كيف تتخلص من التوتر بممارسة تأمل اليقظة الذهنية؟

تأمل اليقظة الذهنية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بدأ تأمل اليقظة الذهنية يبرز كأسلوب جديد لخفض التوتر والعيش بهدوء أكبر وانتشر في كل مكان؛ في وسائل الإعلام والمكتبات وأساليب العلاج والمستشفيات. بماذا يفيدنا فعلاً؟ تعريف وتوضيحات.

تشهد فرنسا مهد الفلسفة الديكارتية والفصل المتزمت بين الجسد والعقل ثورة. ولاحظ طبيب أمراض الروماتيزم “جون جيرارد بلوتش” جذر هذه الثورة: ألا وهو تأمل اليقظة الذهنية، أو كيف نتعلم أن نكون يقظين بإرادتنا لما نمر به دون أن نطلق أحكاماً لحظةً تلو اللحظة. أصبح هذا المفهوم البوذي الذي درسته علوم الأعصاب والعلاجات المعرفية بناءً على فكرة طرحها الأستاذ الأميركي “جون كابات زن”، وسيلةً علاجيةً لمكافحة القلق والألم والانتكاسات الاكتئابية وغيرها من العلل الشائعة في مجتمعاتنا المعاصرة. تتذكر الطبيبة النفسية “ياسمين لينار”: “عندما كنت أخبر مرضاي عن تأمل اليقظة الذهنية قبل خمس أو ست سنوات أو أتحدث عنه في مؤتمر كان الجميع ينظرون إلي باستغراب متسائلين عن الطائفة التي أنتمي إليها، أما الآن صار الناس هم من يتصلون بي للحصول على معلومات عنه أو لتجربته”.

اكتشافه في الطب النفسي

ما سر هذا التغيير؟ بدأ الأمر في عالم الطب النفسي كما تتذكر الطبيبة “ياسمين لينار”: “كنا نقدم في مستشفى “سانت-آن” (Sainte-Anne) في باريس حيث كنت أعمل علاجات بالطب النفسي الدوائي التقليدي في المقام الأول إلى جانب علاجات معرفية وسلوكية. اكتشفنا حينها في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة عمل “سيغال” و”ويليامز” و”تيسديل” الذي يُظهر تأثيرات تقنية جديدة من العلاج المعرفي المبني على التأمل على الانتكاس الاكتئابي الذي كان قضيةً تعثّر حلها في تلك الفترة. لذا قررت أن أحذو حذو “كريستوف أندريه” و”دافيد سيرفان-شرايبورا” وأدرب نفسي على المعالجة بالاستعانة بتلك الوسائل والتقنيات التي درسها “جون كابات زن”؛ توصلنا جميعاً إلى قناعة بأن التأمل يمكن أن يغير مسار الطب النفسي، فقد بدأ فعلاً بجذب الأشخاص الذين يبحثون عن بدائل عن الطب النفسي التقليدي وتركنا التغطية الإعلامية تتكفل بالباقي. تمزح “ياسمين لينار” بقولها: “في كل مرة ينشر فيها “كريستوف أندريه” كتاباً تزورني موجة جديدة من المرضى”. واحتلت مواضيعه لعدة سنوات صفحات منشوراتنا، أما مؤخراً في المجلات غير المتخصصة في المواضيع النفسية نترك الكلام لـ “جون كابات زن” نفسه بعد اكتسابه شهرةً لأكثر من عشرين عاماً عبر المحيط الأطلسي والجهل بهويته في فرنسا. من المؤكد أن تأخير شهرته هنا له علاقة بارتباطنا الثقافي بالتحليل النفسي، فهذا يصعّب نشر أعمال المعسكر السلوكي في فرنسا أكثر من أي مكان آخر.

انتشار الدراسات حوله

يضيف “جون جيرارد بلوتش” أن هذا النجاح المفاجئ لليقظة الذهنية يُعزى إلى الكم الهائل من الدراسات العلمية التي نُشرت على مدار السنوات العشرة الماضية عنها: “يرى الغربيون، أو بالأحرى الفرنسيون الذين يعتنقون الفلسفة الديكارتية، أن العلم لا يستطيع إثبات صحة “تقصي داخلي” بسيط مثل التأمل. لكن بوجود تقنيات التصوير التي أتاحت تصور الآليات التي تكون فعالةً في الدماغ أثناء حالات التأمل إلى جانب العديد من الدراسات الأخرى التي أثبتت صحته وفقاً لمعاييرنا لأنها مرئية ومثبتة. وهذا يفسر، على حد قوله، لماذا لم يجد صعوبة في استحداث شهادة جامعية في “الطب والتأمل وعلوم الأعصاب” في “جامعة ستراسبورغ” (University of Strasbourg)، وسرعان ما سارت جامعات فرنسية أخرى على خطاها”. ازداد عدد الأطباء وعلماء النفس المستقبليين الذين أبدوا اهتماماً باليقظة الذهنية ومنهج العقل والجسد بصورة عامة أثناء تدريبهم. وحتى لو كانت فرنسا لا تزال متخلفة في هذا المجال عن الولايات المتحدة؛ إلا أنها بدأت مشاريع برامج تأمل اليقظة الذهنية في المدارس مع الطلاب والمعلمين إضافةً إلى الشركات في الظهور.

مخاطر الالتباس حوله

من يقدم هذه البرامج؟ ترى “ياسمين لينار” أن هذا السؤال هو الذي يقلقها، فهي تعترف أن هذا العالم الشاسع من اليقظة الذهنية يشهد الآن حرباً خلف الكواليس بين الأطباء النفسيين أمثالها ومن يمارسونها من غير الأطباء؛ إذ تقول حول ذلك: “عندما حصد تأمل اليقظة الذهنية هذا النجاح جذب مختلَف أنواع الأشخاص الذين يفتقرون إلى معرفة بعلم النفس لكنهم مهتمون بشكل أو بآخر بالتأمل الذين شهدناهم يقدمون خبراتهم لعلاج كل المشاكل”. وتوضح أن هذا يمثل خطراً مزدوجاً: “أولاً يجعل الناس يعتقدون بأن الجلوس والتنفس كافٍ لحل أي مشكلة لديهم أو أي مرض يعانون منه، وهذا خاطئ بالتأكيد فنحن لا نعالج كل شيء وأي شيء بالتأمل؛ وإنما نعالج بعض الأمراض التي شخصناها بدقة باستخدام نظامي “تخفيض التوتر بالاستعانة باليقظة الذهنية” (MBSR) و”العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية” (MBCT) اللذان يعدان عاليا الدقة ومدروسَين ويلبيان مؤشرات معينة.

أما الخطر الآخر فيتمثل في الخلط بين مجالات تطوير الذات والطب النفسي. “في البداية يمكنك بالتأكيد الانضمام إلى مجموعة تأمل اليقظة الذهنية التي يقودها شخص مدرَّب على برنامج “تخفيض التوتر بالاستعانة باليقظة الذهنية”؛ لكن يمكنك أيضاً العثور على شخص يوفر تطبيقاً رائعاً للتأمل – وليس بالضرورة اليقظة الذهنية بالذات – دون أن يكون لديه أي معرفة نفسية أو تدريب على برنامج “تخفيض التوتر بالاستعانة باليقظة الذهنية”. فمثلاً ستستحسن الإقامة مع الراهب البوذي “تيك نات هان” أكثر بكثير من مدرب برنامج “تخفيض التوتر بالاستعانة باليقظة الذهنية” الذي لم يمضِ أكثر من عام واحد في التدريب. من ناحية أخرى يُستخدَم تأمل اليقظة الذهنية في حالة المرض العقلي كأداة معرفية؛ أي يكون ممارسةً تركز على الأفكار وخطوةً من عدة خطوات علاجية. ولهذا السبب المعرفة النفسية ضرورية جداً. إن في تقديم المرء لنفسه بأنه متخصص في مكافحة التوتر بحجة أنه مارس ثلاث أو عشر جلسات خلوة للتأمل إغراء كبير لمن يريد ركوب الموجة. وتتابع “ياسمين لينار” بأن هذا انسياق مقلق “فبين مجموعة من الأشخاص الذين يخبرونك أنهم يعانون من القلق قد تجد شخصاً مصاباً بانفصام الشخصية أو شخصاً لديه ميول انتحارية، ويجب أن تكون قادراً على تمييزهم”. ترأست “ياسمين” لجنةً أسِّست ضمن “أيه دي إم” (ADM) وأوكلت لنفسها مهمة تنظيم هذا المجال الواسع دون إبطاء تقدمه أو إثارة الصراعات ضمنه، وهي مهمة حساسة وبالغة الأهمية إذا لم نرِد إفساد انطلاقة هذه الثورة الفرنسية الصغيرة.

ثلاثة مناهج علاجية

اليقظة الذهنية: ممارسة التأمل ذات الأصول البوذية تدعو إلى تنمية الإدراك لكل لحظة، وتكون واضحة وغير تفاعلية ودون تمييز. يعُد البوذيون هذه الحالة من الانفتاح سمة غريزية في العقل شوّهتها أنماط حياتنا وتعليمنا وأفكارنا، ونحتاج إلى تنميتها إرادياً من خلال ممارسة التأمل.

(MBSR): تخفيض التوتر بالاستعانة باليقظة الذهنية. يرجع أصل هذه الطريقة إلى عالم الأحياء الطبية الأميركي “جون كابات زن” الشغوف بممارسات اليوغا والتأمل. أنشأ في السبعينيات بروتوكولاً للعلاج المعرفي مبنياً على اليقظة الذهنية واقترحه على مركز مستشفى ماساتشوستس في الولايات المتحدة. ومنذ عام 1979 أُثبتت تأثيراته علمياً في علاج الألم الجسدي والنفسي المرتبط عند الكثير من الناس بالتوتر.

(MBCT): العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية. أسسه عالم النفس الكندي “زيندِل سيغال” وعالم الأعصاب البريطاني “جون تيسديل” والطبيب النفسي “مارك ويليامز”. ويستند هذا البرنامج إلى نظام العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية مع دمج عناصر العلاج المعرفي والسلوكي. وهذا البرنامج للعلاج الجماعي المكون من ثماني جلسات مدة كل منها ساعتين معترَف به علمياً للوقاية من الانتكاسات الاكتئابية لدى الأشخاص الذين أصيبوا بثلاث نوبات اكتئاب على الأقل، ويتسع نطاقه تدريجياً ليشمل الإدمان واضطرابات التغذية.

رأي “كريستوف أندريه”

أمارس التأمل بين الجلسات؛

“إنها ممارسة وُفّقت لممارستها في حياتي الخاصة والمهنية. أبدأ يومي بممارسة عشرة إلى ثلاثين دقيقة من اليقظة الذهنية إما في التأمل جالساً أو بممارسة حركات أمدد فيها جسدي بهدوء شديد، ثم أتأمل في لحظات التنقل أو في وسائل النقل أو الانتظار بين الجلسات ساعياً لأركز على اللحظة الحالية فقط. كما أمارس تمارين في مجموعات التأمل مع مرضاي. أخيراً أذهب إلى معتكف كمتأمل بسيط في معبد مرةً في السنة”.

المحتوى محمي !!