شهد قرابة 50 مليون مستخدم أميركي لموقع فيسبوك سرقة بياناتهم خلال الحملة الانتخابية؛ حيث وضعت قضية "كامبردج أناليتيكا" (Cambridge Analytica) التي تحمل اسم الشركة البريطانية المتخصصة في جمع وتحليل البيانات، مصداقية شركة فيسبوك على المحكّ فيما يخص حمايتها لخصوصية مستخدمي منصّتها.
لكن ما الذي يمنعنا من حذف حساباتنا من هذا الموقع أو حذف تطبيق فيسبوك؟ الجواب أن ترك فيسبوك في حقيقة الأمر ليس بالسهولة التي قد يبدو عليها، ولهذا أسباب كثيرة سنقف على أهمّها في هذا المقال.
كُتب هذا المقال من طرف أستاذ التواصل شيام ساندر (S. Shyam Sundar) وباحثَيّ الدكتوراة في مجال الاتصال الجماهيري بجامعة بنسيلفانيا، كارلينا ديروسو ومايكل كريغر.
يعود موقع فيسبوك لإثارة الجدل باختراقه حياتنا الخاصة وذلك من خلال سماحه لأطراف أخرى بجمع بياناتنا الشخصية. لم يمرّ هذا الحدث مرور الكرام، فقد دفع بالبعض إلى التفكير في هَجْر فيسبوك إلى لأبد لكن الأكيد أن الأمر لن يخرج عن نطاق التفكير؛ إذ لن تلبث المياه أن تعود إلى مجاريها وترجع علاقة الشركة و2 مليار من مستخدميها إلى سابق عهدها.
سيعود أغلب الناس إلى أحضان فيسبوك كما حصل في المرات السابقة وما سيحصل لاحقاً، فكما هو الشأن بالنسبة لكلّ العلاقات السّامة؛ صار لدى المستخدمين إدمان نفسي أوقعهم في شراك الموقع لن يستطيعوا الفكاك منه رغم إدراكهم أن فيه أذية لهم.
وأظهرت الدراسات التي أُجريت على مدار عقود بأن علاقتنا بوسائل الإعلام سواء كانت سينما أو تلفاز أو راديو محكومة بمبدأ التكافل؛ إذ تحوز إعجاب الناس بسبب التعويض الذي تمنحه لهم كتخفيف التوتر وإشعارهم بالاسترخاء وإيهامهم بالرّفقة. فكلما غالى الناس في استخدامها، حصلوا على تعويضات أكبر.
في المقابل يمدّ المستهلكون وسائل التواصل الاجتماعي ببياناتٍ تسمح لها بالتركيز بدقة على ما يرضيهم أكثر، فتستغلها شركات التواصل الاجتماعي لسَدّ احتياجاتهم النفسية الفردية باستمرار.
علاوة على تقديمها للمحتوى، فإن مواقعَ مثل فيسبوك وتويتر وجوجل تقدم لنا كذلك إمكانيات جديدة للتفاعل من شأنها أن تُرضي بعض رغباتنا الدفينة. يقدّم فيسبوك وسائلَ لإثارة فضولنا وإشباعه، ونشر أفكارنا، والتسويق لصورتنا، والحفاظ على العلاقات، وتلبية الاحتياج المُلح إلى تقدير الآخرين.
تتكئ وسائل التواصل الاجتماعي على عُصارة علم النفس لتحثنا على الاستمرار في كشف المزيد عنا. وفيما يلي نستعرض الأسباب التي تجعل من الصعوبة بمكان بالنسبة إلينا كمستخدمين إلغاء حساباتنا وحذف هذه التطبيقات إلى الأبد.
الحفاظ على تدفق العلاقات
كلما زاد تفاعلك على المنصة، ازدادت علاقاتك الإلكترونية قوةً، فنقرك على زر "لايك" (Like) والتعليق على صور الأصدقاء وإرسال التهاني في أعياد الميلاد والإشارة (Tag) إلى أشخاص آخرين ليسوا في نهاية الأمر سوى إحدى الطرق التي ينتهجها فيسبوك لإدخالك في شكل من أشكال "الاستمالة الاجتماعية". يساعد هذا التواصل الطفيف والعابر المستخدمين على إنشاء العلاقات مع أكبر عددٍ من الأشخاص بسهولةٍ نسبية إلى حدّ ما.
ارسم صورتك الاجتماعية بنفسك
كلما كشفت تفاصيلَ أكثر حول حياتك، نلتَ فرصة أكبر لنَمذَجةِ صورتك بنجاح. أثبَتت الدراسات أن هذه الطريقة الاستراتيجية لتقديم النفس هي واحدة من الخصائص المفتاحية لاستخدام فيسبوك.
يقوم مستخدم هذا الموقع بتشكيل هويته إلكترونياً ببضع نقرات من خلال إعلانه عن الحفل الغنائي الذي يحضره، والقضايا التي يناصر، والتجمعات التي يتردد عليها.
وعلى هذا النحو تصير أنت صانع شخصيتك الإلكترونية والمتحكم في تفاعلات الآخرين؛ وهو ما يستحيل في المقابل تحقيقه في الحياة الواقعية نظراً لأنك تستطيع أن تكون النسخة المثالية من نفسك في العالم الافتراضي!
القفز من جدار فيسبوك إلى حياة الآخرين
كلما قضيت مدة أطول على مواقع التواصل الاجتماعي بدأتَ في تعقّب الآخرين والتطفل على حياتهم، ويُعدّ هذا النوع من المراقبة الاجتماعية التعويضَ الأكثر أهمية الذي نحصل عليه من فيسبوك.
يستمتع معظم الناس بالبحث والتنقيب خلف الآخرين خفيةً عبر مواقع التواصل، فالحاجة السيكولوجية لمراقبة محيطنا متجذرة داخلنا، وهي ما يدفعنا لمتابعة الأحداث ويجعل منا ضحايا ما يصطلح عليه بـ "الخوف من أن يفوتنا شيء" (The fear of missing out).
حتى الأشخاص المسنوّن الذين يحيطون حياتهم الشخصية بسلكٍ شائك، ويكرهون عرض حياتهم أو أي معلومات عنهم، تجدهم يستخدمون فيسبوك للتطفل على حياة الآخرين. كلما كشفت عنك معلومات أكبر ارتفعت قيمتك الاجتماعية!
الرفع من قيمة أسهمك الاجتماعية
من شأن وجودك "أونلاين" (Online) أن يجلب لك فرصة عمل من خلال لينكدإن. كما قد يساعد ذلك زميل دراسةٍ قديماً أن يعيد ربط جسور التواصل معك. أظهرت بعض الدراسات أن النشاط على فيسبوك من شأنه رفع قيمة رأس المال الاجتماعي للفرد، سواء أكنت طالباً أو شخصاً مُتقدماً في السن يرغب في إعادة ربط الاتصال بأفراد عائلته أو إيجاد أصدقاء قدامى انقطعت جسور التواصل معهم منذ زمن بعيد. يقترن النشاط بمواقع التواصل الاجتماعي بارتفاع تقدير الذات ورفاهتها.
توسيع شبكة المعارف
كلما ضغطت أكثر زادَ تأثير كرة الثلج (التأثير التراكمي)، فأنت حين تشارك خبراً على وسائل التواصل الاجتماعي أو تُعبر عن تأييدك لقضية أو منتوج أو خدمة ما، تساهم في خلق تأثير كرة الثلج. فمؤشرات التقييم كالنجوم الخمس المرتبطة بكلّ منتج على موقع أمازون، ذات قدرة كبيرة على الإقناع ذلك أنها تعرض إجماعاً لعدد من الآراء. يسمح ذلك باندماجك داخل مجتمع إلكتروني يتمحور حول الأفكار والأحداث والحراكات والقصص والمنتجات؛ ما يرفع أيضاً من شعورك بالانتماء.
التعبير عن النفس مقابل اعتراف الآخرين بها
كلما شاركت المزيد عن حياتك زادت قدرتك على التأثير في الآخرين. سواء أتعلّق الأمر بتغريدة (Tweet)، أو منشورٍ أو تدوينة مفصلة، يمكن أن تعبّر عن نفسك وتدلي بدلوك في حديث الساعة. يمكن لهذا الشكل من أشكال التعبير أن يكون محفزاً؛ إذ تشير المؤشرات إلى أن تأثير كرة الثلج الذي تصنعه رسائلك وكلّ الإعجابات (Likes) والأيقونات (Emojis)، يمكن أن يُسهموا بشكل عميق في رفع تقديرك لذاتك بسدّ احتياجاتك النفسية عبر نيل تقدير الآخر.
ولذا، ومن خلال طرق مختلفة، فإن خاصيات وسائل التواصل الاجتماعي تمدّك بطوفانٍ من التعويض الذي لا يبدو من السهل إدارة الظهر له ورفضه.
العالقون في شراك الخوارزميات
وإن كان مُعظم الناس يتضايق من تعامل الخوارزميات مع بياناتهم الشخصية، فثمة ما يشبه الاتفاق المُضمَر بأن استخدام بياناتنا الشخصية هو شرّ لا بد منه، فالخوارزميات التي تجمع معلوماتك هي نفسها تلك التي تشجعك على تطوير حياتك الاجتماعية وفقاً لاهتماماتك وسلوكياتك وشبكة أصدقائك.
دون فيسبوك ربما لم تكن لتحظى بتجربة اجتماعية غنية لهذه الدرجة، فبفضل اقتراحاته للأصدقاء الذين قد تعرفهم، والتنبيهات التي تصلك حين يقول صديق أو يفعل شيئاً يُحتمل أن يهمّك، صار فيسبوك اليوم يلعب دور الوسيط الاجتماعي.
ولننظر إلى كم التنبيهات التي يرسلها فيسبوك حين يحثك على حضور فعالية ما، فأنت تدرس احتمالية حضورها على الأقل؛ كما قد تزور صفحة الفعالية أو تشير إلى أنك "مهتمّ"، وفي بعض الأحيان قد تعقد العزم على الحضور.
ما كان لأيّ من هذه القرارات أن يُؤخذ من طرفك دون استقبال مُحفز من طرف الشبكة الاجتماعية، وماذا لو لم يعمد فيسبوك إلى تحفيزك على التفاعل بهذه الطريقة؟ وماذا لو أن الخوارزميات لم تضع في طريقك توصيات أو قدمت لك اقتراحات من هذا القبيل؟ هل كنت لتكون نشيطاً ومتفاعلاً؟ وفقاً لنظرية الوكز (Nudge Theory) ستكون أقلّ ميلاً للتفاعل في حال عدم توفر ما يشجعك على ذلك. ما لم يحثك فيسبوك على حضور فعاليات وإضافة أصدقاء إلى لائحتك وقراءة الرسائل التي يتركها لك الآخرون أو تهنئتهم على أعياد ميلادهم، فإن الاحتمال ضئيل أنك ستفعل من تلقاء نفسك ما سيؤثر سلباً في حياتك الاجتماعية.
يدرك فيسبوك ذلك جيداً ولذلك يكفي أن تحاول مسح حسابك وستنتبه بسرعة إلى أن الأمر في الحقيقة يتعلق بأرشفة ضخمة لذاكرتك الخاصة والعامة. حين حاولت إحدى كاتبات هذا المقال إلغاء تفعيل حسابها، أخبرها فيسبوك كم أن خسارتها ستكون جسيمة، فثمة ذكريات ستتبخر في طرفة عين وجسور تواصل مع أكثر من 500 صديق ستُدَكّ بلا هوادة، أما أعلى الصفحة ظهرت لها صور خمسة أصدقاء مرفقةً بتعليق: "سيفتقدك فلان". وكأنه يسألك إذا كنت ترغب في أن تحرق خلفك كل السفن ولا تعود إلى التواصل مع أصدقائك إلى الأبد. لكن هل هو يقول الحقيقة؟ فمن يريد حقاً الإقدام على فعل كهذا؟