مفهوم التأمل (Meditation) سلوك بشري بدأ -كما تخبرنا الأبحاث- قبل خمسة آلاف عام تقريباً، ويبدو أن ممارسات التأمل ارتبطت بدوافع دينية في العادة، ويمكن القول أن الأبحاث الحديثة وجدت العديد من الروابط بين التأمل العلاجي غير الديني الذي انتشر حالياً، والعديد من ممارسات التأمل الدينية السابقة أو المستمرة؛ ومنها تلك التي تنتمي جذورها للديانات الشرقية -كالإسلام واليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية.
البشرية والتأمل
في كتاب "التأمل: دليل مفصّل" (Meditation: An In-Depth Guide)، يصف الكاتبون التأمل على أنه انضباط عقلي ينطوي على تنظيم التركيز، أما مفهوم التأمل فهو شموليٌ فضفاض، بوسعنا ضم الكثير من الممارسات تحت مظلته؛ ما يعني أن للتأمل صوراً كثيرة، فالشخص المتأمل قد يقوم بممارسات يعمّها السكون، أو الحركة المتسقة، أو التلفّظ بعبارات محددة، أو الاستماع إلى شيء معين، أو في أكثر الأحيان الجمع بين بعض مما سبق. يتمحور التأمل في السياق التقليدي حول ثلاث نقاط: تحسين التركيز، وزيادة الوعي باللحظة الحالية، ومساعدة الإنسان على فهم طبيعة العقل. وفي السياق المعاصر -بشكلٍ عام- يدور التأمل حول تركيز الانتباه، أو "اليقظة الذهنية" (Mindfulness)، وقيمتيْ اللطف والرحمة المغلفتين بالمحبة، وتكرار ترنيمة أو شعار (Mantra). وفي مقالنا "فوائد التأمل للصحة النفسية"، قدمنا تفصيلاً للتأمل في الطب التكاملي، على اعتبار أن التأمل يُستخدم كعلاج بديل أو تكميلي.
العناصر الأساسية للتأمل
تركيز الانتباه من أهم العناصر التي يُبنى عليها التأمل، وقد يكون نتيجةً للتحكم بالتنفس، أو يسبقه أو يقترن معه. وقد يأتي بعد تركيز الانتباه أهمية ضبط عملية التنفس؛ حيث يمكن من خلال التحكم بالتنفس تركيز الانتباه والوعي، واستشعار الحركات البدنية، وتحقيق التوازن؛ ثم إنّ التنفس بشكل منتظم وعميق من شأنه زيادة التركيز، وتعظيم أثر التأمل، وتسهيل الوصول إلى حالة من الاسترخاء والسلام الداخلي. والممارس للتأمل يجب عليه البحث عن مكان هادئ يراعي البعد عن كل المشتتات التي من شأنها عرقلة التأمل، ومن المهم أيضاً اختيار الحركات المتسقة المناسبة -أي نوع التأمل- والوضعيات المريحة؛ كالجلوس بظهرٍ مستقيم أو الاستلقاء، ومن المهم خلال التأمل الانفتاح على الذات من خلال استحضار الأفكار وجعلها تمر دون الحكم عليها.
اقرأ أيضا: فوائد التأمل للصحة النفسية.
أنواع التأمل
في مقالنا كيف تساعد تمارين التنفس في الاسترخاء وتخفيف التوتر؟، تطرقنا بشكل مختصر للعديد من تمارين الاسترخاء التي هي في أصلها جزء من التأمل. وكما ذكرنا في المقال، يُعتبر التحكم بالتنفس من أهم العناصر التي يجب توفرها لدى ممارِس التأمل حتى يستطيع أن يحقق الفائدة المرجوة. وفيما يلي سوف نذكر بعض أنواع التأمل الأكثر شهرةً؛ والتي عادةً ما تصنَّف من قِبل المختصين على أنها من ممارسات التأمل:
1. اليوغا (Yoga)
يتحقق التأمل في اليوغا من خلال الحركات المتسقة والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى أن اليوغا تتطلب زيادة التركيز والاستغراق في اللحظة، والتوازن الذي يعظّم الشعور بالحركات الجسدية، والمرونة مع التحكم بالتنفس الذي يسهّل الوصول إلى الاسترخاء.
اقرأ أيضا: كيف تحافظ على روح معنوية عالية في أحلك الأوقات؟
2. تاي تشي (Tai Chi)
يمكن ممارسة التأمل من خلال ممارسة تاي تشي؛ وهي الممارسات القتالية الصينية التي تتسم بوجود حركات بطيئة مبنية على التنفس البطيء، فالمتأمل الذي يمارس تاي تشي عادةً ما يسعى إلى زيادة تركيزه على تنفسه البطيء وشعوره بحركة جسده؛ ما يؤول بالممارِس للوصول إلى الاسترخاء.
3. تشي كونغ (Qi Gong)
تشي كونغ أسلوب صيني آخر لممارسة التأمل، ويتمحور تشي كونغ حول استعادة التوازن والمحافظة عليه من خلال الجمع بين الحركة البدنية والتحكم بالتنفس.
4. الصلوات الروحانية المتكررة (Prayers)
يتم تصوير التأمل من خلال الصلوات الروحانية في شكل الدعاء أو الحركات المتسقة المصحوبة بالقراءة بتدبّر أو الاستماع لنصوص مقدسة. ومن الممكن إيجاد التأمل في الصلوات الروحانية من خلال التركيز على اللحظة، وتعزيز الشعور بحركات الجسد، والاسترخاء نتيجة التحكم بالتنفس الذي يتسم به مؤدّو الصلوات.
5. التأمل الموجّه (Guided Imagery)
التأمل الموجّه قد يُسمى أيضاً التخيل أو التصور الموجَّه، حيث يقوم الممارس للتأمل بالاعتماد على أكبر عدد من حواسه الخمس لمساعدته في تشكيل صور ذهنية لأشياء من شأنها تسهيل طريقه للوصول إلى حالة من الاسترخاء والسلام الداخلي.
اقرأ أيضا: كيف يحوّل التأمل العقل الاستبدادي إلى عقل سعيد؟
التأمل والحياة اليومية
لا تخلو الحياة اليومية من التوتر والضغوطات النفسية، ما يعظّم الحاجة لممارسات من شأنها مساعدتنا على استعادة إمساكنا بزمام الأمور. والذي يقرأ فوائد التأمل للصحة وتمارين الاسترخاء المناسبة للتوتر، قد يكون أكثر درايةً بالفائدة التي نجدها عند ممارسة التأمل، لذا من المهم التنويه على أن التأمل مهارة يمكننا جميعاً التدرّب عليها وإتقانها.
يمكن البدء في التأمل من خلال التدرّب على إجادة التركيز، ولا بأس أن يعتري البدايات بعضٌ من شرود الذهن أو ضعف التركيز. بالإضافة إلى أن تعلّم ممارسات التحكم بالتنفس -سواءً العميق أو البطيء- من شأنه تعزيز إجادتكم للتأمل.
ومن المهم استيعاب أن التأمل يشمل العديد من الممارسات التي التي يمكن من خلالها الوصول لمرحلة عالية من الإتقان في التعامل مع مصاعب الحياة أو التوتر أو الضغوطات النفسية. على سبيل المثال، من تجربة شخصية؛ يمكنكم تجربة المشي والتأمل بحيث تجمعون بين حركة بدنية صحية فعّالة، وممارسة التأمل الذي يتضمن التركيز واستشعار اللحظة والتحكم بالتنفس. ومن الممكن المشي والتأمل عادةً من خلال المشي مع النظر لشروق الشمس أو غروبها، أو من خلال ممارسة المشي والتأمل في غابة خضراء مليئة بنور الشمس وصوت الطبيعة، أو حتى على شاطئ البحر مع تلاطم الأمواج وحركة المد والجزر.
مفهوم التأمل هو سلوك وممارسة يبحث فيه الإنسان عن إيجاد الانضباط العقلي الذي ينظّم عملية التركيز. قد يختلف التأمل التقليدي عن الحالي؛ إلّا أن المشترَك بينهما هو سعي المتأمِّل بطرق متعددة تجسّد مفهوم التأمل الشمولي للحصول على الاسترخاء والسلام الداخلي. إن الإلمام بعناصر التأمل الأساسية ومعرفة النوع المناسب الذي يمثّل التفضيل الشخصي وتوفّر البيئة المهيأة يعني كثرة الفرص التي يمكن من خلالها التدرّب على ممارسة التأمل؛ ما يسمح بجعله نظاماً متكرراً لمجابهة التوتر والضغوطات النفسية التي تفرضها علينا جميعاً الحياة اليومية. ومع ممارستنا المنتظمة والمتكررة للتأمل، سوف نعي حرص الطب التكاملي الحديث على استخدام التأمل كعلاج بديل أو تكميلي.
اقرأ أيضا: