هل تعيش حياتك فعلاً أم فقط تحاول النجاة؟

6 دقيقة
وضع النجاة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

الملخص

المشكلة: حين نواجه أحداث الحياة الصادمة، تحاول أدمغتنا حمايتنا بالطرائق كافة؛ ولهذا نعيش على وضع النجاة الذي يعني أن يكون العقل في حالة تحفز دائم، ويصبح الجهاز العصبي مفرط النشاط، ويطلق الكثير من هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.

السبب: لا يوجد سبب محدد للعيش على وضع النجاة لكن هناك بعض العوامل التي يمكن أن تساعد على الوصول إلى هذا الوضع مثل الإجهاد المستمر والتعرض إلى صدمة نفسية كبرى، وتلقي رسائل التهديد والحزن فترات طويلة.

الحل: حتى تستطيع الخروج من وضع النجاة، عليك الاعتراف بمشاعرك وممارسة الرعاية الذاتية والتعرف إلى مصدر التوتر تمهيداً لعلاجه. وحاول خلال هذه المرحلة أن تكون صبوراً على نفسك؛ لأن الخروج من وضع النجاة إلى وضع الحياة الطبيعية يحتاج إلى بعض الوقت.

هل شعرت يوماً أنك تصارع فقط من أجل النجاة؟ يشبه الوضع أن تُبقي رأسك بالكاد فوق الماء وتحاول جاهداً عدم الغرق. إذا سبق واختبرت هذا الشعور، فهو يعني البقاء في "وضع النجاة" (Survival mode)، وعادة ما يُفعّل هذا الوضع في أثناء فترات الحزن الطويلة ومواجهة الصدمات النفسية والتعرض إلى التوتر والضغط النفسي المستمر، إنها حالة تواجه الكثيرين من الناس في مرحلة ما من حيواتهم، وإليكم كيفية التعامل مع وضع النجاة من خلال هذا المقال.

ما هو وضع النجاة (Survival Mode)؟ 

حين تواجه أحداثاً صادمة أو مواقف صعبة، يبذل دماغك كل ما في وسعه من أجل حمايتك؛ ولهذا يُدخلك في استجابة القتال أو الهروب أو التجمد؛ وهي حالة يحاول فيها دماغك وجسدك إعطاء الأولوية لإنقاذك من الخطر؛ إذ يصبح جهازك العصبي مفرط النشاط، ويطلق الكثير من هرمونات التوتر مثل الكورتيزول. وعلى الرغم من أن الوجود في هذا الوضع يكون أمراً طبيعياً في بعض الأحيان، وقد يكون مفيداً في الفترات القصيرة، فإن البقاء فيه مدة طويلة قد يكون ضاراً، ووقتها تدخل حالة يمكن أن نُطلق عليها اسم "وضع النجاة"؛ حيث يكون عقلك في حالة تحفز دائم من أجل حمايتك من التهديدات الحقيقية والمتخيلة، ويمنعك تماماً من الراحة والاسترخاء، ويركز فقط على اجتياز التحديات.

وفي أثناء وجودك في وضع النجاة، يعمل دماغك بطريقة مختلفة تماماً؛ حيث ينتقل من وضع "الدماغ المتعلم" (Learning Brain) إلى "دماغ البقاء على قيد الحياة" (Survival Brain)، وكلاهما يعمل على النحو التالي: 

  • الدماغ المتعلم: هو الذي يستطيع استيعاب المعلومات الجديدة، وعادة ما يكون قادراً على أداء المهام اليومية التي اعتدت عليها دون مشكلات كبيرة، فحين يكون دماغك المتعلم حاضراً، لن تجد تلك المهام مرهقة أو محبطة، وهذا يعني أن الأفكار الجديدة تثير حماسك، وربما تشعر بالانفتاح والرغبة في تجربة أشياء مختلفة وتعلمها. باختصار، إن الدماغ المتعلم هو الدماغ القادر على التطور، وغالباً ما يكون حريصاً عليه.
  • دماغ البقاء على قيد الحياة: هو ما يحدث عندما تواجه الكثير من الأحداث المؤلمة والمرهقة؛ إذ تصبح غير قادر على معالجة الأفكار الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، قد تجد المهام اليومية الأساسية التي كانت سهلة بالنسبة إليك أكثر تعقيداً أو صعوبة. ويمكن القول إن دماغ البقاء على قيد الحياة يعني أن عقلك مشغول جداً بالتأكد من قدرتك على اجتياز الحياة بحيث لا يمكنك قبول أي معطيات جديدة في الوقت الحالي.

وفي هذا السياق، يوضح مختص العلاج النفسي، يوسف مُسلّم، إن دماغ البقاء على قيد الحياة تشبه الإنذار الذي يحاول طوال الوقت أن يذكرك أنك في خطر. تخيل أنك سبق وتعرضت إلى التسمم من وجبة برغر، بعد التماثل للشفاء، سوف يتحفز جسمك وعقلك في كل مرة يرى فيها البرغر أو يشم رائحته، وهذا ما يحدث لك حين يتولى دماغك زمام الأمور؛ إنه يدق ناقوس الخطر تجاه أي محفزات سبق وسببت لك الأذى.

دعوني أحاول تبسيط الأمر، في الأوضاع العادية والطبيعية، يمسك "الدماغ المتعلم" دفة الأمور؛ إذ يكون مسؤولاً عن مهارات حل المشكلات والتنظيم العاطفي والتفكير النقدي ومهارات اتخاذ القرار، وعادة ما يكون الدماغ المتعلم منطقياً وليس عاطفياً؛ حيث يستوعب المعلومات الجديدة ويكون قادراً على الإبداع والإنتاجية.

ولكن حين نتعرض إلى الأحداث المؤلمة أو الضغط النفسي، يتلاشى "الدماغ المتعلم" ويسلم دفة القيادة إلى "دماغ البقاء على قيد الحياة"، وهنا تتراجع المهارات السابق ذكرها لأن دماغك يرى أن معالجة المعلومات سوف تستغرق الكثير من الوقت ولهذا يقرر الحفاظ على سلامتك فقط.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن نتخطى المواقف الأليمة؟

هذه العلامات تخبرك بأنك تعيش وضع النجاة 

عندما تكون قابعاً في وضع النجاة، فأنت تحاول جاهداً إنهاء يومك فقط، فالأمر يتعلق باجتياز الـ 24 ساعة القادمة، وعادة ما يشعر الأشخاص الموجودين هناك بأنهم عالقون ولن يتمكنوا أبداً من الخروج من هذه الحفرة، وهذه أهم العلامات التي تخبرك بأنك تعيش هذا الوضع: 

  • صعوبة اتخاذ القرارات: عندما تكون في وضع النجاة، حتى القرارات الصغيرة يمكن أن تكون مرهقة؛ وذلك لأن عقلك يركز بشدة على التهديدات والمخاوف التي تواجهك إلى درجة أنه يجد صعوبة بالغة في معالجة المعلومات الأخرى، والخيارات التي كانت واضحة في السابق؛ مثل تحديد ما تأكله أو ما ترتديه، قد تبدو مستحيلة.
  • الشعور بانعدام الحافز: أحد الأعراض الشائعة لوضع النجاة هو الافتقار العام إلى الحافز، فالمهام والأنشطة التي كانت تثير اهتمامك قد تشعر الآن بأنها لا تحمل أي معنى ولا ترغب أبداً في الانخراط بها، وهذا ليس كسلًا؛ بل علامة على أن عقلك وجسدك مستنزفان تماماً ويحتاجان إلى فترة راحة.
  • التوتر المستمر: إن التعرض المستمر إلى التوتر، دون أي راحة، هو مؤشر رئيس إلى وضع النجاة. بالطبع قد تحس بالتوتر من وقت إلى آخر؛ ولكن بعدها عليك العودة إلى الوضع الطبيعي؛ أما إذا لم يختفِ التوتر أبداً وبدأ يؤثر في حياتك اليومية، فأنت عالق في وضع النجاة. 
  • عدم القدرة على الاسترخاء: قد يكون عقلك في حالة سباق محموم مع الأفكار؛ ما يصعّب الاستمتاع بالأنشطة الترفيهية أو الاسترخاء بطريقة صحيحة.
  • التقلبات المزاجية المتكررة: قد تلاحظ أن حالتك المزاجية تتغير بسرعة وتصبح عصبياً للغاية بسبب المشكلات الصغيرة، ويمكن أن يكون هذا نتيجة للتوتر المستمر والقلق اللذين يأتيان مع وضع النجاة.
  • التفكير في مهمة واحدة فقط: على الرغم من أن بعض الأشخاص لا يجيدون التعامل مع تعدد المهام، فإن العلامة التي تشير إلى أنك عالق في وضع النجاة هي أنك تشعر بالانهيار إذا كانت هناك مهمتان يجب إنجازهما مثل تفقد البريد الإلكتروني والرد على الهاتف.

وإلى جانب هذه الأعراض النفسية، هناك أيضاً بعض الأعراض الجسدية التي تصاحب وضع النجاة؛ مثل: 

  • زيادة معدل ضربات القلب.
  • جفاف الفم.
  • اضطرابات الجهاز الهضمي.
  • توتر العضلات.
  • اضطرابات النوم. 

ما هو تأثير وضع النجاة في صحتك النفسية والجسدية؟

وضع النجاة هو استجابة طبيعية لتحديات الحياة؛ حيث يعطي عقلك الأولوية لسلامتك وحمايتك من الخطر، وسواء كنت تواجه مشكلات في العمل أو صعوبات مالية، فإن وضع النجاة ينقذك لأنه يجعلك تركز على تجاوز تلك التحديات، ومع ذلك، فإن البقاء في هذا الوضع مدةً طويلة يمكن أن تكون له تأثيرات سلبية في صحتك النفسية والجسدية؛ مثل: 

  • الإصابة بالاكتئاب: يمكن أن يؤدي وضع النجاة إلى الشعور بالقلق والاكتئاب والإرهاق المزمن، ومع مرور الوقت، سوف تصبح المهام اليومية أكثر صعوبة، هذا بالإضافة إلى مشاعر الحزن واليأس وتدني احترام الذات التي تترافق مع الإصابة بالاكتئاب. 
  • ارتفاع ضغط الدم: الضغط النفسي المستمر والشعور الدائم بالتوتر سيؤديان إلى تنشيط الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم؛ ما يجعلك تواجه أعراضاً مثل الصداع والتعب وصعوبة النوم، ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشكلات صحية أكثر خطورة؛ مثل ارتفاع ضغط الدم أو ضعف الجهاز المناعي؛ ما يجعلك أكثر عرضة إلى الإصابة بالأمراض.
  • اللجوء إلى استراتيجيات التكيف غير الصحية: يؤدي البقاء باستمرار في وضع النجاة إلى اللجوء إلى استراتيجيات التكيف غير الصحية؛ مثل الإفراط في تناول الطعام، أو تعاطي المخدرات، أو الانسحاب من التفاعلات الاجتماعية.
  • انخفاض الإنتاجية: عندما يستنزف التوتر المستمر طاقتك العقلية والإبداعية، فسينتج عن ذلك انخفاض إنتاجيتك في العمل، وعلى الجانب الآخر، ستفقد القدرة على الاستمتاع بالأنشطة التي اعتدت عليها.

اقرأ أيضاً: كيف يتذكر جسمك الصدمات النفسية؟وماذا تفعل لتخفيف تأثيرها؟

كيف تتعامل مع وضع النجاة؟

على الرغم من أن وضع النجاة قد يحافظ على سلامتك ويحميك من مخاوفك، فإنه ليس طريقة مستدامة للعيش؛ ولهذا عليك محاولة الخروج من هناك تدريجياً، وذلك عبر اتباع النصائح التالية: 

  • اعترف بمشاعرك: الخطوة الأولى من أجل التعامل مع وضع النجاة هو أن تعترف لنفسك بأنك عالق هناك، وتذكر أن الجميع يمرون بفترات عصيبة في حيواتهم، وأن البقاء في وضع النجاة ليس فشلاًَ شخصياً ولكنه استجابة للتوتر والضغط النفسي؛ لذا اعترف بمشاعرك دون إصدار أحكام واستبدل بالأفكار الانتقادية أفكاراً أكثر لطفاً وتسامحاً.
  • كن صبوراً مع نفسك: تؤكد المختصة النفسية، ستيفاني كريج (Stephenie Craig)، إن الانتقال من وضع النجاة إلى وضع الحياة الطبيعية، يحتاج بعض الوقت؛ ولهذا كن صبوراً، وفي أثناء محاولات الخروج، ضع أهدافاً صغيرة والتزم بها؛ وذلك لأن تحقيق تلك الأهداف سوف يجعلك تشعر بالإنجاز ويعزز ثقتك بنفسك.
  • مارس الرعاية الذاتية: قد يبدو التحرر من وضع النجاة أمراً شاقاً؛ ولكنه ممكن. ابدأ تخصيص وقت للأشياء التي تجعلك تشعر بالاسترخاء، سواء كان ذلك حماماً دافئاً، أو المشي في الهواء الطلق، أو مجرد تمارين التنفس العميق، وتذكر أن ممارسة الرعاية الذاتية يمكن أن تقلل حدة مشاعر التوتر والقلق، ففي الأوقات الصعبة، أذكر نفسي دائماً أن الموقف مؤلم وما زلت بالفعل أحسن بالألم؛ ولكني مع ذلك أحاول احتضان نفسي بلطف.
  • عالج مصادر التوتر: لا يمكنك الخروج من وضع النجاة إذا كان عقلك يشعر أنك لا زلت تواجه الخطر، ولا توجد طريقة للتعافي من آثار التوتر المزمن إذا كان موجوداً في حياتك حتى الآن؛ ولذلك تذكر جيداً أن عليك معالجة مصادر التوتر. على سبيل المثال؛ إذا كان مصدر التوتر لديك هو علاقة مسيئة، فلن تخرج من وضع النجاة إلا إذا قررت أن تمضي قدماً وتترك تلك العلاقة.

في النهاية، إذا كنت ترغب في الخروج من وضع النجاة، فتذكر أن هذه العملية تستغرق بعض الوقت، وفي بعض الأحيان، قد يتطلب منك الأمر طلب المساعدة؛ ربما يمكنك طلبها من صديق يستمع إليك، أو قد تحتاج إلى المساعدة المهنية من المختص النفسي.

المحتوى محمي