ما الذي يحمل الرجال على البكاء؟

7 دقائق
بكاء الرجل

نعم الرجال يبكون؛ لكن قليلاً ما يلحظ المحيطون بهم ذلك لأنهم غالباً ما يبكون بصمت وفي الخفاء. وعلى الرغم من أنه يعطي نفسه اليوم حرية أكبر في ذرف الدموع، فإن بكاء الرجل لا يزال لغزاً محيراً بالنسبة للنساء.

يعبر الرجل اليوم عن حزنه بالبكاء أكثر مما مضى، حتى أننا نرى عينيه تدمعان عند تأثره بالمشاهد التي يراها على شاشة التلفاز أو السينما. كما أننا نلاحظ أن الرجال قد أصبحوا أقل مقاومةً للتأثير المعدي للبكاء مقارنةً بالأجيال السابقة. يؤكد ذلك مازن ذو الـ 31 عاماً وهو محامٍ؛ إذ يقول: "إحدى آخر المرات التي بكيت فيها كانت في أثناء مشاهدة فيلم "ذكريات جميلة" (Se souvenir des belles choses)". فهل كان يمكن لوالد مازن أن يعبر عن مشاعره بهذه السهولة؟ يقول مازن: "أنا متأكد أنه لم يكن ليبكي".

ويوضح الطبيب النفسي ومؤلف كتاب "جنس الدموع: لمَ تبكي النساء أكثر من الرجال وبطريقة أفضل منهم؟" (Sexe des larmes. Pourquoi les femmes pleurent plus et mieux que les hommes ?) باتريك ليموين قائلاً: "في عصرنا هذا لم يعد الرجل بحاجة إلى حبس دموعه وكبت مشاعره ليؤكد رجولته. على مدى السنوات العشر الماضية، كانت الحدود بين الجنسين آخذة في التلاشي ولم تعد العلامات التي تميز الرجولة محددةً بصورة واضحة، فبتنا نرى الرجل يبكي فور تأثره دون أن يضبط نفسه".

الرجل لا يبكي من دون سبب

وعلى الرغم من أن تأثر الرجل بمشهد ما في فيلم سينمائي قد يجعل عينيه تدمعان، فإن حالته لا تقارن بالمرأة التي قد تنهار بالبكاء عند رؤية المشهد ذاته. يقول مازن: "لقد احمرت عيناي، وشعرت بغصة في حلقي، أما شريكتي فقد انهارت تماماً بالبكاء". ويتابع: "في الحقيقة لا يمكنني تخيل نفسي في هذه الحالة ولا سيما بسبب مشاهدة فيلم". ويوضح مازن أنه حتى لو "تجرأ" على التعبير عن تأثره فإن البكاء ليس بتلك السهولة بالنسبة إليه، ويعود ذلك إلى الجملة التي كانت تردد على مسامعه مراراً عندما كان طفلاً: "الرجل لا يبكي من دون سبب". تقول المعالجة النفسية ومؤلفة كتاب "كيف تروض تمساحك الداخلي" (Comment apprivoiser son crocodile) كاثرين إيمليه بيريسول: "في الحقيقة لا يزال تأثير هذه الثقافة حاضراً بقوة، وهو يقيد قدرة الرجال على التعبير عن مشاعرهم".

وهكذا يجبر الرجال أنفسهم عادةً على تجنب البكاء. يقول سمير ذو الـ 43 عاماً: "عندما أشعر برغبة في البكاء، فأنا أبعد نظري عن المشهد الذي يسبب لي الحزن أو أحاول أن أجد أي شيء أفعله لأشغل ذهني عن التفكير فيه". ويوضح باتريك ليموين قائلاً: "يرجع هذا السلوك أساساً إلى حقيقة أن الرجل يميل إلى التعامل مع الأمور بطريقة عملية، بينما تميل المرأة إلى التعمق في ذاتها والاستماع إلى عواطفها. لذا فالرجل ينظر إلى البكاء كسلوك يستهلك الوقت ويمنعه من اتخاذ هذه الخطوات العملية".

اعتراف بالعجز

يُعد البكاء بالنسبة للرجل دليلاً على العجز واعترافاً بالهزيمة؛ إذ إننا نبكي عندما لا يكون بمقدورنا فعل شيء آخر. وتؤكد كاثرين إيمليه بيريسول قائلةً: "البكاء بالنسبة للرجل هو اعتراف بالعجز قبل كل شيء؛ ما يجعله يقيد نفسه ويحبس دموعه". وفقاً لما يتذكر حسان ذو الـ 52 عاماً، فهو لم يسبق له أن بكى في حياته، ويقول: "هذه طبيعتي؛ إذ لا يمكن لشيء أن يزعجني إلى درجة أن تدمع عيناي إلا احتمال معاناة أطفالي أو موتهم". ويتابع: "نعم أنا أعلم أن التعرض لموقف كهذا قد يجعلني أنهار حسرةً وأذرف كل الدموع التي حبستها طيلة حياتي".

إن موت عزيز، معاناة أحد الأحباء أو الانفصال عن شريك الحياة هي أحد أكثر الأسباب التي تجعل الرجل يبكي بصورة عفوية؛ لكن ذلك لا يمنعه من البكاء فرحاً أيضاً. يقول رامي ذو الـ 26 عاماً: "لقد بكيت عندما وُلد طفلي. وعلى الرغم من أن رد فعلي هذا قد فاجأني بدايةً، فقد جعلتني هذه الدموع أشعر بالفخر فيما بعد، فقد كانت دموعاً استثنائيةً وارتبطت بحدث استثنائي أيضاً. أما سامي ذو الـ 23 عاماً فيقول: "كنت أشاهد المباراة النهائية لكأس العالم 1998 في المنزل مع عائلتي، وعندما فازت فرنسا بكينا جميعاً من شدة الفرح ولم يكن ذلك أمراً مخجلاً بل مدعاة للفخر". ويوضح باتريك ليموين: "كانت هذه الدموع مصدر فخر لأنها تشير إلى النصر الذي حققه هؤلاء الرياضيون، ومجد التتويج الذي ظفروا به نتيجة جهدهم. إنها دموع الرجال المحبين لوطنهم ومن ثم فهي دموع نبيلة".

الرجل يبكي باعتدال وتحفظ

حتى عندما تسيطر عليهم عواطفهم، فإن القليل من الرجال فقط ينهارون بالبكاء كما تفعل النساء؛ إذ يتسم بكاء الرجال غالباً بالاعتدال والتحفظ. يقول سامر ذو الـ 34 عاماً: "لم أتمكن من البكاء عندما توفي والدي. لقد عاتبت نفسي ولا سيما عندما رأيت شقيقاتي وقد انهرن بالبكاء، وشعرت أنهن كنّ ينظرن إليّ نظرة لوم أيضاً بسبب فتوري هذا؛ لكنني لم أتمكن من فعل شيء، فأنا بالفعل لم أتمكن من البكاء".

يوضح باتريك ليموين أن البكاء هو أداة للتواصل، فهو يسمح للمرء بأن يعبر عن مشاعره وأحاسيسه. ولمّا كان الرجل أقل كلاماً مقارنةً بالمرأة، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن مشاعره، فإن صوت بكائه يكون أخفض أيضاً، فهو يبكي من أجل نفسه، بينما تحاول المرأة ببكائها أن تقول شيئاً ما لمن حولها. وتوضح كاثرين إيمليه بيريسول: "إن أكثر ما يحتاج إليه الرجل المنهار عاطفياً هو أن يتركه المحيطون به وحده ليختلي بنفسه ويستجمعها ويفكر فيها وينعم ببعض السلام الداخلي".

بسبب ندرته؛ يتميز بكاء الرجل بدور علاجي أكبر مقارنة ببكاء المرأة. يقول هشام ذو الـ 21 عاماً: "قلما أبكي؛ ولكن عندما يحدث ذلك فإن نوبة البكاء تكون سريعةً ومفاجئةً وأشعر براحة كبيرة بعدها وكأن شيئاً ما قد نظف نفسي من الداخل". أما وسام فيرى أنه لا فائدة من البكاء ويقول: "نعم يسمح البكاء بتفريغ الشحنات العاطفية ولكن بطريقة خاطئة وأنا أراه نوعاً من فقدان السيطرة على النفس". ويوضح وسام أن البكاء يجعله يشعر بالضعف والدونية والخزي، ويحطم ثقته بنفسه. وترجع هذه المشاعر وفقاً لكاثرين إيمليه بيريسول إلى لحظة الانكسار التي يدرك فيها الرجل حالته الحقيقية كفرد غير معصوم، ليجد نفسه حزيناً على فقدان الصورة الخيالية للإنسان الخارق التي أراد أن يتوافق معها. إنها لحظة الحقيقة وخيبة الأمل التي تشوه صورةً معينةً من صور الرجولة.

ومن جهة أخرى فإن تعبير الرجل عن حساسيته الشديدة قد يكون مزعجاً لبعض النساء. تقول سلوى ذات الـ 26 عاماً: "يزعجني جداً الرجل الذي يبكي فهذا السلوك ينسيني نفسي كامرأة ويجعلني أشعر أننا عكسنا الأدوار، وأنا أجهل كيف أتفاعل مع موقف كهذا". وتقول مريم ذات الـ 48 عاماً أنها تأثرت عندما رأت زوجها يبكي لأول مرة منذ عرفته. كما أنها شعرت بالسعادة في الوقت ذاته عندما أدركت أنه إنسان حساس إلى هذه الدرجة. وتوضح مريم: "لكن دموعه كانت تؤثر في نفسي لأنه قلما يبكي، ولا أعتقد أنني كنت سأشعر بالثقة حيال مستقبلنا معاً لو كنت رأيته على هذا الحال في بداية علاقتنا فوجودي إلى جانب رجل مفرط العاطفة لن يشعرني بالأمان".

لفترة طويلة كان بكاء الرجل يعد انتقاصاً من رجولته، بينما أصبح اليوم يفسَّر أكثر كدليل على صدق عاطفته، فبعد أن يضبط نفسه لفترة طويلة محاولاً أن يظهر بمظهر البطل، يمنح نفسه أخيراً الحق في التعبير عن لحظات ضعفه بالبكاء ولكن لوحده وبصمت.

ماذا يخبرنا الرجال عن البكاء؟

"لقد عرف أبي المنيع كيف يبكي"

يقول هيثم ذو الـ 41 عاماً وهو مراقب حركة جوية: "لن أنسى ذلك اليوم حين رأيت الدموع في عيني أبي، وكان سني وقتها 12 أو 13 عاماً. كانت جدتي لأبي؛ وهي أم رائعة تعيش حياةً سعيدةً، قد دخلت المستشفى. وهناك، أمضت أيامها طريحة الفراش غير قادرة على المشي، ولم أعرف لمَ كان الجميع يتجنبون التحدث عن الأمر آنذاك. ذات يوم عندما عاد أبي من المستشفى، قال لأمي: "رأيتُ اليوم في الصيدلية عصا مشي ثلاثية القوائم. أعتقد أنه يمكننا شراؤها لوالدتي لتستخدمها عندما تنهض من سريرها". فنظرت والدتي في عينيه مباشرةً وأجابته باقتضاب: "لكنك تعلم جيداً أن والدتك لن تنهض مرةً أخرى أبداً"، وبدت نبرتها وكأنها تقول له : "استسلم للأمر الواقع وتوقف عن تفكيرك الطفولي".

فجأةً رأيت والدي ينحني ويذبل وينكمش على نفسه، وكأنه عاد طفلاً بالفعل، وكانت عيناه مغرورقتين بالدموع. وعندما نظر بطرف عينه ولاحظ وجودي حاول أن يتمالك نفسه وينتصب على الفور لكن دون جدوى فأخرج منديلاً وخبأ وجهه خلفه. لقد غمرني حزنه، ولم أدرك كيف يمكن لأبي الذي لطالما ظننته قوياً ومنيعاً، أن يفقد والدته ويبكي. شعرت فجأة بأنني قريب جداً منه وكنت متعاطفاً معه ومتفهماً ألمه وشعرت بالغضب من أمي. لقد اجتاحت كل هذه المشاعر ذهني الطفولي آنذاك، وما زلت أسترجعها إلي اليوم كذكرى مؤثرة جداً. وعلى عكس والدي، فأنا لم أحاول أبداً إخفاء دموعي أمام بناتي، فلطالما رغبت في أن يفهمن ما أشعر به وأن أساعدهن في الوقت ذاته على التكيف مع مشاعرهن".

متى كانت آخر مرة بكيت فيها؟

يقول أحمد ذو الـ 36 عاماً وهو مدرس: "بكيت عندما توفيت جدتي منذ شهرين فالموت فقط ما يحملني على البكاء. ويثير استغرابي بكاء بعض الأشخاص تأثراً بفيلم ما أو حتى فرحاً".

يقول جمال ذو الـ 19 عاماً: "كانت آخر مرة بكيت فيها عندما ذهبت لزيارة قبر جدي قبل ستة أشهر وعلى الرغم من مرور سنتين على وفاته فإنني أبكي في كل مرة أزور فيها قبره. سواء كنت وحدي أو مع عائلتي فأنا أعجز عن حبس دموعي".

يقول فتحي ذو الـ 67 عاماً وهو متقاعد: "كان ذلك قبل عامين أمام نصب تذكاري لبعض ضحايا الحرب، فأنا لم أتمكن من استيعاب أن كل هؤلاء الناس قد قتلوا بوحشية".

يقول مروان ذو الـ 31 عاماً وهو فنان: "كانت آخر مرة بكيت فيها عندما وُلدت ابنتي. كنت سعيداً ومتأثراً جداً وجعلتني هذه الدموع التي تدفقت من عيني بصورة عفوية أشعر بالفخر".

يقول كمال ذو الـ 32 عاماً وهو مدير تسويق: "بكيت منذ أسبوع بينما كنت أتابع المسلسل التلفزيوني "6 أقدام تحت الأرض" (Six Feet Under) الذي يحكي قصة عائلة تدير داراً للجنازات، وقد تأثرت كثيراً لموت أحد الأطفال إلى درجة أنني بكيت".

يقول رائف ذو الـ 25 عاماً، وهو يعمل في المبيعات: "كانت آخر مرة بكيت فيها قبل عام من الآن بعد أن انفصلت عن شريكتي. لقد بكيت بحرقة آنذاك لكنني آثرت أن أكون وحدي خلال ذلك".

يقول عماد ذو الـ 45 عاماً وهو صحفي: "كانت آخر مرة بكيت فيها عندما توفيت أمي منذ أكثر من 12 سنة. أعتقد أن كل الأحداث اللاحقة لذلك كانت أحداثاً سعيدةً بالنسبة إليّ ولكن ليس إلى درجة البكاء فرحاً في الوقت ذاته".

يقول جاد البالغ من العمر 8 سنوات وهو تلميذ: "كنت البارحة مريضاً وقد أزعجني ذلك كثيراً إلى درجة أنني بكيت".

يقول أمجد ذو الـ 24 عاماً وهو طالب دراسات عليا: "كانت آخر مرة بكيت فيها السنة الماضية عندما علمت أنني حصلت على شهادتي في القانون، فكلما زاد التعب والتوتر، زادت معهما البهجة. لقد جعلتني هذه الأمور مجتمعةً أنهار بالبكاء آنذاك".

المحتوى محمي