مبدأ بوليانا: ما الذي يجعل البعض لا يرى سوى نصف الكأس الممتلئ؟ وهل تُعد هذه مشكلة؟

4 دقائق
مبدأ بوليانا
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: مبدأ بوليانا هو تحيُّز معرفي يميل فيه الناس إلى تذكُّر الذكريات والتفاصيل الإيجابية والتركيز عليها، والتقليل من أهمية ذكريات الأحداث السلبية أو نسيانها.

"كل شيء كان أجمل وأبسط أيام زمان"! هل فعلاً كان كذلك؟ أم أن ثمة حيلةً ما صنعتها ذاكرتك وانطلت عليك؟ حسناً، غالباً وعندما نفكر في الماضي، فإننا نميل إلى أن نتذكّره بكونه أفضل وأجمل من الأيام والأحداث التي نختبرها الآن؛ أي نميل إلى تذكُّر الجوانب الإيجابية من تجاربنا الماضية، وننسى التفاصيل والأحداث السلبية. يبدو الأمر وكأننا نرتدي نظارات وردية كلما أردنا النظر إلى ذكريات الماضي، ويسمي بعض علماء النفس هذه الظاهرة باسم "مبدأ بوليانا" (Pollyanna Principle)، أو "انحياز الذاكرة الإيجابي"، وإليك ماذا يعنيه هذا المبدأ وتأثيراته في الصحة النفسية.

اقرأ أيضاً: هل تعتقد بأن الجميع سيئ حتى يثبت العكس؟ ربما تكون مصاباً بالإفراط في التعميم!

ما هو مبدأ بوليانا؟

تشير الطبيبة النفسية حصة الشعلان إلى أن مبدأ بوليانا مصطلح نفسي يشير إلى الانحياز نحو تذكر الأمور السعيدة أكثر من المزعجة؛ أي أنه تحيّز معرفي يؤثر في الطريقة التي نعالج بها المعلومات ونتذكرها. بكلمات أُخرى، هو ظاهرة نفسية توضّح ميل الناس إلى تذكُّر المشاعر والأحداث السارة والإيجابية على نحو أكثر وضوحاً من المشاعر والأحداث السلبية، والميل إلى تذكُّر الأحداث المحايدة باعتبارها أكثر إيجابية مما كانت عليه فعلاً.

وتُمكن ملاحظة هذه الظاهرة في مختلف جوانب الحياة من الذكريات الشخصية إلى التفاعلات الاجتماعية؛ إذ تصف أيضاً ميل الإنسان إلى التركيز على الأمور الإيجابية في الحياة واستخدام كلمات ومصطلحات إيجابية أكثر من السلبية.

على ما يبدو، لدى معظمنا ميل فطريّ نحو النظر إلى الأمور بنظرة إيجابية؛ حيث يميل الأشخاص عموماً، ممن يتمتعون بصحة نفسية جيدة ولا يعانون الاكتئاب، إلى أن يكونوا متفائلين وإيجابيين أكثر من كونهم محبَطين وسلبيين.

اقرأ أيضاً: 9 نصائح لتتجاوز الأيام الثقال وتخفف وطأتها

من أين جاءت تسمية مبدأ بوليانا؟

أتت التسمية من رواية "بوليانا"؛ وهي رواية كتبتها الروائية الأميركية إليانور بورتر (Eleanor Porter) عام 1913، وتحكي قصة فتاة صغيرة تيتّمت، فانتقلت للعيش مع عمتها القاسية والصارمة؛ لكن بوليانا لم تتخلَ عن نظرتها الإيجابية في الحياة وأصرّت على تطبيق الفلسفة التي علّمها إليها والدها في سن صغيرة، وهي أن ترى الجانب الإيجابي في كل ما يحدث معها. وبالفعل، تمكّنت بوليانا من مواجهة ظروف حياتها القاسية بتفاؤل وتصميم.

وقد ورَد مصطلح "بوليانا" للمرة الأولى في الأبحاث النفسية على أيدي الباحثَين جيري باوتشر (Jerry Boucher) وتشارلز أوسغود (Charles Osgood)، وذلك في بحثِهما المُعَنْوَن "فرضية بوليانا" والمنشور في مجلة التعلم اللفظي والسلوك اللفظي (Journal of Verbal Learning and Verbal Behavior) عام 1969؛ حيث لاحظ الباحثان ميلاً إنسانياً عالميّاً نحو استخدام اللغة الإيجابية في التواصل بين الناس؛ إذ تكون الكلمات الإيجابية أكثر تواتراً وتنوعاً من الكلمات السلبية.

أما أول مَن استخدم هذا المصطلح في سياقه المحدد عن تحيّز الذاكرة، فهما عالما النفس مارغريت ماتلين (Margaret Matlin) ودايفيد ستانغ (David Stang)، في كتابهما الذي يحمل عنوان "مبدأ بوليانا: الانتقائية في اللغة والذاكرة والأفكار" (Pollyanna Principal: Selectivity in Language, Memory, and Thought) عام 1978؛ حيث استخدما نموذج بوليانا بوصفه مبدأ نفسياً يصوّر التحيزات الإيجابية لدى الناس عند التفكير في الماضي.

ووفقاً لهما؛ تفضلّ العمليات المعرفية في الدماغ معالجة المعلومات السارّة انتقائياً على حساب المعلومات غير السارّة، وكلما كانت الذكريات أقدم طغت الإيجابية على السلبية في الذاكرة.

اقرأ أيضاً: كيف تتعافى من ماضيك المؤلم وتعيش واقعاً أفضل؟

كيف يمكن للتركيز على الإيجابية أن يعزز صحتك النفسية؟

غالباً ما نفكر في أحداث الماضي وأشخاصه وأماكنه على نحو مجرد، وعندما نفعل ذلك، فمن المرجح أن نركز على العموميات الإيجابية بدلاً من التركيز على التفاصيل الجوهرية والسلبية. على سبيل المثال؛ إذا عدت بذاكرتك إلى رحلة قمت بها مع أصدقائك المفضلين قبل عدة سنوات، فمن المرجح أن تتذكر المحادثات الشيّقة والطعام اللذيذ والمواقف المضحكة والممتعة التي حصلت معكم، وغالباً ما ستنسى البعوض الذي ظل يقرصك لساعات متواصلة، والسرير غير المريح، والإرهاق الشديد الذي شعرت به عند عودتك.

انحياز الذاكرة نحو الذكريات الإيجابية أكثر من السلبية أمر جيد؛ لأنه يُبقينا في حالة ذهنية إيجابية في الوقت الحاضر. فإذا لم تعمل عقولنا على هذا النحو، فمن غير المرجح أن نذهب في عطلة أخرى مع أحبائنا، ومن المستبعَد أن ننخرط في أنشطة أخرى مهمة لرفاهيتنا النفسية.

وإذا نظرت إلى هذا التحيز من وجهة نظر تطورية، سترى أنه يعزز النظرة الإيجابية عن الذات ويساعد على مواجهة التحديات ويزيد الإصرار والعزيمة. وجدير بالذكر إن الأشخاص الذين يميلون إلى تذكر التجارب والتفاصيل السلبية أكثر من الإيجابية، من المرجح أن يُظهروا اضطرابات مزاجية مثل الاكتئاب.

اقرأ أيضاً: هل تقع في علاقات سامة مراراً وتكراراً؟ إليك الأسباب المحتملة

لكن كيف للإفراط في التفاؤل أن يؤذيك؟

على الرغم من أن الميل إلى التفاؤل والتركيز على الجانب المشرق والإيجابي، سواء في الماضي أو الحاضر، سمة مرغوبة تفيد صحتنا النفسية ورفاهيتنا، فإن الأمر قد ينقلب رأساً على عقب في حال زاد على حدّه، وهو ما يُعرف في علم النفس بـ "متلازمة بوليانا" (Pollyanna Syndrome) وتشير إلى "الشخص المفرط في التفاؤل أو المتفائل على نحو أعمى".

فالتفاؤل المفرط، أو الانحياز المفرط نحو التفاؤل، هو اعتقاد خاطئ مفاده أن فرصنا في عيش الأحداث السلبية أقل من أقراننا؛ في حين أن فرصنا في عيش الأحداث الإيجابية أعلى منهم. يقودنا هذا الانحياز إلى الاعتقاد بأننا أقل عرضة للمعاناة من سوء الحظ، وأكثر عرضة للظفر بالنجاح والسعادة؛ ما قد يدفعنا إلى الانخراط في سلوكيات محفوفة بالمخاطر، أو اتخاذ اختيارات سيئة بشأن الصحة دون القلق بشأن العواقب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تذكُّر التجارب الماضية على نحو أكثر إيجابية مما كانت عليه فعلاً، يمنعنا من التعلم من أخطائنا، أو اتخاذ قرارات مستنيرة، أو التعرف إلى أنماط السلوك التي قد لا تصبّ في مصلحتنا؛ ما يعوق في المحصلة عملية النمو الشخصي واتخاذ القرارات السليمة مستقبلاً. وكذلك، يمكن لهذا التحيز المعرفي أن يدفعنا نحو وضع توقعات غير واقعية للمستقبل؛ ما قد يؤدي إلى الشعور بخيبة أمل عندما لا يتطابق الواقع مع التوقعات.

اقرأ أيضاً: لماذا يتصرف بعض الأشخاص بسوء نية؟

نصيحتان للاستفادة من مبدأ بوليانا

للاستفادة من مزايا انحياز الذاكرة الإيجابي مع تجنُّب مخاطِره، يمكنك اتباع النصيحتين التاليتين:

  • القبول: يجب إدراك أن الذكريات يمكن أن تتغير بمرور الوقت، وأن ما تتذكره ليس ما حدث تماماً؛ لذا اعترف بتحيّزاتك المحتملة، وميلك إلى رؤية الماضي عبر عدسة إيجابية وردية.
  • تخفيف الحالة: ابحث عن منظور خارجي وموضوعي لمواجهة هذه التحيزات، واستشر شخصاً كان حاضراً في أثناء الحدث الماضي؛ شخصاً لا يملك أي مصلحة عاطفية من ذلك الحدث، أو تخيل أنك تنصح صديقاً في موقف مماثل، في محاولة للحصول على وجهة نظر ثالثة. تعمل هذه الاستراتيجيات على تشغيل بعض مناطق الدماغ التي تشارك في ضبط النفس؛ ما يساعد في عملية اتخاذ القرارات وتخطيط الأهداف.