التنافر المعرفي هو حالة نفسية تصيب الفرد بسبب تضارب قناعاته مع أفعاله أو تعارض المعارف الجديدة التي يحصل عليها مع قيمه السابقة، فيحاول اللجوء إلى عدة طرق لتخفيف هذا التنافر.
أسس هذه النظرية عالم النفس الاجتماعي الأميركي ليون فيستينغر في عام 1957، وأصبح لها تأثير في جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي واحدة من نظريتين رئيسيتين له في علم النفس الاجتماعي، بعد أن أسس نظرية المقارنة الاجتماعية في عام 1954.
متى تظهر حالة التنافر المعرفي؟
نواجه في حياتنا اليومية العديد من المواقف التي نجد أنفسنا فيها مجبرين على قول أو فعل ما قد لا نتفق معه كلياً، أو قد نحصل على معارف تصيبنا بالاضطراب لأنها تتعارض مع معتقداتنا التي نحدد من خلالها الخطأ والصواب.
وتخلق لدينا أفعالنا التي تتعارض مع قِيمنا ومواقفنا ومعتقداتنا ودوافعنا، حالة من عدم الارتياح النفسي تسمى التنافر، ويمكن أن نلحظها بصورة رئيسية في السياقات التالية:
- بعد عملية الاختيار الحر بين عدة بدائل لكل منها ميزاته وعيوبه، وهو ما يسمى عادةً "الاختيار الصعب".
- عدم اتساق مواقف الفرد مع سلوكياته.
- سلوك الفرد الناجم عن عقابه أو مكافأته.
- تعارض المعارف التي يحصل عليها الفرد مع مواقفه ومعتقداته.
- وجود آراء متباينة داخل المجموعة الواحدة.
كما تؤكد الأبحاث الحديثة ظهور هذه الحالة لدى الفرد عند شعوره بأن صورته الذاتية مهددة.
التنافر المعرفي محرّك لدوافع الإنسان
يرى فيستينغر التنافر المعرفي كحالة محركة لدوافع الفرد؛ إذ يقارنها بحالة الجوع والعطش والحاجة إلى النوم على سبيل المثال. وبمعنىً آخر؛ كلما ازداد شعور الفرد بالتنافر ازدادت حاجته إلى تخفيف هذا التنافر واستعادة توازنه المعرفي الداخلي، وهو ما سيسمح له بالشعور بالتحسن، ولذلك فهو سيلجأ إلى واحدة أو أكثر من سبل الحد من التنافر المعرفي.
تغيير السلوك
ويرى فيستينغر أن التغيير الذي يجريه الفرد على سلوكه الإشكالي هو خطوة جوهرية في تخفيف حالة التنافر لديه، لأن ذلك يؤدي إلى اتساق أفعاله مع مواقفه ومن ثم ستكون هذه الأفعال مُرضية له.
ومع ذلك يوضح عالم النفس الاجتماعي أنه في معظم الأحيان يكون من الصعب جداً على الفرد وضع هذه الخطوة موضع التنفيذ، وذلك بسبب مقاومة الفرد للتغيير الذي قد يكون مكلفاً جداً في الوقت ذاته.
على سبيل المثال: أنت لا تحب رئيسك في العمل لكنك تتحدث معه كل يوم، وهذا يخلق لديك حالة تنافر معرفي. فإذا غيرت سلوكك بطريقة جذرية بأن تمتنع نهائياً عن التحدث معه، سيؤدي ذلك إلى تخفيف حالة التنافر لديك بصورة كبيرة لكنه سيخلق لك مشكلات أخرى على الأرجح.
التبرير المعرفي
لنأخذ على سبيل المثال شخصاً مدخناً: يعرف المدخن أن التدخين مضرّ بصحته لكنه يدخن رغم ذلك وهي حالة تنافر معرفي، ويمكنه تخفيف هذا التنافر عبر تغيير موقفه أي أن يقول لنفسه إن التدخين ليس سيئاً إلى هذه الدرجة، وإذا تمكّن من إقناع نفسه بأن التدخين ليس سيئاً للغاية، فلن يخلق الاستمرار في التدخين حالة تنافر معرفي لديه.
إحدى طرق التبرير المعرفي الأخرى هي أن يضيف الفرد إلى معتقداته معارفَ تتسق مع سلوكه الحالي. على سبيل المثال إذا كنتُ مدخناً ولدي حالة تنافر معرفي بين التدخين وحقيقة أنه يمكن أن يتسبب في الإصابة بالسرطان، فسأبحث عن الدراسات التي تمكنت المجموعات الضاغطة المؤيدة لتصنيع التبغ من تقديمها على أنها دراسات زائفة أو تتضمن معلومات مبتورة، وأحاول إقناع نفسي من خلالها بأن نسبة الإصابة بالسرطان بسبب التدخين ليست كبيرة. وخلال بحثي سأعثر على ما يسمى بالمقالات "العلمية" التي سأستند إليها لأحصل على بيانات وتفسيرات ومعارف جديدة تتماشى مع سلوكي لأنها "تثبت" أن المواد الموجودة في السجائر ليست مسرطِنة بدرجة كبيرة كما يقال.
وسيتمكن الفرد أيضاً من ترسيخ معارفه من خلال البحث عن بيئة اجتماعية تتوافق معها والتواصل مع الأشخاص الذين يشاركونه أفكاره ومعتقداته ومن ثم تجنب الآراء المعارضة؛ ما يؤدي إلى تعزيز المعارف المتسقة مع السلوك ومن ثم تخفيف حالة التنافر المعرفي.
التقليل من أهمية التنافر المعرفي
من الأمثلة الأخرى على طرق تخفيف التنافر المعرفي، اتخاذ الفرد آليات تتيح له التقليل من أهمية عدم اتساق سلوكه مع معارفه. على سبيل المثال يقلل المدخن من أهمية أضرار التدخين بأن يقول لنفسه: "في جميع الأحوال سيموت المرء يوماً ما".
إنكار التناقض
الاحتمال الأخير هو إنكار التنافر في حد ذاته، وفي هذه الحالة ينكر الفرد صحة المعارف الجديدة. مثلاً إذا صادف المدخن مقالاً يقول إن التدخين يمكن أن يسبب سرطان الرئة، فسوف ينكر هذه المعرفة الجديدة ويقول إنها غير صحيحة.
من الضروري ملاحظة أن هذه الاستراتيجيات المختلفة ليست فعالة دائماً وقد تجبر الفرد أحياناً على الاستمرار في العيش مع عدم الراحة النفسية ومن ثم حالة التنافر المعرفي.
وفي النهاية نأمل أن نكون قد قدمنا لك رؤية أوضح لحالة التنافر المعرفي، وأن تساعدك الأمثلة السابقة على رصد بعض حالات التنافر بين سلوكياتك ومعارفك التي قد تكون واجهتها في حياتك اليومية، والتفكير في استراتيجيات تخفيف التنافر المعرفي التي قد يكون سبق لك تطبيقها.