يمثل المنزل مرآة النفس وملاذها الآمن وصندوق أسرار شخصية صاحبه وماضيه وأحلامه، وهو حيز يفيض بالمشاعر المتناقضة، ففيه يتشارك الناس الحب والحنان وتندلع بينهم الخلافات أيضاً، ولذلك فإن منازلنا تكشف الكثير عن مدى تآلفنا مع الحياة.
قبل 50 عاماً كان المنزل هو المكان الذي نتشارك فيه الحب والألم والضحك مع أحبائنا، ونولد ونموت فيه؛ ولكن على ما يبدو أن عصر الإنترنت والأجهزة المحمولة التي تتيح الوصول إلى أي مكان في العالم قد غيّر طبيعة هذه العلاقة، ففقد المنزل هويته وصار من السهل علينا الانتقال من واحد لآخر.
أكد استطلاع أجرته مؤسسة سيتيليم (Cetelem) شمل عينة من 800 فرنسي أعمارهم 18 سنة فما فوق، أننا لا نعير اهتماماً "لفن عيش الحياة" الذي يعني إعطاء الأولوية للسكن على العمل والترفيه، وهو اتجاه بدأت مجلات الديكور المنزلي تروجه بصورة متزايدة. ولكن ما السر وراء الارتباط العاطفي الذي ينشأ مع المنزل الذي نمتلكه ونعمل على ترميمه وتجهيزه وتزيينه؟
المنزل هو الملاذ الآمن
توضح مديرة الدراسة المذكورة كاثرين ساينز (Catherine Sainz) أننا شهدنا حالة انتعاش اقتصادي منذ الفترة بين عاميّ 1996-1998 أدت إلى ترسيخ ما يمكن تسميته بالرابطة الاندماجية مع المنزل كدلالة على هذا التطور. وأصبح المنزل اليوم يحتل المرتبة الثانية من ناحية الأهمية في حياة الفرد بعد أسرته، ولا عجب في ذلك فالمنزل هو المكان الذي تنشأ فيه الرابطة الأسرية وهذا هو سر تعلقنا به. ومن ناحية أخرى فإن منازلنا هي ملاذاتنا الآمنة في ظل أوجه العدوان التي يعانيها عالمنا كالهجمات الإرهابية مثلاً.
"المأوى"، "الملجأ"، "الملاذ الآمن"، "مكان الراحة": هذه هي المصطلحات التي أجمع عليها مستخدمو الإنترنت عندما طلبنا منهم على موقع بسيكولوجي (Psychologie) وصف منازلهم، فهذا الأمان المرتبط بالمنزل ضرورة لا غنى عنها لتحقيق السلامالداخلي. ولا يتطلب ذلك أن يتمتع هذا الملاذ بأسوار عالية بل يكفي استخدام أشياء بسيطة كالروائح التي تحيي ذكريات الماضي أو الزخارف التي تشبه جزءاً من أنفسنا لنشعر بالسكينة والراحة التي تجدد أرواحنا وتعيننا على مواجهة صعوبات الحياة. ولذلك فإن شعور المرء بالاستقرار يتطلب قبل كل شيء شعوره بالتآلف مع منزله، لأن عجزه عن تحقيق ذلك يعني أنه سيعيش في كرب، وهذا حال أحد الأشخاص الذين قابلناهم إذ قال: "عندما أمشي في شوارع المدينة ليلاً وأنظر إلى بيوتها المضاءَة أشعر أنّ لا مسكن لديّ كالآخرين".
المنزل صورة حقيقية للذات
يعبر المرء اليوم عن تفرده أكثر من أي وقت مضى من خلال منزله، تجوّل في منزل شخص ما وستعرف عنه ما قد لا تعرفه خلال ساعات من التحدث إليه، فالألوان التي يحبها، والطريقة التي يزين منزله بها، هي أدلة تكشف الكثير عن شخصيته. تقول نجوى ذات الـ 30 عاماً: "عندما كنتُ مراهقةً أردت أن يدخل كل زائر غرفتي ليفهم من أنا، فكل ما فيها كان يتحدث عن شخصيتي؛ بما في ذلك ملصق المغني المفضل لدي وصور صديقاتي".
ولا يكشف منزلك الكثير عنك للآخرين فقط بل لك أيضاً، ففي بعض الأحيان قد يكفي أن تنظر إلى الطريقة التي ترتبه بها لتدرك التغيرات التي طرأت عليك. لنأخذ مروى ذات الـ 42 عاماً مثالاً: رفضت مروى رؤية أمها لسنوات طوال بسبب خلافات بينهما وذات صباح شعرت برغبة في عرض تماثيل ورّثتها لها جدتها لأمها دون أن تعي سبب رغبتها هذه، فوجدت مكاناً بارزاً لها على حافة المدفأة في غرفة معيشتها، وبعد يومين من ذلك اتصلت بوالدتها. تقول مروى: "ما زلت لا أعرف: هل كانت رغبتي في مسامحة أمي هي التي دفعتني لإخراج هذه التماثيل أم أنّ رؤيتها هي التي دفعتني للاتصال بها؟".
كان الفيلسوف اليوناني أرتيميدور دي دالديس قد كتب عن هذه العلاقة بين ذات الإنسان والطريقة التي يرتب بها مسكنه في القرن الثاني قبل الميلاد، وأشار قبل وقت طويل من ظهور التحليل النفسي إلى أنّ المنزل في الحلم يرمز إلى صورة الذات.
المنزل هو تاريخ علاقاتنا الكامل
لا يكشف تصميم المنزل عن ذوق صاحبه وثقافته وأفكاره فقط؛ بل عن التاريخ الكامل لروابطه الشخصية لأنه المكان الذي يتشارك فيه مع آخرين لحظات الحزن والسعادة ولحظات الاتحاد والانفصال، ففي كثير من الأحيان يصبح المنزل حيزاً للنزاعات والحسرات بعد أن كان حلماً للعيش المشترك؛ كما في حالة طلاق الزوجين مثلاً، أو النزاع الذي يقوم بين الورثة عند اقتسام المنزل الذي ورثوه.
من جهة أخرى، ترتبط الطاقة التي نستثمرها في منازلنا غالباً بالصراعات التي تحدث في اللاوعي، ويقول مختص علم النفس والكاتب الذي أعد مقالاً رائعاً حول هذا الموضوع بعنوان: "روح البيوت" (L'Ame des maisons, PUF) فرانسوا فيغورو (François Vigouroux): "تمثل مختلف أوجه تفاعل الإنسان مع منزله من شرائه إلى إصلاحه أو الدفاع عنه أو حتى تعرضه للاحتراق أو التدمير أو الرحيل عنه، حالات مواجهة مع الصراعات الكامنة في عمق اللاوعي". وهذا هو الحال مع وسام ذي الـ 47 عاماً؛ إذ إنه يغير منزله كل سنتين أو ثلاث فبمجرد أن ينتهي من ترميم منزل جديد ينتقل إلى آخر، وهو يواصل على هذا المنوال مهما كلفه الأمر من جهد، وعندما خضع إلى العلاج النفسي أدرك أخيراً أن إدمان تجميل المنازل وترميمها بهذه الطريقة يرجع إلى شعوره بالحاجة إلى تقدير والده له وإثبات قيمته كرجل من خلال هذا العمل الدؤوب.
لذلك فإن المنزل الذي نسكنه يأخذنا دائماً في رحلة من عدة مراحل جوهرية تستحق التمعن فيها: استكشاف أنفسنا، ثم تاريخنا، ثم علاقاتنا، ثم لمحة عن أحلامنا.
المنزل قصة حب
علقت مديرة الدراسات في سيتيليم (Cetelem)، كاثرين ساينز (Catherine Sainz) على بعض الأرقام التي تكشف عن علاقة الفرنسيين بمنازلهم:
- تماماً كأهمية الأسرة التي تعد أولويةً بالنسبة إلى 86% من الفرنسيين؛ يحتل المنزل بالنسبة إلى 63% منهم الآن أولويةً على العمل (59%) وأوقات الفراغ بفارق كبير (48%): تقول كاثرين ساينز: "الأسرة والمنزل لا ينفصلان اليوم والثاني مسؤول عن وحدة الأولى".
- يفضل 55% من الذين شملهم الاستطلاع قضاء أوقات فراغهم في منازلهم: "أصبح المنزل مكاناً لتعزيز الحياة الاجتماعية إذ إننا نستقبل فيه الكثير من الزوار كما أن الوسائط المتعددة وشركات توصيل الطلبات المنزلية المختلفة والعمل عن بعد هي عوامل تشجع الناس على قضاء وقت أطول في منازلهم".
- 89% من المشمولين بالاستطلاع يريدون أن يعكس المنزل شخصيتهم وليس وضعهم الاجتماعي: "أصبح المنزل عنصراً أساسياً في الانتقال التدريجي نحو تحقيق الذات فهو يمثل في مرحلة المراهقة مثلاً مكاناً للعبور ولا يوليه الفرد أهمية كبيرة حينئذ أما في مرحلة الشباب فهو يرمز إلى بدء الاستقلالية".
- يرى 95% ممن شملهم الاستطلاع أن شعور الفرد بأن منزله ملاذه بالفعل يتطلب أن يكون مجهزاً ومزيناً بطريقة تتوافق مع تطلعاته: "لما كان المنزل أحد عناصر تحقيق الذات فقد أضحى التجهيز المنزلي من أهم الجوانب التي يسعى الفرد للاستثمار فيها".