متى يكون التغيير ضرورةً؟ ولمَ نخاف منه؟

التغيير
التغيير
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يطمح جميع الناس في وقت من الأوقات إلى التغيير؛ تغيير منازلهم ووظائفهم وأخذ استراحة لبضعة أشهر من كل شيء. لكن هل هذه الرغبة هي مجرد خيال يعين المرء على تحمّل حياته التي يشعر بأنها لم تعد تناسبه؟ أم أنها تمثل طموحاً حقيقياً لديه؟

قد يفكر المرء في ترك وظيفته الحالية وبدء عمل مستقل أو يشعر برغبة في الانتقال إلى مزرعة يبني فيها بيتاً بسيطاً يقيم فيه ويعيش الحياة التي يحلم بها. تتزايد نسبة الناس الراغبين في تغيير حياتهم كلياً، وقد أظهرت استطلاعات الرأي في فرنسا أن 37 مليون فرنسي يرغبون بالفعل في ذلك (نحو 50% من السكان)، وأن 88% يعتقدون أن الأزمة الاقتصادية تمثل فرصة للمرء ليغير أسلوب حياته وذلك على الرغم من أن 1 من كل 3 أشخاص فقط على استعداد لاتخاذ هذه الخطوة.

الإنسان بحاجة إلى أهداف جديدة دائماً

الأقوال شيء والأفعال شيء آخر تماماً، وما قيمة الخيال إن لم نتبعه بفعل يحيله حقيقة؟ يستمد الخيال قيمته من أنه حالة مشتركة وشاملة بين جميع البشر، ويقول الفيلسوف ومؤلف كتاب “فلسفتي عن الإنسان” (Ma philosophie de l’homme) ميشيل لاكروا: “إن التخطيط للمشاريع بصورة مستمرة هو جزء أساسي من طبيعتنا كبشر. ولأننا لا نصل أبداً إلى مرحلة الاكتفاء التام فإن لدينا رغبة مستمرة في تحقيق أهداف جديدة”. 

يقول سارتر في كتاب “الوجود والعدم” (Being and Nothingness): “إن وجود الإنسان لا يتمثل في ما حققه بل في ما لم يحققه بعد”. ويؤيد ميشيل لاكروا ذلك فيقول: “إن رغبة الإنسان في تحقيق أهداف جديدة هي من مكونات وجوده الأساسية، حتى لو لم يؤدِ ذلك إلى تغيرات كبيرة في حياته”.

وتتخذ هذه الرغبة الوجودية أنماطاً مختلفة وفقاً للفترة الزمنية التي يعيش فيها الإنسان، فمنذ عام 1968 ومع تشبع المجتمعات بثقافة التنمية الشخصية، تشكلت قناعة مفادها أنه علىكل فرد أن يبدأ بتغيير نفسه ليتمكن من تغيير العالم من حوله، وبسبب هذه المعادلة لم يعد التغيير فضيلةً بل أصبح ضرورةً لا غنى عنها. 

وهكذا فإن معاناة الإنسان من البطالة أو الاحتراق النفسي أو أي صعوبات في العمل على سبيل المثال، ستجعله أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يخضع للتدريب المهني مجدداً أو أن يتعرض للإقصاء. 

يوضح الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك في مقال بعنوان “يجب أن تغير حياتك” (You must change your life) أن الكوارث البيئية تحتم علينا أن نتغير أيضاً، وجاء في مقاله: “لتكن التأثيرات الناجمة عن أفعالك متوافقةً مع ديمومة الحياة على الأرض”، وبحسب الكاتب فإن هذا المطلب قد يكون صعباً لأنه يضعنا في مأزق عندما نجد أنفسنا مضطرين لتقييم اختياراتنا وعواقبها على جميع البشر؛ لكنه يبقى مطلباً لا مفر منه على الرغم من ذلك.

ويوضح الفيلسوف ميشيل لاكروا أن للتغييرات التي يجريها الأفراد على حياتهم تأثيراً كبيراً في الواقع، ويقول: “تهدف معظم التطلعات الحالية للتغيير إلى إنقاذ العالم”. ومثال ذلك العودة إلى استخدام التربة في البناء، وتطوير أساليب الطب البديل، والحركات التي تدعو إلى التضامن بين البشر، وغيرها. 

في الماضي كانت القيم الفردية هي الدافع الأساسي نحو التغيير كسعي الفرد إلى تحقيق ذاته والتميز بين أقرانه، بينما أصبحت الرغبة في التغيير اليوم تستند إلى القيم الجماعية التي نلتزم بها لنحاول أن نجعل من العالم مكاناً أفضل.

تقول مدربة الحيوانات البرية ومؤلفة كتاب “هل هناك حياة بعد الطريق الدائري: دليل الريف للباريسيين الباحثين عن منفى” (Country guide de relative mauvaise foi à l’usage des Parisiens candidats à l’exil Y a-t-il une vie après le périph)، لاتيتيا ريغو: “يمكنك أن تسأل أي عالم اجتماع وسيخبرك بأن ذروة الإشباع بالنسبة للإنسان وفق هرم ماسلو، ليست أن يمتلك سيارة أو ساعة فخمة بل حديقة”.

انتبه إلى إشارات التغيير من حولك

تستحوذ الرغبة في التغيير على المرء قبل وقت طويل من تحويل رغبته هذه إلى مشروع حقيقي. في سن الأربعين، غادر الطبيب النفسي الإنجليزي فنسنت ديري مدينة لندن تاركاً خلفه كل شيء؛ شقته ومكتبه وحياته، وتوجّه إلى إسكتلندا حيث بدأ بكتابة عمله الرائع “كيف نعيش؟” (How to Live). 

يقول فنسنت ديري في كتابه: “قد يأتي التغيير في هيئة “خبر” من مكان ما يتناهى إلى مسامعك أو شائعة تنطلق من بعيد أو ضجيج خارج عالمك الصغير، يلفت انتباهك إلى وجود عالم آخر”. أو قد يكون التغيير رسالةً أو دعوةً أو عرضاً تتلقاه، أو ربحاً تحصل عليه أو خسارةً تتعرض إليها، أو ربما قد تجده في كارثة أو إلهام يأتيك أو تسلسل عدة أحداث صغيرة.

تؤدي أزمة منتصف العمر إلى تفاقم الرغبة في التغيير، ويقول ميشيل لاكروا: “يقول كارل يونغ إن الإنسان يقضي نصف عمره وهو يصعد سلم الحياة، بينما يدرك في النصف الآخر منه أنه اختار تسلق الجدار الخطأ”. 

ويقول فنسنت ديري: “في جميع الأحوال سيتغير عالمك الحالي وستطوي صفحة هذا الفصل من حياتك؛ لكن الأمر لن يكون سهلاً لأن التفكير في تغيير حياتك سيكون مسبوقاً بشعورك بعدم الانتماء لمكانك الحالي ورغبتك في الهروب من الملل وروتين الحياة اليومية وقيودها”. 

لذا فإن ما يريده المرء قبل كل شيء هو أن يتخلص من معاناته ليتمكن من المضي قدماً في حياته؛ لكن كيف تتولد الرغبة في التغيير؟ يقول الطبيب النفسي الإنجليزي: “تتولد الرغبة في التغيير لدى الفرد عندما يختل توازن حياته المعتاد ما يجبره على إعادة التفكير فيها”. ويقوده ذلك إلى حالة من التوهان تمثل بداية التحول الكبير القادم في حياته، ويمكن تشبيه هذه الحالة بالضباب الذي يشوش الرؤية مؤقتاً قبل أن ينقشع ويكشف الناحية الأخرى من الطريق.

الخوف من التغيير

مع تفاقم حالة عدم التوازن التي يعاني منها المرء في حياته فقد يجد أنه يحاول الهروب ولا نقصد هنا هروبه من الآخرين بل هروبه من نفسه وعدم رغبته في الإنصات إلى حالة التحول التي تحدث في داخله بحجة أنه يرى أن لا طائل منها. ولأن التغيير مخيف، وبغض النظر عما تقوله استطلاعات الرأي فإن قلة قليلة منا تريد أن تُحدث تغييراً جذرياً في حياتها بالفعل، فنحن كائنات ترتبط بالعادات والمسارات التي تتبعناها وأصبحت تحدد هويتنا حتى لو كنا نفضل أن نتخيل أنفسنا كمغامرين في الحياة.

يتسم التغيير بأنه مكلف ومحفوف بالمخاطر، وتحدَّث الفيلسوف إيمانويل مونييه في كتابه “مدخل إلى الوجودية” (Introduction aux existentialismes) عن “الحياة المحفوفة بالمشكلات” التي يعني بها أن المخاطرة والفشل وسوء الحظ هي عناصر لا بد للإنسان الذي يسعى في هذه الحياة ويحاول البحث عن ذاته من أن يواجهها”.

سواء كنا نتحدث عن ترك العمل أو الانفصال عن الشريك أو تغيير المرء للمكان الذي ترعرع فيه ولو كان سينتقل إلى أروع مكان في العالم، فإن هذه المواقف كلها ستثير لديه صراعات داخلية وتسبب له حسرة كبيرة، الأمر الذي يجعله يبدي مقاومة قوية وشرسة في مواجهة أي تحول داخلي. 

ويوضح فنسنت ديري: “يفضل المرء أن يفكر بالنتيجة النهائية لعملية التغيير أو ألا يبدأ هذه العملية من الأساس، فتتمحور كل سلوكياته حول محاولة تجنبها على الرغم من أنه يكون في خضمها بالفعل”. يقع الفرد في معضلة بين رغبته في التغيير وخوفه منه ليجد نفسه “يخنق” رغبته هذه بسرعة ويقرر أن ليس هنالك أي مصلحة له في هذا التغيير. لكن السؤال الذي يوقظه مجدداً ولا يفارق ذهنه هو: “إلى أي مدى يمكنني الاستمرار في هذا الوضع الذي لا يلائمني، وترك حياتي تضيع مني بهذه الطريقة؟”.

يشير استطلاع رأي تناول الأشخاص الذين أخذوا زمام المبادرة وأجروا تغييرات على حياتهم، إلى أن 46% منهم اعتبروا قرارهم بالتغيير هو أفضل قرار يتخذونه في حياتهم، بينما قال 50% أنهم عادوا إلى روتين حياتهم السابق، وأوضح 4% أنهم نادمون على قراراتهم. 

ويوضح ميشيل لاكروا أنه قد يكون ثمة ما يدعو المرء إلى التردد في اتخاذ القرار بالتغيير؛ ولكن على الرغم من ذلك فإن كثرة المماطلة تشل حركتنا، ونستحضر هنا عبارة: “أكون أو لا أكون، إن ضمائرنا تجعلنا جميعاً جبناء” من مسرحية هاملت لويليام شكسبير التي تشير إلى أن المرء قد يتجنب فعل ما يريد خوفاً من أن يقع في الخطأ. لذا فإنه قد يكون من الأفضل أن تبدأ بالتغيير دون أن تفكر كثيراً فهذه الطريقة تنجح مع بعض الأشخاص.

التغيير يتطلب عملاً

تتطلب عملية التغيير عملاً، وبدلاً عن التركيز على الخسائر المستقبلية المحتملة لهذه العملية فإنه من الأفضل أن تركز على النقاط الإيجابية والمحفزة للبدء بها. فكر بالحال الذي ستكون عليها بعد أن تنجح في مسعاك، وتخيل الحياة الأخرى التي ستعيشها إلى الدرجة التي تدفعك إلى الانطلاق نحوها، والسؤال الأهم الذي يجب أن تطرحه على نفسك ليس : “هل أستطيع فعل ذلك؟” بل “هل أريد فعل ذلك؟”.

وتولد قوة الإرادة باقي العناصر الأخرى وهي الجدوى من القرار الذي ستتخذه وتقبل من حولك له والفوائد التي سيعود بها عليك وعليهم. يتيح لك توضيح رغبتك للآخرين فهم المراحل التي ينبغي لك خوضها لتحقيقها ويخفف مخاوفك من المستقبل، ولا يتمحور التحدي حول اتخاذ قرار بعينه بل حول اتخاذ القرار الذي ينسجم مع ذاتك. لكن ما السبيل إلى ذلك؟ 

يقول ميشيل لاكروا: “كحال الكثيرين كان تركيزي خلال العقد الماضي متمحوراً حول بذل الجهد؛ لكنني اتخذت خطوة إلى الوراء وفكرت قليلاً فأدركت أن بذل الجهد وحده دون وجود شغف ليس كافياً، فإذا لم يدرك المرء شغفه ولم يكن شغفه هذا كبيراً بما فيه الكفاية فإنه سيصاب بالإحباط”.

ولذلك فإنه يمكنك أنتكرس نفسك أيضاً لمساعدة الآخرين الذين لديهم شغف واضح. اسأل نفسك على سبيل المثال: “ما الذي يمكنني فعله لأطفالي أو زوجتي أو حتى زملائي في العمل لتحسين حياتهم؟ وكيف يمكن أن أستعيد الأحلام والآمال من خلال وجودي معهم ووجودهم معي؟”.

هناك الكثير من التغييرات الصغيرة الممكنة كالتحدث إلى من حولك والاستماع إليهم أكثر. ويختتم الفيلسوف حديثه قائلاً: “ينبغي لنا عدم تجاهل تفاصيل كهذه فهي ذات أهمية كبيرة في تغيير حياتنا وحياة أحبائنا نحو الأفضل”.

اقرأ أيضاً: استعادة الثقة بالنفس: التغيير هو المفتاح.

المحتوى محمي !!