ملخص: تفرض علينا الحياة أحياناً اختياراً واحداً محدداً بينما نريد شيئاً آخرَ مختلفاً تماماً، وكلما اتسعت الهوّة بين ما لدينا وما نريد للحصول عليه، يزداد ألمنا وإحباطنا. وعلى الرغم من أن التعامل مع الأيام الثقال في الحياة ليس سهلاً على الإطلاق، فإن ثمة ما يمكن فعله لتجاوز هذه الأوقات بأقل الخسائر الممكنة.
محتويات المقال
نمو ما بعد الصدمة
كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عام 1888: "من الحياة إلى الحرب؛ ما لا يقتلني، يجعلني أقوى". أليس هذا صحيحاً؟ حسناً، بعيداً عن الفلسفة، لننظر في علم النفس؛ إذ وعلى الرغم من ارتباط الأحداث المؤلمة بالمشاعر السلبية التي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تطور اضطرابات ما بعد الصدمة، فإنها تؤدي في أحيان أُخرى إلى تغيير نفسي إيجابي في حياة الفرد وشخصيته، أو ما يسمَّى في علم النفس بـ "نمو ما بعد الصدمة" (Post-traumatic growth)؛ وهي ظاهرة وصفها عالما النفس ريتشارد تيديشي (Richard Tedeschi) ولورانس كالهون (Lawrence Calhoun) لأول مرة في التسعينيات من القرن الماضي.
فما يحدث فعلاً عند بعض الأشخاص الناجين من المآسي والأيام الثقال أنهم يختبرون إحساساً جديداً بالقوة الشخصية والنفسية، ويكتسبون تقديراً أعمق للحياة، ويطورون علاقات أوثق مع أحبائهم. لماذا يحدث ذلك كله؟ لأن المآسي والمنعطفات الحادة في الحياة قد تكون قوية جداً إلى درجة أنها تزعزع معتقدات الناس الراسخة، وتدفعهم نحو التفكير في أنفسهم وعلاقاتهم والعالم بطرائق مختلفة كلياً.
لا يعني هذا أن نمو ما بعد الصدمة يقلل من وطأة ما تمر به، أو ينفي المعاناة والضيق المرتبطَين بالمآسي والصعوبات، ولا يفترض طبعاً أن الأحداث المؤلمة جيدة وتؤدي إلى السعادة؛ وإنما يفترض أن الشدائد قد تؤدي إلى تغييرات في فهم الذات والآخرين والعالم.
تستغرق عملية النمو بعد الصدمة الكثير من الوقت والطاقة والنضال لكنها تحدث، ويختبرها نحو نصف إلى ثلثَيّ الأشخاص الناجين من الصدمات. في هذا المقال، سوف نستعرض أهم النصائح التي من شأنها أن تساعدك على التعامل مع الأيام الثقال على نحو أفضل ومواجهتها بثقة أكبر واجتيازها بأقل الخسائر الممكنة.
اقرأ أيضاً: عقدة الناجي: لماذا نجوت أنا دون الآخرين؟
كيف تنجح في تجاوز الأيام الثقال؟
قبل أي شيء، لا تظنّ أن الحساسية الشديدة للاضطرابات العاطفية وصعوبة التعامل مع الأيام الصعبة هو ضعف شخصي فيك. ليس الأمر كذلك، فالمرونة؛ أي القدرة على تحمل مشاعر التوتر والقلق والحزن التي تصاحب الشدائد، ليست صفة ثابتة تولد مع الإنسان؛ وإنما عملية مستمرة تتطلب جهداً لبنائها ووقتاً وصيانة أيضاً حتى تتبلور على النحو الأمثل.
سيساعدك بناء المرونة في الحفاظ على نظرة إيجابية، ومواجهة المستقبل الغامض بخوف أقل، وتعزيز احترامك لذاتك، وتحسين مهارات التواصل لديك، خصوصاً تحت الضغط، وأول نصيحة لتتجاوز الأيام الثقال هي أن تتقبّل ما يحدث.
1. تقبَّل ما يحدث
هل ترفض الاعتراف بحقيقة ما يحدث، أو تنكر الأزمة التي تمرّ بها؟ إن لحالة الإنكار بعض الإيجابيات أحياناً؛ مثل إتاحة الفرصة للتأقلم مع الصدمة؛ لكن الاستمرار في الإنكار لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الألم، وتقويض عملية التكيف مع الظروف الجديدة، وعرقلة عملية البحث عن حلول مناسبة للوضع الجديد. بالمختصر، الإنكار المستمر يجهض عملية الشفاء.
عليك تقبُّل أن الحياة لا يمكن التنبؤ بها، وأن التغيير جزء لا مفر منه. نعم، مؤلمٌ هو مرض الأحبة، ومزعجة هي الأزمات المالية، وخطِرة هي الحروب؛ لكنها أمور تحدث في الحياة في أي وقت ومع أيٍ كان. توقّع ذلك، واستعدّ له، وتقبّله.
وفي هذا السياق، تؤكد المختصة النفيسة حصة بنت فهيد مقولة الطبيب ديباك شوبرا (Deepak Chopra) التي مفادها: "عندما يتصالح الإنسان مع تناقضات الحياة كلها، ويكون بإمكانه تجاوز المحن والتنقل بين ضفتيّ الألم والسرور بكل يسر، مختبراً الحالتين معاً، دون الانجراف مع حالة دون أخرى، يكون قد بلغ الحرية".
فالتذمر والشكوى الدائمة حول الظروف الخارجة عن إرادتنا، لن يؤديا إلى سوى استنزاف الطاقة وزيادة الشعور بالقلق واليأس؛ في حين أن تقبُّل ما يحدث، يحررنا، ويجعلنا نركز طاقتنا على ما يمكننا أن نتحكم به. كيف؟
اكتب قائمة بالأحداث التي لا يمكنك التحكم بها، وامنح نفسك الإذن بألا تقلق بشأنها، ثم ركز على ما يمكنك القيام به. على سبيل المثال؛ إذا فُصلت من العمل، فأنت لن تستطيع تغيير مجرى الأحداث؛ لكن يمكنك التحكم في مقدار الوقت والجهد الذي تبذله في البحث عن عمل آخر، أو تحسين مهاراتك من أجل الفرص المستقبلية. أما إذا مرِض أحد الأحبة مرضاً عُضالاً، فقد تكون محاولة السيطرة على المرض أو إيجاد العلاج الشافي أمراً خارجاً عن سيطرتك؛ لكن ما زلت تستطيع إمداد مَن تحب بأكبر قدر ممكن من الدعم العاطفي.
اقرأ أيضاً: كيف تنجح في تجاوز محن الحياة: دروس مستخلَصة من 5 قصص حقيقية
2. اسمح لمشاعرك بالخروج
قد تعتقد أن اجتياز الأيام الثقال يكون بتجنب مشاعر الألم والحزن ووضع قناع الشجاعة على الدوام؛ لكن المشاعر غير السارّة موجودة، سواء اعترفت بها أو لا، ومحاولة منع مشاعرك من الظهور ستؤدي إلى خلق المزيد من المشاعر السلبية، وزيادة التوتر، وتأخير قبول الوضع الجديد، ومنعك من المضي قدماً. لذلك؛ تعرّف إلى مشاعرك واعترف بها واسمح لها أن تعتريك.
على سبيل المثال؛ إذا فقدت وظيفتك، فلا بأس أن تعترف بأنك غاضب أو منزعج أو خائف أو ترغب في الانتقام. خصص 15 دقيقة يومياً للشعور بعواطفك دون السماح لعقلك بالتدخل؛ دوّن أفكارك ومشاعرك، وابكِ إن شعرت برغبة في ذلك، فالبكاء يساعد على تخفيف التوتر ويحسِّن الحالة المزاجية.
اسمح لنفسك بالحزن، فسواء فقدت عزيزاً أو خسرت عملاً أو واجهت ظرفاً مريراً، تقبل مشاعر الحزن، واعترف بالخسائر، وأقم الحداد عليها. خُذ وقتك في ذلك، وفكِّر في التحدث إلى شخص تثق به عمّا تمر به، فذلك قد يخفف من وطأة المحن.
3. تعلّم كيف تدير مشكلاتك
قبل القنوط واليأس، فكّر في الحلول الممكنة لمشكلاتك جميعها، وبمجرد أن تحدد قائمة الحلول الممكنة، أنشِئ خطة قابلة للتنفيذ موضحاً الأهداف والخطوات التي عليك اتباعها لتنفيذ الحل. إذا كانت مشكلتك أكبر من أن تتعامل معها دفعة واحدة، فحاول تقسيمها إلى أجزاء أصغر على نحو يجعلها أكثر قابلية للإدارة.
أما إذا عجزت عن إيجاد حل، فاطلب المشورة من صديق تثق به أو أحد أفراد الأسرة أو خبير متخصص، وابحث عن معلومات إضافية عن هذا الموضوع. ولا بأس أيضاً ان احتفلت بالإنجازات الصغيرة التي تحققها في طريق الحل؛ لأن النجاحات والمكاسب الصغيرة تمنحك استراحة المحارب من التوتر والسلبية اللذين تواجههما.
اقرأ أيضاً: 7 طرق فورية لتحسين حالتك المزاجية
4. تواصَل مع المحيطين بك واطلب دعمهم
يميل بعض الناس إلى الانسحاب والانطواء على نفسه عندما يواجه تحديات صعبة في الحياة؛ نتيجة كبريائه، أو تفادياً لأن يصبح عبئاً على أصدقائه أو أحبائه، أو هكذا يظن؛ لكن التواصل مع العائلة والأصدقاء يساعد على تخفيف التوتر، ويعزز الحالة المزاجية، ويسهم في تعزيز فهم التغيير والاضطراب اللذين يشعر بهما.
لذلك؛ تواصَل مع دائرتك الاجتماعية، سواء وجهاً لوجه أو عبر الهاتف أو وسائل تواصل الاجتماعي، ولا تتجنب الأنشطة الاجتماعية، وفكّر في بناء صداقات جديدة وتحسين شبكة الدعم الخاص بك، وابقَ بعيداً عن الأشخاص السلبيين الذين يضخمون المشكلات، أو يستهزئون بمشاعرك، أو ينتقدونك ويحكمون عليك.
5. اعتنِ بصحتك الجسدية والنفسية
إن العيش في ظل أيام ثقال قد يكون مرهقاً ذهنياً ونفسياً؛ إذ يسبب التعرض المستمر للتوتر الشديد مشكلات صحية خطِرة، ويؤثر سلباً في صحة الجهاز المناعي والجهاز الهضمي، ويُفاقم خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية والإرهاق العاطفي والجسدي والنفسي. ونظراً لأن الجسم والعقل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً؛ فإن الاستثمار في الرعاية الذاتية يصبح جزءاً لا غنى عنه في سبيل بناء المرونة اللازمة لاجتياز الأوقات الصعبة.
ولأن العقل السليم في الجسم سليم؛ عليك ألا تقلل أبداً من أهمية ممارسة التمارين الرياضية على نحو منتظم وكافٍ، فالنشاط البدني لا يؤدي إلى إطلاق هرمون الإندورفين الذي يسهم في تحسين الحالة المزاجية فحسب؛ بل يساعد أيضاً على تخفيف التوتر في الجسم وتقليل الأعراض الجسدية المرتبطة به. بالإضافة إلى ذلك، احصل على ما يكفي من النوم الجيد ليلاً، واتبع نظاماً غذائياً صحياً ومتوازناً، وفكِّر في ممارسة أساليب الاسترخاء والتأمل والتنفس العميق، وتعلم كيفية إدارة مستويات التوتر لديك.
اقرأ أيضاً: كيف تمارس اليوغا لتتغلب على معاناتك النفسية؟
6. غيِّر طريقة تفكيرك وعبِّر عن امتنانك
من الصعب طبعاً أن تبقى إيجابياً ومتفائلاً ومفعماً بالأمل في خِضمّ أيام صِعاب تمر بها، ومع ذلك، يميل الكثير منا إلى تضخيم مشكلاته على نحو مبالغ فيه، وجعلها تبدو أكثر سلبية مما هي عليه فعلاً. لذلك؛ تراجَع خطوة نحو الوراء، وقيّم وضعك مثلما قد يفعل شخص غريب. انظر إلى الوضع باعتباره فرصة للنمو والتطور، وذكِّر نفسك بمدى قوتك ومرونتك خلال الأوقات الصعبة التي مررت بها سابقاً.
عبّر عن امتنانك. ربما تعتقد أن التعبير عن الامتنان في الأوقات الحالكة السواد أمر مبتذل؛ لكنّ تبنّي عقلية الامتنان لا بد أن يوسّع منظورك لما تمر به، ويقلل توترك، ويعزز مزاجك. وبالطبع، ثمة دائماً ما قد تمتن لوجوده في حياتك؛ مثل العائلة أو وجود صديق عطوف أو عمل تحبه أو رؤيتك لمنظر طبيعي جميل. فكِّر في ذلك، وأظهِر امتنانك.
اقرأ أيضاً: ما هو الامتنان الاستراتيجي؟ وكيف تطبّقه في حياتك اليومية لتسعد بها؟
7. ساعِد الآخرين
عندما تمر بأزمة ما، ينصبّ الكثير من اهتمامك على نفسك ووضعك؛ ما قد يُشعرك نوعاً ما بعدم الاتزان. لذلك؛ خصِّص بعض الوقت لمساعدة الآخرين؛ إذ يمكن لتقديم الدعم أن يكون مفيداً مثلما هو تلقي الدعم. فكِّر في العمل التطوعي، أو مساعدة صديقك في بعض المهمات، أو التبرع بالدم، أو التطوع للعمل في دار أيتام أو دار مسنين. ستزيد مساعدة الآخرين شعورك بالرضا وتضيف معنىً إلى حياتك كما ستزيد ثقتك بنفسك وقدرتك على التعامل مع ضغوط الحياة الحالية.
8. لا تتخلَّ عن ممارسة هواياتك
لأن هذه الهوايات غالباً ما تحدد هوياتنا وتضيف المعنى إلى حياة كلٍ منا، سواء كانت ممارسة الرياضة، أو رعاية حيوان أليف، أو قراءة الكتب، أو العزف على آلة موسيقية، أو قضاء الوقت في الطبيعة. أياً يكن النشاط الذي تحبه، افعله؛ لأن الاستمتاع به سيزيد قدرتك على التعامل مع ضغوط الحياة. ولا بأس أن تأخذ قسطاً من الراحة إن شعرت بالارهاق. خُذ إجازة، أو اقضِ عطلة نهاية الأسبوع في مكان يريحك، أو شاهد فيلماً.
اقرأ أيضاً: كيف تتعافى من ماضيك المؤلم وتعيش واقعاً أفضل؟
9. اطلب المساعدة المتخصصة عند الحاجة
كُن لطيفاً مع نفسك، ولا تنتقد مهاراتك في التأقلم أو تَلُم نفسك على كل خطأ ترتكبه؛ بل تعاطَف مع ذاتك وتهاوَن معها. لكن وفي حال كنت تشعر بأنك لا تستطيع التعامل مع هذه الأيام الصعبة، فكِّر في طلب مساعدة المعالج النفسي الذي سيساعدك على اكتساب منظور مختلف تجاه المشكلة التي تعانيها، والتعامل مع صراعاتك العاطفية، وإحداث تغييرات إيجابية في حياتك.
ختاماً، تقول الأسطورة إن طائر الفينيق، وحين يحين أجله، فإنه يبني عشاً ويُضرم فيه وفي نفسه النار، ثم يُبعَث من رماده طائرٌ صغير حيٌّ من جديد. تمعّن قليلاً في رمزية الأسطورة، فالإنسان قادر على تجاوز الصعوبات والنهوض منها مثلما ينهض الفينيق من رماده، وقادر على رؤية محنته باعتبارها فرصة جديدة لإعادة ترتيب حياته، وقادر على ترك أثر طيّب دائم في الآخرين حتى في أسوأ أيام حياته؛ مثل خلود جسد الفينيق. ونعلم طبعاً أن الكلام سهل والفعل صعب؛ لكنك تعلم أنه ليس مستحيلاً. اصبر، فهذا الوقت سيمر، عاجلاً أو آجلاً.