ملخص: "يعاني ثلث موظفي دول الخليج من الاحتراق الوظيفي"، نتيجة صادمة توصل إليها مسح إحصائي أجرته شركة ماكنزي الأميركية للاستشارات الإدارية وأعلنت نتائجه في يناير/ كانون الثاني 2023، وتقف وراء هذه النتيجة أسباب متعددة أهمها مواجهة السلوكيات السامة في بيئة العمل، وكذلك ارتفاع الحدود التي يضعها الموظف وعدم واقعيته، وانخفاض قدرته على التأقلم، إلى جانب اتساع المسافة بين الموظفين والمدراء؛ لكن تظل هناك إرشادات فعالة من أجل مواجهة الاحتراق الوظيفي مثل: التعامل مع ضغط العمل بجدية وعدم التهاون، وتقييم الصحة النفسية باستمرار، والموازنة بين الحياة الشخصية والحياة المهنية.
لم يعد الحديث عن انتشار الاحتراق الوظيفي مستغرباً، فنيرانه قد طالت الكثير من الموظفين باختلاف منصابهم أو مجالاتهم، وآخرهم رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن (Jacinda Ardern) التي أعلنت استقالتها في 19 يناير/ كانون الثاني 2023 بعدما وجدت أنها لا تمتلك الطاقة الكافية للاستمرار في وظيفتها.
وما زال عدد المعرضين للإصابة بالاحتراق الوظيفي يتزايد، خصوصاً مع انتشار بيئات العمل سريعة الإيقاع التي يكون ضغط العمل فيها مرتفعاً معظم الوقت؛ ما يُشعر الموظف بالإرهاق ويصيبه باستنزاف طاقته داخل العمل وخارجه.
ويعبر مصطلح الاحتراق الوظيفي عن حالة نفسية تصيب الموظف تجعله يفقد الرغبة في العمل، بالتوازي مع انخفاض مستوى إنتاجيته وإصابته بالإرهاق الجسدي والنفسي، ويؤكد الطبيب النفسي السعودي عبد الحميد الحبيب أنه في حال إهمال الأعراض الناتجة من الإصابة بالاحتراق الوظيفي قد يتطور لاحقاً إلى اضطراب الاكتئاب أو القلق.
وقد وجدت الإحصائيات التي أُجريت في دول الخليج العربي لقياس نسبة الاحتراق الوظيفي ارتفاعاً ملحوظاً في معدل الإصابة به، لذا يستعرض المقال آخر ما توصلت إليه تلك الإحصائيات مع تحليل نتائجها وفقاً لآراء الخبراء النفسيين.
اقرأ أيضاً: كيف تعيش برفاهية وسعادة في ظل التزامك بالعمل؟
واحد من كل ثلاثة موظفين محترق وظيفياً
توصَّل إلى النتيجة السابقة مسح إحصائي أجرته شركة ماكنزي الأميركية للاستشارات الإدارية (McKinsey)، بهدف قياس مدى انتشار الاحتراق الوظيفي في دول الخليج العربي وأعلنت نتائجه في 30 يناير/ كانون الثاني 2023، وقد وجد المسح أن سكان المملكة العربية السعودية هم الأكثر معاناة من الاحتراق الوظيفي بالمقارنة مع الدول الثلاث الأخرى التي شملها التقرير وهي الإمارات والكويت وقطر.
وأكد 66% من الأشخاص الذين شملهم المسح والبالغ عددهم 4,000 موظف معاناتهم من مشكلات نفسية، بينما عانى 62% منهم من مشكلات جسدية، وعند مقارنة النتائج التي وصل إليها المسح بالمتوسط العالمي فهي تؤكد زيادة الاحتراق الوظيفي في دول الخليج؛ إذ بلغت نسبة المعاناة من الضيق النفسي والتي تُعتبر واحدة من مقدمات الاحتراق الوظيفي 55%، بينما لا يتجاوز معدلها العالمي 32%.
وتفسر النسبة السابقة عزم 36% من المشاركين على ترك وظائفهم بينما المتوسط العالمي لهذا القرار يبلغ 16%، وهنا تشير ماكنزي إلى وجود عوامل خاصة بدول الخليج أدت لزيادة النسبة السابقة؛ أهمها المنافسة بين الوافدين والمواطنين في الحصول على الوظائف وتغير أوضاع الوافدين باستمرار، وفي حال التعمق أكثر سنجد أن مواطني الدول التي شملها التقرير عانوا من مستويات أعلى من الاكتئاب والقلق والضيق النفسي والإرهاق الوظيفي ومشكلات الصحة البدنية بالمقارنة مع الوافدين.
وقد أسهمت السلوكيات السامة في ازدياد نسبة الاحتراق الوظيفي، ويظهر ذلك في مواجهة 55.70% من الموظفين المشاركين في مسح ماكنزي سلوكيات سامة في بيئات عملهم أبرزها المعاملة غير العادلة أو المهينة والنقاشات الحادة، إلى جانب السلوك غير الإخلاقي من المدراء أو الزملاء.
ما الذي أدى لازدياد الاحتراق الوظيفي في الخليج؟
تلفت مستشارة علم النفس التنظيمي السعودية هاجر القايدي الانتباه إلى أن إحتمالية التعرض للاحتراق الوظيفي تختلف باختلاف مجال العمل، فهناك مثلاً المجال الطبي الذي تزيد نسبة تعرض العاملين فيه للاحتراق الوظيفي، وأيضاً الأشخاص العاملين في وظائف تتطلب التواصل مع الجمهور والذي تصفه القايدي بأنه يستهلك الكثير من الطاقة.
أما الأسباب المؤدية للاحتراق الوظيفي فتنقسم بين الموظف والمؤسسة، فأحياناً يكون السبب وجود تعارض بين القيم الشخصية والقيم المؤسسية، وأيضاً قد يتمثل السبب في مهارات الموظف من حيث ارتفاع حدود توقعاته وعدم واقعيته وانخفاض قدرته على التكيف.
هناك أيضاً سبب ترى القايدي أنه أسهم في ازدياد نسبة الاحتراق الوظيفي في السعودية؛ وهو اتساع المسافة بين المدراء والموظفين والتي تُعرف بـ "مسافة السلطة"، وينعكس ذلك في غياب الحقائق فالموظف يعمد إلى مخاطبة المدير انطلاقاً من مراعاة مكانته العالية، وذلك يؤسس لقاعدة أنه كلما قلت مسافة السلطة ازدادت جودة بيئة العمل.
من جانبها، تركز الطبيبة النفسية السعودية أفنان الغامدي على سمات بيئة العمل ودورها في الإصابة بالاحتراق الوظيفي مثل زيادة ضغط العمل، وتضرب مثلاً عليها بأن يعمد المدير إلى إسناد الكثير من المهام إلى الموظف في مدىً زمني قصير، وتشير الغامدي في الوقت نفسه إلى دور الموظف في الموازنة بين حياته وعمله وإعطاء وقت منطقي لإنجاز مهامه دون أن يضغط على نفسه.
ووفقاً للمختصة النفسية السعودية نوف القنيبط، فالاحتراق الوظيفي يزداد بين السيدات العاملات نتيجة رغبتهن في إثبات قدرتهن على الوصول إلى مناصب قيادية، إلى جانب مواجهتهن حرباً يقودها ضدهن بعض المدراء الذين يرون أنهن غير أكْفاء على المستوى المهني وبالأخص في القطاع الخاص.
اقرأ أيضاً: متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي: عندما يجعلك الملل في العمل تشعر بالمرض
كيف تواجه الاحتراق الوظيفي؟
يقدم المركز الوطني السعودي لتعزيز الصحة النفسية إرشادات بسيطة تقي الموظف من الوقوع في الاحتراق الوظيفي؛ وأهمها: أن يتعامل مع التأثيرات الناتجة من الضغط بجدية ولا يتهاون في ذلك، ويحرص على تقييم سلامته النفسية باستمرار، بالإضافة إلى موازنته بين وقت العمل ووقت الراحة وجعل رعايته الذاتية أولوية.
وترى الطبيبة النفسية السعودية أفنان الغامدي أنه يمكن أن تتم مواجهة بيئات العمل السامة بعدة طرائق أهمها الحديث بوضوح عن السلوكيات التي يتعرضها لها الموظف سواء من قِبل مديره أو زملائه، وتشير الغامدي إلى إمكانية أن يبحث الموظف في حال عمله ضمن بيئة عمل سامة عن بيئة إيجابية بديلة حتى لو كانت خارج نطاق فريقه من أجل زيادة طاقته الإيجابية وتحفيزه على العطاء.
كما تؤكد أهمية الفصل بين الحياة المهنية والحياة الشخصية بمغادرة الموظف مكان العمل عند انتهاء المواعيد الرسمية حتى لو لم ينتهي من المهام المسنَدة إليه خلال اليوم، فينبغي له تقبُّل أنه ستكون هناك أيام لن يتمكن فيها من إنهاء مهامه جميعها، وهناك حياة أخرى يجب أن يعطيها حقها تتضمن قضاءه وقتاً مع عائلته أو في ممارسة هواياته المفضلة ونومه بشكل جيد، فالاهتمام بالحياة الشخصية سيجعل الموظف قادراً على رفع جودة إنتاجه.
اقرأ أيضاً: الاحتراق الوظيفي بين النساء العاملات: إحصائيات من المنطقة العربية
لا يُعد الاحتراق الوظيفي مشكلة هينة، فتبعاته وتأثيراته في صحتك النفسية والجسدية إذا تُركت دون علاج يمكن أن تصبح قاتلة حرفياً، وليس هناك أدلّ على ذلك من ظاهرة الكاروشي اليابانية (Karoshi) التي تعني "الموت من كثرة العمل"، لذا إن كنت ترى أنك تحترق وظيفياً أو على مشارف ذلك فلا تتردد أن تضع نقطة فاصلة تعيد من خلالها ترتيب أولوياتك وتستمر لتعيش حياة أكثر توازناً وصحة.