أحياناً أشعر أني منغمسة بالكامل في نمط الحياة المتسارع؛ حيث تحاصرني من كل مكان أصوات كثيرة لا تهدأ أبداً، مثل ضجيج جهاز التلفزيون وإشعارات مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني والرسائل الصوتية، ومهما حاولت، لا شيء يمكن أن يوقف ثرثرة دماغي بالمهام التي تلاحقني أو يهدئها.
محتويات المقال
أدرك تماماً أني بحاجة إلى بعض الراحة أو السكون وأن تكف عجلة دماغي عن الدوران قليلاً، ولكن لم أكن أعلم كيف أهدئ نفسي حتى وجدت أمامي فكرة هذا المقال؛ إذ كشفت دراسة بحثية حديثة نشرتها مجلة الجزيئات الحيوية (Biomolecules) في فبراير/شباط 2025 أن التأمل التجاوزي (Transcendental Meditation) قد يُساعدك على الاسترخاء على المدى القصير، ولكن المواظبة عليه قد تحميك من آثار التوتر المزمن والشيخوخة، فما هو التأمل التجاوزي؟ وكيف يمكن أن يؤخر آثار الشيخوخة؟ الإجابة عبر هذا المقال.
ما هو الجديد فيما توصلت إليه الدراسة؟
أكدت الدراسة البحثية السابق ذكرها أن الأفراد الذين يمارسون تقنيات التأمل التجاوزي على المدى الطويل يُظهرون علامات بيولوجية أقل للشيخوخة والتوتر، وقد قارن الباحثون المشاركون في الدراسة بين مجموعتين من المتطوعين وفقاً لعدة معايير، مثل الجينات المرتبطة بتقدم السن والوظائف الإدراكية ومستويات هرمون الكورتيزول.
وتبين من نتائج الدراسة انخفاض الجينات المرتبطة بتقدم السن وانخفاض مستوى الكورتيزول لدى مجموعات التأمل التجاوزي، وهو نوع من التأمل يرتكز على تكرار كلمة بعينها في ذهنك. علاوة على ذلك، قاس الباحثون الوظائف الإدراكية عن طريق تحليل تخطيط كهربية الدماغ (EEG)، وأظهرت نتائج التحليل أن ممارسي التأمل التجاوزي الأكبر سناً كانت سرعة معالجة المعلومات لديهم قريبة منها لدى المشاركين الأصغر سناً، ما يعني عدم تدهور الوظائف الإدراكية لديهم.
وأوضح الباحث المشارك في الدراسة، كينيث والتون (Kenneth Walton) أن هرمون الكورتيزول له دور محوري في استجابة الجسم للتوتر، وترتبط مستوياته المرتفعة بمجموعة من المشكلات الصحية المرتبطة بالسن بالإضافة إلى التدهور المعرفي، بينما يشير انخفاض الكورتيزول إلى أن الأشخاص المتأملين لديهم قدرة أكبر على التكيف ومرونة أعلى، ما يُسهم في تعزيز الصحة العامة وطول العمر.
واستندت هذه الدراسة على أبحاث سابقة أجرتها جامعة مينيسوتا الأميركية (the University of Minnesota) تشير إلى الفوائد الصحية لتقنيات التأمل التجاوزي، بما فيها تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وتحسين الصحة النفسية، وذلك من خلال دراسة مجموعة من المؤشرات البيولوجية والمعرفية والنفسية المتعلقة بالتوتر، وتُقدم هذه الدراسة نظرة ثاقبة توضح كيفية تأثير التأمل بصورة شاملة في الصحة على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: فوائد التأمل للصحة النفسية
ما هو التأمل التجاوزي؟
التأمل التجاوزي هو إحدى تقنيات التأمل ترتكز على تجنب الأفكار المُشتتة وتعزيز حالة من الاسترخاء الذهني، وحين تمارس هذا النوع من التأمل يجب عليك أن تُكرر كلمة محددة في ذهنك بصمت، ومن ثم تركز على تهدئة جسمك حتى يُصبح مسترخياً تماماً ويهدأ دماغك لكنك في حالة يقظة تامة. وهناك العديد من الفوائد التي يحققها التأمل التجاوزي، منها على سبيل المثال:
- تخفيف حدة التوتر والقلق.
- زيادة الشعور بالراحة والطمأنينة.
- تحسين قدرات الذاكرة.
- تعافي الجهاز المناعي بعد التوتر.
- تقليل الالتهابات.
- تحسين جودة النوم.
- انخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب.
- علاج اضطرابات ما بعد الصدمة والإدمان.
لماذا تؤدي المواظبة على التأمل إلى تحسين الصحة النفسية وتأخير الشيخوخة؟
يرفع التوتر الذي يصيبك يومياً، سواءً كان نفسياً أو عاطفياً، مستويات الكورتيزول لديك، ما يؤثر في حالتك المزاجية وعملية الشيخوخة، حيث يمكن أن يؤدي ارتفاع مستويات الكورتيزول إلى جفاف الجلد وترققه وتسريع الإصابة بالشيخوخة؛ فحين يداهمك الإحساس بالتوتر يتزايد معدل ضربات قلبك، ويصبح تنفسك أثقل وأسرع، كما تتباطأ عملية الهضم لديك، ومن ثم يطلق جسمك الغلوكوز والدهون في مجرى الدم لمساعدتك على التعامل مع المواقف العصيبة، ومع مرور الوقت تُنشّط الاستجابة الالتهابية للجسم؛ كل هذه العوامل تضر صحتك الجسدية وترفع خطر إصابتك بأمراض القلب وضغط الدم.
أما المواظبة على ممارسة التأمل فتُقلل مستويات التوتر، ما يُعزز الصحة النفسية والجسدية. ومن جهة أخرى، يؤكد الطبيب النفسي، بندر آل جلالة، أن هناك خلايا طبيعية قاتلة للفيروسات فيجسمك، وهي جزء من جهازك المناعي، وهي لا تعمل على نحو صحيح حين تشعر بالضغط النفسي؛ وحتى تحافظ عليها عليك ممارسة التأمل يومياً.
ويمكن القول إن التأمل يُبطئ شيخوخة الدماغ، إذ أكدت دراسة بحثية نشرتها مجلة التصوير العصبي (NeuroImage) أن أدمغة المتأملين أصغر بـ 7.5 سنوات من أدمغة من لا يمارسون التأمل، لأن التأمل يحفز نمو أنسجة المخ.
وبما أن الشيخوخة الطبيعية تُعرف بفقدان مادة الدماغ، فقد أوضحت الدراسة البحثية أن أدمغة المتأملين تتميز بأجزاء قشرية أكثر سمكاً وترابطاً وتعقيداً وحجماً، ما يعني أن للتأمل أثر وقائي ضد ضمور الدماغ المرتبط بالسن، كما أن التأمل يزيد المادة الرمادية التي تحتوي على عدد كبير من الخلايا العصبية، ما يسمح بمعالجة المعلومات وتحفيز مناطق التعلم والذاكرة.
اقرأ أيضاً: كيف يساعد التأمل على مقاومة التوتر؟ دراسة حديثة تجيب
5 نصائح لتجعل ممارسة التأمل جزء من روتينك اليومي
هل سبق وحاولت ممارسة التأمل ووجدته صعباً؟ الحقيقة أنه قد يكون صعباً بالفعل خاصة إذا حاولت قمع أفكارك أو الهروب منها بعيداً، وأحياناً قد تحاول التوقف تماماً عن التفكير. ودعني أخبرك أن من أكبر المفاهيم الخاطئة حول التأمل هو أنه يجب عليك تصفية دماغك تماماً، وإن لم تفعل تكون قد فشلت، وهذا غير صحيح؛ فتدريب الدماغ على الهدوء والاسترخاء يحتاج إلى بعض الوقت، ولذلك يرتكز التأمل على الممارسة اليومية. إليك أهم النصائح التي تساعدك على دمج التأمل في روتينك اليومي:
1. ابدأ بخطوات صغيرة
تنصح المختصة النفسية، سادي بينغهام (Sadie Bingham) بممارسة التأمل مدة 5 دقائق 3 أيام في الأسبوع، ثم زيادة الدقائق تدريجياً مع تحول التأمل إلى جزء ثابت من روتينك، في البداية قد لا تشعر بالهدوء أو الاسترخاء، وهذا طبيعي، فقط اجعل هدفك هو تخصيص 5 دقائق للجلوس مع أفكارك.
2. اختر الوقت المناسب
كنت أظن في البداية أن الصباح الباكر هو الوقت المناسب للتأمل، وفيما بعد اخترت المساء قبل الخلود للنوم. ولكن في الحقيقة لا يوجد وقت مثالي للتأمل، وإذا حاولت أن تُجبر نفسك على التأمل في وقت لا يتناسب مع جدولك ومسؤولياتك، فغالباً ما ستشعر بالإحباط وفقدان الحافز للاستمرار. لذلك اختر الوقت الذي يناسبك وحاول الالتزام به، فالاستمرارية تُساعدك على دمج التأمل في روتينك اليومي.
3. استرخِ
إذا سبق وقرأت عن التأمل فأنت بالتأكيد تعرف صور الوضعية التقليدية لممارسته، والحقيقة أن هذه الوضعية ليست مريحة للجميع، وسيصعب عليك التأمل إذا كنت تفعل شيئاً يُسبب لك إزعاجاً جسدياً. لذلك اتخذ وضعية يمكنك الثبات عليها، وتشعرك بالراحة والطبيعية في الوقت نفسه، على سبيل المثال، الجلوس على كرسي أو الاستلقاء، كلاهما مناسب.
فكّر أيضاً في إنشاء مساحة تأمل مريحة ومهدئة داخل منزلك، أو اتبع طقوساً خاصة بهذه العملية، يمكنك على سبيل المثال أن تدمج الشموع والموسيقى الهادئة من أجل تعزيز التأمل، وإذا كنت لا تحب البقاء ثابتاً فجرب التأمل في أثناء المشي.
اقرأ أيضاً: 3 أساليب تساعدك على تصفية ذهنك عند ممارسة التأمل
4. اربط التأمل بعادة يومية راسخة
غالباً ما تكون الحياة مليئة بالانشغالات والمسؤوليات والمهام اليومية التي لا تنتهي، ما يجعلك تنسى ممارسة التأمل أحياناً، يمكنك في هذه الحالة أن تضبط منبهاً على هاتفك. أو حاول ربط التأمل بعادة يومية راسخة، ما رأيك لو مارست التأمل مع غسل أسنانك على سبيل المثال؟
5. كن صبوراً ولطيفاً مع نفسك
حين تبدأ عادة جديدة مثل التأمل اليومي، قد يداهمك الشعور بالإحباط أو اليأس خاصة إذا لم تسر الأمور مثلما خططت لها، ولكن تأكد أن التأمل يحتاج إلى بعض الوقت؛ سوف تشعر بالهدوء والاسترخاء أحياناً، وفي أحيان أخرى ستتزاحم الأفكار في رأسك. لذلك كن صبوراً وتلطف مع نفسك ولا تتوقف عن التأمل، وفي حال استمر شعورك بالتوتر والقلق اطلب المساعدة من الطبيب النفسي المتخصص.