الجسد لا يكذب، فهو يتحدث بصدق عن مشكلاتنا وصراعاتنا ومعاناتنا النفسية؛ لكن ما مدى ارتباط المصاعب النفسية بالأمراض الجسدية؟ وما مدى تأثيرها في صحتنا؟ نقدم لكم من خلال السطور التالية إيضاحات حول العلاقة بين ذاكرة الجسد والذاكرة العقلية.
بعد أن أصيبت ميريام بروس (Myriam Brousse) بمرض خطير منذ ثلاثين عاماً طورت طريقة لعلاج نفسها أسمتها "الذاكرة الخلوية"؛ إذ يروي المريض قصته للمعالج الذي يعمل على رصد التجارب المؤلمة وتحديدها. يدخل المريض في أثناء ذلك بحالة استرخاء موجه ويسترجع أحداث حياته ويتفاعل معها عاطفياً ما يمكّنه من إدراك الآثار الجسدية لها.
وفقاً لميريام بروس، فبعد أن يهدأ المريض ويتخلص من الشحنة العاطفية القوية، يرجع إلى الحدث الأصلي الذي سبَّب له العرض الجسدي. على سبيل المثال؛ كانت إحدى مرضاها تعاني انتفاخاً مزمناً في الرئة إلى درجة أن الأطباء لم يروا حلاً آخر سوى إجراء عملية جراحية لها، وخلال الجلسات التي خضعت لها لدى المعالجة النفسية، اكتشفت المريضة أن الاختناق الذي تشعر به كان بسبب ارتداء والدتها مشدّاً للبطن عندما كانت في الشهر الخامس من حملها فيها لتخفف انتفاخ بطنها الذي لم يكن يعجبها مظهره.
تقول ميريام بروس: "لقد ساعدتها على إحياء ذاكرتها وهي جنين في عمر الخمسة أشهر، فبكت بحرقة عندما استعادت شعورها الجسدي في تلك الفترة ما مكّنها من تحرير نفسها، وهذه هي طريقة العلاج بالاستناد إلى ذاكرة الجسد". في حين أقر كثيرون طريقة ذاكرة الجسد فإن آخرين قد أنكروا صحتها وعلى كل حال فإن الطريقة نشأت من مبدأ مقبول لدى الجميع وهي أن جسد الإنسان يُظهر أعماق نفسه التي ترتبط دائماً بصحته الجسدية والعقلية.
حالة نفسية جسدية (سيكوسوماتية)
إنها حالة "نفسية جسدية"، بهذه العبارة نلخص حديثنا عن أمراض كالإكزيما (التهاب الجلد التأتّبي) والسرطان؛ لكن ما المقصود بذلك؟ هل نتحدث عن صراع نفسي تحوّل إلى عرض جسدي أم مرض جسدي أسبابه متعددة ولكن للعوامل العاطفية دور مهم فيه؟ يميل الطب بصورة أساسية اليوم إلى الفرضية الثانية، ويقول مختص التحليل النفسي والخبير في الأعراض النفسية الجسدية، جان بنجامين ستورا (Jean-Benjamin Stora): "الإنسان هو نظام مكون من أنظمة فرعية مختلفة، لذا ليست هنالك حالة نفسية أو جسدية مستقلة فالجهاز النفسي ذو البنية المتماسكة يعادل جهاز المناعة القوي وهو يعرف كيف يدير دفاعاته".
تأثير الألم النفسي في الصحة الجسدية
يرى رائد علم النفس الجسدي في فرنسا، بيير مارتي (Pierre Marty) أن تأثير الأحداث والتجارب النفسية المؤلمة في الجسد يقل كلما كنا أكثر وعياً بها، لأن ذلك يساعد على التخلص من الشحنة العاطفية التي ترافق هذه الأحداث، ويسمى هذا التأثير "الجسدنة".
وتوضح مختصة التحليل النفسي سيلفي كادي (Sylvie Cady): "الجسدنة هي بقاء ذكرى الحدث عالقةً في الجسد وتجليها في أعراض جسدية". وتضيف المختصة أن أي محنة يتعرض لها الإنسان تؤدي إلى الإخلال بإيقاع جسده كنتيجة لحالة التوتر والاكتئاب التي يصاب بها، وعندما تتحول المحنة إلى صراع داخلي وأزمة دائمة فإنها تتسبب بظهور الأعراض الجسدية ذات المنشأ النفسي التي تتفاوت شدتها وخطورتها، ومع بقاء المرء عالقاً ذهنياً في الحدث المؤلم (كالطلاق، أو الفجيعة، أو الفصل من العمل) يزداد ظهور هذه الأعراض، ويرى مختصو التحليل النفسي وعلم الأعصاب في هذه الحالة ضرورة البحث عن تفسير لحالة المريض في ماضيه. يقول أستاذ الطب النفسي بجامعة باريس السادسة، رولان جوفينت (Roland Jouvent): "لا شك أننا بتنا نعي اليوم أهمية نظرية أنماط التعلق في هذا السياق؛ إذ إن سلامة علاقاتنا في سن الرشد تتوقف على مدى سلامة روابطنا العاطفية والجسدية في طفولتنا وتأثيرها في حالتنا الفيزيولوجية والبيولوجية ولهذا السبب فإن تجاربنا الأولى تحدد تراثنا العاطفي. ومن ثم فإن الصدمة العاطفية الكبيرة التي يعجز الإنسان عن استيعابها في مرحلة الطفولة المبكرة يمكن أن تؤدي إلى تعديل كيمياء الدماغ بما يعزز فرص إصابته بالقلق والاكتئاب ومن ثم بأمراض الجهاز القلبي الوعائي".
ويستطرد رولان جوفينت قائلاً: "لكن صدمات الطفولة المبكرة ليست العامل الحاسم أو الوحيد إذ ثمة الكثير من العوامل الأخرى المؤثرة في ظهور الأعراض النفسية الجسدية؛ مثل طريقة إدارة العواطف ونوعية البيئة المحيطة والتراث الجيني وغيرها، وهذا ما يفسر اختلاف الاستجابة للحدث المؤلم ذاته من فرد لآخر". أخيراً يقول جان بنيامين ستورا: "من بين امرأتين تحملان جين سرطان الثدي ستصاب إحداهما بالمرض والأخرى لن تصاب به، فنحن تمكنّا من فك شيفرة الجينيوم وليس العلاقات المتداخلة بين الجينات، وهو دليل على أن ذاكرة الجسد معقدة ومتعددة الأوجه ولا يمكن النظر إليها من زاوية واحدة".