هل الانتقام فكرة جيدة أم سيئة؟

الانتقام
shutterstock.com/LesdaMore
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الانتقام عاطفة قوية ومذهلة. ولكن هل يمكنها أن تطفئ نار غضبنا أو تروي عطشنا اليائس للعزاء؟ أم أنه من المؤكد أنها سترتد علينا بنتائج عكسية؟

  • الرغبة العارمة بالانتقام
  • قوة التمرد
  • من الشعور بالذنب إلى تأكيد الذات
  • السعادة بدلاً من الانتقام
  • كريستيل، 42 عاماً: “تبوّلت على قبره”
  • آن، 43 عاماً: “أكبر انتقام لي هو ابتسامتي!”

عندما اكتشفت أن شريكها كان يخونها مع صديقتها، لم تتردد جولييت لحظة بالانتقام، تقول الآن موضحة: “أخذت المقص الكبير من المطبخ وقمت بقص الستائر وربطات العنق والقمصان والبدلات. وضعت أشيائي في حقيبة وغادرت، ولم أره منذ ذلك الحين. كانت تلك المرة الأخيرة التي زرت فيها شقته، أردت تدمير حياته لأنه دمّر حياتي. شعرت في تلك اللحظة براحةٍ كبيرة. لقد آلمتني خيانته كثيراً… كنت أحب هذا الرجل حقاً”.

هل للانتقام “حلاوة” للقلب كما كتب اللورد بايرون في كتابه دون جوان؟ الأدب مليء بالأبطال المنتقمين، مثل ميديا​​.. هاملت.. إدموند دانتيس، والذين يأخذون تارةً دور الضحية وتارةً أخرى دور الجلاد. إذا تحدث بودلير عن الانتقام باعتباره “امرأة معذبة ذات أذرع حمراء قوية”، فذلك لأن له بعداً مأساوياً يصعب على الطبيعة البشرية تجنبه. عاطفة الانتقام تطغى على من تتملكه، ويقول أغلبهم كلاماً من قبيل: “بقيت طوال الليل أفكر بالانتقام، لم أستطع النوم”، “كنت أتقيأ، لم أستطع تناول الطعام، أشعر بغصةٍ في معدتي تزداد كل يوم”.

يقول المحلل النفسي جيرارد بونيت: “الانتقام الجسدي هو آلية رد فعل أساسية متأصلة في اللاوعي. لا يوجد انتقام بدون دافع”. إن وجودنا مبني على ردود الفعل على كل ما نتلقّاه عندما نكون أطفالاً. وكأطفال، فإن ما نختبره يثير فينا الرغبة في رد الجميل للآخر، سواء كان سيئاً أو جيداً؛ الشعور بالذنب والمهانة وكل ما نشعر به، نريد أن نعيده إلى من تسبب به لنا. المعاملة بالمثل متأصلةٌ في اللاوعي لدينا، أي يجب أن يشعر الشخص الآخر بما قد نشعر به. هناك رغباتُ انتقام صغيرة مدفونة فينا، تستيقظ عندما تُستثار كل مرة، وهي تؤثر على حياتنا النفسية. ولكن يجب علينا التمييز بين الرغبة الصغيرة بالانتقام، والتي تُعتبر رد فعل اندفاعي على الكراهية، وبين الرغبة الجامحة بالانتقام، والمتجذرة في ألمنا بقوة، وتؤذينا بشدّة”.

الرغبة العارمة بالانتقام

قد تتبلور عاطفة جياشة في داخلنا تجاه تجربة مربكة ما مررنا بها. يحدث شيء ما يؤثر فينا ويثير غضبنا. يقول الفيلسوف “جان فرانسوا بوسي” موضحاً: “نقطة بداية الانتقام هي شعلة الغضب، الشعور بالإهانة الذي لا يُطاق. لقد ولدنا مع فكرة الرغبة الجامحة بالرد على الإهانة، وقبل كل شيء عدم ترك هذا الشعور بالإهانة يمر مرور الكرام كي لا يُقال بأننا جبناء. الأمر مرتبط بالاستمرار بالشعور بألم لا يُطاق ولا يخبو بمرور الوقت. بطريقةٍ ما، حصل الضرر الذي لا مفر منه”. يغذي الغضب الرغبة في الانتقام وفي بعض الأحيان تنفيذه، لأنه يسمح للألم الذي مررنا به أن يتحول إلى عاطفة ممتعة. ووفقاً لأرسطو: “كل شعورٍ بالغضب يتبعه متعة توقّع الانتقام. هناك متعةٌ حقاً في التفكير بأننا سنحصل على ما نريد.. متعةٌ معينة تتبع الغضب لأننا نختبر الانتقام في أذهاننا، نمثلها لأنها تجلب لنا المتعة، كتلك التي نشعر بها في الأحلام تماماً”.

قوة التمرد

لعدة سنوات، تعرضت ماريون للإذلال على يد رجل كانت تحبه كثيراً، تقول: “كانت علاقتنا فوضوية، لكنني لم أستطع العيش بدونه. استمرت علاقتنا أربع سنوات، كانت تزدهر أحياناً، وتفتر أحياناً أخرى. أخبرني في أحد الأيام أنه سيعود إلى بلده ليتزوج، فجنّ جنوني من الغضب. كان يعيش في الطابق الثالث، تسلقت الشرفات إلى أن وصلت إلى شقته، لقد ترك باب شرفته مفتوحاً… قمت بتدمير كل شيء، مزقت سريره وأريكته وحطمت تلفازه وجهاز لعبة الفيديو. ثم غادرت، شعرت بالراحة، كأن هماً انزاح عن كاهلي. كان هذا الانتقام فرصةً بالنسبة لي لرد الاعتبار لنفسي لأول مرة”.

بصرف النظر عن الارتياح الذي يمكن أن يجلبه الانتقام، فإن الانتقام لديه القدرة على جعل الشخص يشعر بتحسن تجاه نفسه بعد الشعور بالإذلال أو الإهانة أو الحرمان، أي يسمح له باستعادة كرامته المسحوقة. يشرح الفيلسوف ميشيل إرمان: “العدالة تكون بمعاقبة المذنب، والثأر يعيد الحقّ للضحية”. بالنسبة إلى جان فرانسوا بوسي، فإن الانتقام يجسد أيضاً “دائرة العدالة القصيرة”، ويعتبرها وسيلة لفرض احترامها، واحترام الفضيلة والقانون والحقيقة، وذلك على يد المنتقم الذي يرى نفسه وصياً أو حارساً على معبد المثل العليا المُنتهكة.

لكن كيف نفسر أن عدداً كبيراً من عمليات الانتقام يتبعها أيضاً مشاعر الإحباط والحزن والندم وعدم القدرة على المضي قدماً؟ يقول أوليفييه، وهو عازب منذ فترة طويلة، عن تجربته في الانتقام: “لقد استغرق الأمر مني سنوات للرد على إهانة امرأة تركتني فجأة. لقد انتقمت منها بإهانتها في إحدى الحفلات، فكشفت للأصدقاء عن كل الأشياء المشينة التي قالتها لي عنهم. سأتذكر دائماً وجهها المنكسر، كنت مبتهجاً حقاً عندما غادرت. لكنني كنت مهووساً بها لفترة طويلة، ولم يهدأ ألم الانفصال عنها أبداً بعد ما حدث”.

درس باحثو علم النفس الأميركيين، كيفن كارلسميث وتيموثي ويلسون ودانييل جيلبرت، الآثار العاطفية للانتقام بالنسبة لمن يقع عليهم أو على من ينفذوه. وقد خلصوا إلى أن الانتقام يمكن أن يرسّخ ذكرى معاناة المرء في الماضي، وإن معاقبة الجاني تغذي الاجترار وتميل إلى إعاقة إمكانية تحويل الألم إلى إشباع. ووفقاً لجان فرانسوا بوسي، فإن فكرة أننا سنريح أنفسنا عبر الانتقام هي “ساذجة للغاية”. لأن الانتقام في الأساس هو انفعال للذات. نحن ننكأ جرحنا إلى ما لا نهاية، تماماً كما نفتح جرحاً قديماً بسبب المتعة التي تولدها الحكة، ونغذي الشعور بالإهانة مجدداً.

من الشعور بالذنب إلى تأكيد الذات

بدلاً من التخفيف ومحاولة الشفاء منه، تقترح الفلسفة والتحليل النفسي الاعتماد على الألم الذي تم تحمله دون السعي إلى معاقبة من تسبب به لنا. يستحضر جيرار بونيه “الانتقام الإيجابي” أو الناجح، والذي يتكون من تحويل القطب السلبي للعاطفة إلى قطب إيجابي: “في هذا النوع من الانتقام، يصبح تأثير عاطفة الانتقام قوة مقدّرة لبناء شيء ما: فتنقلنا من الشعور بالذنب إلى تأكيد الذات، ومن الخزي إلى الكبرياء، ومن الحزن إلى الفرح. ويبقى هذا الانتقام في داخلنا، يأتي منا ولا يُفرض على الآخرين. إنه النقيض التام للانتقام الغريزي الذي يترسخ في عقلنا بفكرة “أريدك أن تشعر بما شعرت به”، والذي لا تخبو شعلته مطلقاً. ولكن لتحقيق ذلك، يجب أولاً أن نكون قادرين على تحديد الضرر الذي حدث بوضوح حتى لا نسمح لأنفسنا بالتلاعب به. هذا الانتقام “الإيجابي” يتعارض مع دائرة الانتقام الدموية الأبدية كما تتجلّى في مسرحية هاملت لشكسبير. وهذا ما يخبرنا به فيلم باسكال بونيتسر الأخير (Tout de suite maintenant)، حيث تنتقم محللة مالية شابة دون قصدٍ لوالدها عن حادثةٍ مروعةٍ مر بها قبل عشرين عاماً. قادها اكتشافها المؤلم عن سر والدها وولادة علاقة حب مع أحد أبطال العمل أخيراً إلى اتخاذ مسار الانتقام الإيجابي. “تكمن الصعوبة في تحويل طاقة المعاناة، في إيجاد رغبة شخصية تسمح بتأكيد ذاتك أمام الآخرين وإظهار أفضل ما لديك. ويعتمد هذا الاختيار على كل شخص وعلى التجربة التي مرّ بها”. يستشهد جيرار بونيه بِـ “بيير” كمثال، والذي عالجه لعدة سنوات: “عندما كان طفلاً، عانى بيير من مرض خطير للغاية وقضى وقته في المستشفى، وقد اعتقد أنه تعافى بفضل كلمات والديه المطمئنة، وبفضل التفسيرات التي قدموها له حول مرضه والحاجة إلى قبول علاجه. وقد خلص بعد سنوات إلى أن ما حدث هو وراء رغبته في أن يصبح مدرساً، لأن الكلام الطيب والمعرفة كانا السبب في شفائه عندما كان صغيراً. كان على وشك تحقيق رغبته، لكن زملاءه الخبثاء منعوه من الوصول إلى الهدف الذي كان يطمح إليه في إحدى المدارس الكبيرة. اقترح مديره في ذلك الوقت عليه أن ينتقم منهم، لكنه، وبعد التفكير ملياً في الأمر، فضّل الرحيل والشروع في إنشاء مدرسةٍ خاصةٍ به أصبح فيها أستاذاً الآن”. هذا الاختيار، حسب المحلل النفسي، هو خير مثال لما يسميه “الانتقام الإيجابي”، أو “الانتقام الناجح”.

السعادة بدلاً من الانتقام

تحقيق السعادة أشبه بالانتقام حسب جان فرانسوا بوسي. في رأيه، إنه الطريق الأكثر استحساناً للمضي قدماً. لتحقيق ذلك، يعتمد على تعاليم الفيلسوف اليوناني سينيكا ويقترح المضي قدماً على مراحل. الخطوة الأولى هي كسب الوقت لتهدئة غضبك: “يجب ألا تتفاعل أبداً في اللحظة الحالية. الوقت هو أحد علاجات الانتقام. حيث يتعلق الأمر بعدم ترك الشعور بالغضب يسيطر علينا حالياً، حيث غالباً ما يخفّ غضبنا في اليوم التالي للإهانة التي نتلقاها”. الخطوة الثانية تطبيق علاج الحكمة: “تحثنا الفلسفة على النظر بموضوعية إلى الحقائق ومحاولة فهم دوافع الآخرين. لماذا أضروا بنا؟ يتعلق الأمر بالخروج من أنفسنا لتنقية الأجواء، والخروج من فخ تقدير الذات”. أخيراً، في المرحلة الثالثة، ننتقل تلقائياً إلى الانتقام: “في مقابل الانتقام الذي يدمر هدفه والذات والعالم، نوجه أنفسنا نحو حلّ سلمي، تحقيق مطرد لرغباتنا. نحن نتبع منطقاً بناءً هنا: هدفنا هو تحقيق غاياتنا دون القلق من الضرر الذي لحق بنا ومن مرتكبيه. هذا النوع من الانتقام يتسامى عن الانتقام بمعناه التقليدي، الانتقام الذي قال عنه الشاعر الإنكليزي جون ميلتون: “حلوٌ في البداية، ولكنه مرٌّ بعد وقتٍ طويل”.

فيما يلي شهادات مقتبسة من مقابلات أجرتها الصحفية والكاتبة فاليري بيرونيت.

كريستيل، 42 عاماً: “تبوّلت على قبره”

“لقد اعتدى عليّ زوج والدتي طوال طفولتي. عندما تمكنت أخيراً من تقديم شكوى ضده، كانت التهمة قد سقطت بالتقادم، ابتعدت عائلتي بأكملها عني. أمضيت السنوات القليلة الماضية بين الحياة والموت، من علاجٍ لآخر. لا يزال جسدي يعاني من الرعب الذي سببه له هذا اللقيط. لقد حلمت ألف مرة أنني أدق بابه حاملةً معي بندقية كلاشينكوف، وأطلق النار عليه بمجرّد أن يفتح لي، كما أطلق عليّ النار سابقاً، أو أرمي بالقذارة أمام بابه كما رماها بداخلي. عندما مات، كنت أعلم ما علي فعله. سمحت لهم بدفنه. ثم ذهبت إلى قبره ليلاً بعد ثلاثة أسابيع، وتبولت على الأشياء التي تركتها أمي وأختي على قبره، وكتبت على شاهدة قبره “مغتصب الأطفال، اذهب إلى الجحيم”. عندما اتصلت بي الشرطة بعد بضعة أيام بناءً على طلب والدتي، شرحت لهم أن ما فعلته لا يُقارن مطلقاً بالألم الذي سببه لي. أغلقت الشرطة التحقيق. أعتقد أني قد اقتربت من تحقيق انتقامي، ولكني لم أشفِ غليلي بعد”.

آن، 43 عاماً: “أكبر انتقام لي هو ابتسامتي!”

“لم يعاملني الرجل الذي أحببته بجنون بازدراء وقسوة وعنف فقط، بل فعل كل ما بوسعه لتدميري. سكنتني كراهية شديدة لشهورٍ طويلة، وكانت لدي رغبةٌ جامحة في الانتقام منه بأي طريقة، كأن أتقدم بشكوى ضريبية أو تلفيق تهمةٍ ضده… ولكني أدركت أخيراً أن الشيء الوحيد الذي من شأنه أن يريحني حقاً هو خنقه وضربه وذبحه بكلّ ما للكلمة من معنى، لأنه ذبح روحي. ولكنه أقوى مني ولا أستطيع القيام بذلك. لم أتوقف عن كرهه يوماً، لكنني أدركت أن ما فعله بي لا يمكن إصلاحه. ليس من المقدر لي أن أكون من ينتقم منه، أنا متأكدةٌ من أن القدر سيتكفّل بذلك بدلاً عني، وآمل أن أكون موجودةً حينها لأشهد ذلك. وإلى ذلك الحين، قررت أن أنساه وأركّز على نفسي وأصبح أفضل، فنحتت جسمي وأصبحت أقوى. لا لم يدمرني، أوقعني أرضاً فقط، ووقفت مجدداً. لقد استعدت عافيتي تماماً، وهو يرى ذلك بأم عينه؛ إذ نلتقي ثلاث مراتٍ أسبوعياً في صالة الألعاب الرياضية. أعظم انتقام لي هو شكلي المذهل. وابتسامتي!”.

المحتوى محمي !!