحقيق الثروة والمجد لا تتوافق مع ما يطمح إليه: "عالم ملؤه الفرح".

الشعور بعدم الرضا كحافز للتغيير

يتطلب التغيير أن تغير نظرتك إلى الحياة أولاً، ويمكن القول إنّ ذلك يمثل واجباً أخلاقياً لكن الإرادة وحدها ليست كافية لفعل ذلك؛ إذ تحركنا نحن البشر آليات داخلية أقوى بكثير مثل الشعور بعدم الرضا أو الرغبة في التفرد أو ذلك الحدس الذي يخبرنا أن الحياة يمكن أن تكون أجمل إذا غيرنا من أنفسنا. جدير بالذكر أنه من النادر أن يتمكن الشخص الفاسد أخلاقياً من تغيير نفسه، فهو يشعر بالرضا عن الطريقة التي اعتاد تحقيق متعته باستخدامها وقد تجذر ذلك فيه منذ الطفولة، فتراه مثلاً يعد بتغيير نفسه في اللحظات الحرجة التي يجتاحه فيها القلق ثم سرعان ما يتراجع عن ذلك بمجرد شعوره بالاطمئنان وزوال مصدر خوفه. وعلى الرغم من انتقاده لنفسه وتصرفاته أحياناً وتراجعه عن إلحاق الأذى بمن حوله أحياناً أخرى، فإن لا شيء بداخله يتغير في واقع الحال. وفي عالم الأعمال، قد يحضر المدراء الذين يسيئون معاملة موظفيهم ورشات تدريبية تتناول كيفية التعامل مع الموظفين دون أن يجعل منهم ذلك قادةً محترمين لأن متعتهم الحقيقية هي سحق من هم أضعف منهم. نحن نتمنى أن نتغير دون بذل جهد أو تقديم أي تنازلات فالتغيير يعني قبول القفز في المجهول والتخلي عن عادات معينة؛ إذ إنّ سلوكياتنا بما فيها تلك التي تصعّب علينا حياتنا تمثل جزءاً من هويتنا وحاجةً إلى شعورنا باستمرارية وجودنا ومن ثم شعورنا بالأمان. وقد يتحجج بعض الناس بالقدر ليرفض التغيير فلا بد أنك سمعت هذه العبارة من قبل: "هذا أنا لا يمكنني تغيير نفسي (الحد من غضبه وسلوكياته العدائية مثلاً)، إما أن تقبلني كما أنا أو ترحل" لكنها ذريعة واهية للاستمرار في إيذاء الآخرين.

تأثير الجينات في القدرة على التغيير

تُعرَّف الشخصية بأنها مجموعة أفكار المرء وميوله ونمط ردود أفعاله، وهي وحدة كاملة أسهمت عدة عوامل في تكوينها مثل تجارب الطفولة والتربية التي تلقاها وتأثير المقربين والأشخاص الذين اقتدى بهم في مختلَف مراحل حياته، وتُضاف إلى ذلك العوامل الوراثية التي لا يمكن التحكم فيها، فهي مثلاً تحدد أيضاً إيقاعاتنا البيولوجية، وبصورة خاصة مسألة إذا كنا أشخاصاً صباحيين أو ليليين؛ إنها حقيقة تفرض نفسها علينا! وينطبق الأمر ذاته على الحالة المزاجية للشخص فمن يتسم بالخجل والانعزالية في الصغر من النادر أن يصبح شخصاً اجتماعياً منفتحاً على الآخرين في سن الرشد لكنه قد يحاول تعويض ذلك وتعزيز ثقته بنفسه من خلال عدة طرق مثل اتباع دورات تتضمن أنشطة جماعية مثلاً. وعلى الرغم أن المرء قد لا يتمكن من تغيير شخصيته جذرياً فإن بإمكانه جعل سلوكياته مقبولةً أكثر، إضافةً إلى أن الصدف ومواقف الحياة التي يواجهها لا شك في أنها قد تؤدي إلى تحولات غير متوقَّعة، فقد يتعرض لحدث يكتشف فيه جانباً جديداً من شخصيته كأن يكون أكثر شجاعةً مما يظنه مثلاً ومن ثم فإنه قد يصبح شخصاً مغامراً على الدوام.

أخيراً، إذا كنا نرى أن التغيير مستحيل وأنّ إرادتنا في هذا الشأن معدومة، فما فائدة الإصلاحيات إذا لم يكن ثمة أمل بأن يلتزم المجرمون بالقوانين؟ ولمَ نسامح من يخطِئون بحقنا إذا كنا نعتقد أنهم لن يغيروا سلوكياتهم تجاهنا؟

نظرة الآخرين والرغبة في التغيير

"أنت لن تتغير أبداً"، قد يسمع المرء هذه العبارة من والدته أو زوجته التي سئمت تصرفاته، ومن المهم هنا معرفة أن رغبة المرء في تغيير نفسه تتأثر بنظرة الآخرين إليه، فعندما تكون هذه النظرة سلبية سيقتنع بأنه شخص سيئ بالفعل ولا يمكن له أن يتغير، ومن جهة أخرى عندما يعتقد من حوله أن بإمكانه تحسين نفسه سيزداد إيمانه بقدرته على فعل ذلك. في عام 1968، أجرى عالما النفس الأميركيان روبرت روزنتال (Robert Rosenthal) وليونور جاكوبسون (Leonore Jacobson) تجربةً في إحدى المدارس عُرفت باسم تجربة بيغماليون (Pygmalion). قسّم العالمان التلاميذ إلى مجموعتَين وكانت الأولى أكثر تفوقاً بكثير من الثانية وذلك وفق المعلومات التي قدمها المعلم؛ ولكن واقع الحال لم يكن كذلك لأن طلاب المجموعة الأولى الموهوبين كانوا يحظون بقدر أكبر من التقدير والدعم ما سمح لهم بالتطور بمقدار الضعف مقارنةً بزملائهم. ليتمكن المرء من تغيير نفسه فإنه بحاجة إلى من يدعمه، لأنه حالما يخرج من منطقة راحته ويبدأ بالتشكيك في سلوكياته التي هي أساساً جزء من هويته كما ذكرنا سابقاً، فإن مشاعر القلق ستجتاحه، ومن جهة أخرى قد يظن أحياناً أنه تغير لكنه يجد فيما بعد أنه ما زال حبيس طريقة التفكير ذاتها.

الاستماع إلى صوتك الداخلي خطوتك الأولى نحو التغيير

في كثير من الأحيان يخرج المرء من علاقة سامة ليجد نفسه ضحية علاقة أخرى مماثلة لها، أو قد يبدأ وظيفةً جديدةً مثلاً فيواجه فيها الصراعات ذاتها التي أفسدت عليه حياته وأجبرته على ترك عمله السابق، وعندما يصعب عليه الانفصال عن الماضي ومنع تكراره أو يشعر بقلق شديد عندما يحاول ذلك فإنه الضروري استشارة مختص نفسي، ويمكن أن يتوصل معه إلى طريقة تساعده على تغيير نفسه دون أن يؤدي ذلك إلى اضطراب كبير في حياته. يرى الفيلسوف فرانسوا روستانغ (1923-2016) الذي مارس التحليل النفسي قبل أن يصبح معالجاً بالتنويم المغناطيسي أنّ إحدى أكبر أزمات المرء اعتقاده بأن الذات لا تتغير، ويوضح روستانغ في كتاباته أنّ الأمل في التغيير من خلال معرفة الذات على نحو أفضل هو وهم كبير، وهو يناقض بذلك تماماً مدرسة التحليل النفسي في حين يقترب فكره من الأفكار البوذية حينما يؤكد أنّ مفتاح التغيير الحقيقي يكمن في قدرة المرء على عيش اللحظة الحاضرة والترحيب بما تجلبه له الحياة فكل لحظة ستأتي تحمل معها فرحاً محتملاً، ولا يمكن للماضي أو الطفولة المؤلمة أن يحكما علينا بالتعاسة إلا إذا أردنا ذلك، وحتى عندما نشكو من جروحنا النفسية القديمة التي تمنعنا من المضي قدماً، يجب أن نعي أن جزءاً منا ما زال بخير ونحن من النادر أن نولي هذا الجزء من أنفسنا الأهمية التي يستحق، لذا دعونا نستمع إلى ذلك الصوت الداخلي الذي ينادينا وهي الخطوة الأولى لتغيير حياتنا نحو الأفضل.

المحتوى محمي