لعله من الأفضل أن تنظر إلى "حديث النفس" (Self-talk) من زاوية مختلفة حتى تستطيع -بشكل موضوعي بحت- تقييم ذلك الأمر. لنتعرف إلى ماهية حديث النفس، علاقته مع الوعي بالذات، وأثره في الصحة العامة للإنسان بكل جوانبها وأهمها النفسية والعقلية. وأيضاً سنتعرف إلى تعزيز فرص الاستفادة منه، ومتى تصبح تلك الممارسات خطِرة على صحتنا.
حديث النفس من منظور علم النفس
إن التحدث مع النفس ليس بالأمر الخطر والمقلق في كل الأحوال. الأمر طبيعي وقد يحدث لمليارات البشر عدة مرات كل يوم وفي بعض الأحيان، أكثر من مرة في نفس الدقيقة!
في بحثهما حول هذا الأمر، يشير الباحثان "توماس برينتهاوبت" و"آلان مورين" إلى أن حديث النفس الطبيعي يمثِّل ذلك "الكلام الداخلي" (Inner Speech) الذي يحدث طبيعياً أو تلقائياً سواءً في صمت تام بداخلك أو بصوت عالٍ.
وفي ورقة علمية بعنوان "نحو ظاهرة الحديث الداخلي" (Toward a Phenomenology of Inner Speaking)، يصف العلماء الكلام الداخلي بمرادفات مختلفة في المنشورات العلمية مثل "الحلقة الصوتية" (Phonological Loop)، "التصريحات الذاتية" (Self-statements)، "الحوار الداخلي" (Internal Dialogue)، "التفكّر اللفظي" (Verbal Thought) وعدد من الأسماء الأقل انتشاراً.
فعلى سبيل المثال؛ قد يتحدث المرء لنفسه عندما يرى خبراً عن احتمالية هطول الأمطار في اليوم التالي بعد الظهيرة قائلاً: "من الأفضل أن أحضر مظلتي معي إلى مقر عملي صباح الغد!"، أو يقول في نفسه بعد يوم طويل وشاق "أشعر بالتعب".
حديث النفس وتنظيم الذات
وقد يمارس البالغون أيضاً حديث النفس لأغراض إدارة وتنظيم الذات، التنقل المكاني أو البحث عن شيء ما، التركيز والتحكم بالعواطف أو التعبير عنها.
ومن الجدير بالذكر أن أي ممارسات ذهنية غير لفظية لا تعتبر من حالات وأشكال حديث النفس. يشمل ذلك الأحاسيس الجسدية، العواطف، الصور الذهنية والتفكير المجرّد الذي يخلو من الرموز بطبيعة الحال.
فعلى الرغم من إمكانية حدوث الكلام الداخلي بسبب أيّ من الممارسات الذهنية غير اللفظية السابقة؛ إلا أن الفرق بينهما واضح ويجعل من السهل علينا تتبّعه عندما نقوم به بشكل واعٍ.
وينشأ حديث النفس من البيئة الاجتماعية للأفراد؛ حيث يأتي الحوار الاجتماعي أولاً، يليه الحوار الخاص، ثم يأتي أخيراً حوار النفس الداخلي.
وتؤكد عقود من البحث في علم النفس التنموي والمعرفي والتعليمي والشخصي على الدور المهم للكلام الداخلي من أجل إدارة وتنظيم الذات، فهز يتضمن التخطيط وحل المشكلات.
مثلاً قد نتحدث مع أنفسنا من أجل:
- تحديد أصل مشكلة ما بقول: "كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟".
- تحديد أفضل أسلوب علينا انتهاجه لمشكلة نواجهها بقول: "عليّ أن أجرّب ذلك النهج وتقييم ردود الفعل".
- إنتاج رد فعل فعّال يحل المشكلة بقول: "صب تركيزك على تلك المهمة أولاً".
- تقييم الملاحظات النظرية اليومية بقول: "حسناً، نجحت في فعل ذلك!".
- وأخيراً؛ لتكوين ملاحظات توجيهية بقول: "القهوة ساخنة! عليَّ توخي الحذر وعدم سكبها على نفسي!".
حديث النفس والوعي بالذات
باختصار؛ يُعبّر الوعي بالذات عن كُل فعل نتخذه لمعالجة المعلومات المتعلقة بذواتنا. ومن الممكن تلخيص ارتباط الكلام الداخلي مع الوعي بالذات من خلال حقيقة أننا نمارس الكلام الداخلي بشكل رئيسي عند وصف وتعريف وفهم أنفسنا.
فعلى سبيل المثال؛ يُعاني المصابون بتلف في الدماغ من عيوب ملحوظة في عمليات الكلام الداخلي. وفيما يتعلق بالممارسات الأساسية للوعي الذاتي، بحسب تعبير أستاذ علم النفس في جامعة ماونت رويال الكندية آلان مورين، يمكن للحديث مع النفس أن يهيئ الظروف لإعادة خلق الأطر الاجتماعية الموجودة بالفعل للتعلم أكثر عن الذات. كما أن استخدام المفردات المعقدة لغوياً عند تقييم تلك التجارب الداخلية في عمليات التحدث مع النفس يزيد من معرفة الذات.
بالإضافة إلى ذلك؛ تشير الأدلة العلمية أيضاً إلى دور الكلام الداخلي في الوعي الذاتي والتفكير. ففي العديد من الدراسات، وجد مورين أن هناك ارتباطات إيجابية كبيرة بين "مقاييس البُنى المتعلقة بالذات" (Self-related Constructs)؛ بما في ذلك الوعي الذاتي وحديث النفس، والنشاط المتزايد للتلفيف الأمامي السفلي الأيسر (Left Inferior Frontal Gyrus) -نتوء أو انثناء بين شقين في الدماغ- في أثناء إكمال العديد من مهام التفكير الذاتي؛ مثل تزكية السمات الشخصية، كتابة المذكرات الشخصية وتوليد وتقييم التصورات العقلية للمستقبل المحتمل.
وأيضاً قد تتوفر لدينا بعض الأدلة غير المباشرة التي تأتي أثناء العلاج من خلال أحاديث النفس الحوارية (Dialogic Self-therapy). وذلك نتيجة مساهمتها المتمثلة في زيادة استخدام المشاركين للحوارات الداخلية عند العمل على فهم التجارب الشخصية من خلال "سرد الذات" (Self-narration)، وزيادة مهارات التفكّر في الذات.
حديث النفس والصحة
بناءً على ما سبق؛ من المنطقي جداً أن يجد العلماء استخدامات فعّالة لحديث النفس ترتبط بأثر إيجابي في الصحة. مجرّد التفكير في حقيقة أن حديث النفس شيء طبيعي، بإمكانه صنع الفارق وجعلك أكثر قدرة على خلق حوارات داخلية بناءة.
ومن الأمثلة المرتبطة بتعزيز الصحة النفسية والعقلية؛ يمكن لحديث النفس أن يساعدنا على البقاء متحفزين. ذلك خصوصاً عند توجيه عبارات تحفيزية لأنفسنا تخلو من ضمير المتكلم "أنا" كقول: "أنتَ تستطيع تحقيق ذلك الهدف!" أو "أنتِ قادرة على إنجاز تلك المهمة!".
ويمكننا تسخير حديث النفس في سبيل التعامل مع مشاعرنا المؤذية أو السلبية. مثلاً؛ من خلال تكوين صوت داخلي يفنّد تلك المشاعر أو العواطف ويساعدنا على فهمها وإدارتها ومن ثم التخلص منها بشكل سليم.
ومن ناحية أخرى؛ قد يساعد حديث النفس الإيجابي على تمكين أجسادنا من فعل أشياء صعبة، مع الحفاظ على تركيز أعلى وتدفق أفضل للهرمونات التي قد تثبّط من شعورنا بالضغط.
فمثلاً تخبرنا دراسة حديثة منشورة في مجلة علم النفس الفيزيولوجي (Psychophysiology) اهتمت بتحليل أداء بعض العدّائين المحترفين وقارنت بين أثر حديث النفس الإيجابي والسلبي، أن لحديث النفس الإيجابي تأثير إيجابي ملحوظ في أنماط الاستجابة الجسدية الهرمونية، وردود فعل إيجابية ملحوظة في وظائف القلب والجهاز التنفسي، وأثر إيجابي في المجهود المحسوس.
كيف أستفيد من حديثي مع نفسي؟
أعتقد أننا الآن قد وجدنا عدداً من الأسباب المنطقية التي بإمكانها شرح مسببات حديث النفس وآثاره فينا. لذا هنا سنتعرف إلى النصائح التي من الممكن الاستفادة منها للاستمرار في ممارسته تعظيم أثره في صحتنا:
- استخدم المفردات أو العبارات الإيجابية فقط: ومن ذلك إعادة صياغة بعض الأفكار السلبية. كقول: "اجتهدت كثيراً ولفترات طويلة. اصبر واحرص على الاستمرار في بذل المزيد من الجهد لتحقيق ما تريد!" بدلاً عن: "لن يحصل ذلك أبداً لأنك لم تجتهد بشكل كافٍ!".
- استفد من حديث النفس: استخدمه لتتعلم أكثر وتحرّك نفسك باتجاه إيجاد حلول المشاكل التي تواجهها.
- اجعل حديث النفس مساعداً لك: تحفيز الانتباه لما قد يعكر صفو مزاجك أو يقلقك أو يساهم في ظهور مشاعر الاكتئاب والتوتر لديك؛ وذلك من خلال التفكّر في مسببات تلك التغيرات.
- تجنّب استخدام ضمير المتكلم ”أنا“ قدر الإمكان: وجّه لنفسك المفردات أو العبارات الإيجابية وكأنها قادمة من الآخرين تجاهك. ذلك يسهل للدماغ الاقتناع بما تتضمنه.
متى يصبح حديثي الداخلي خطراً على صحتي؟
إذا أصبحت الأصوات مزعجة أو مشتتة للانتباه فمن الأفضل طلب المساعدة التخصصية على الفور. يمكن للمعالج المُدرَّب أن يقدم إرشادات مناسبة تساعد على استكشاف الأسباب المحتملة لهذه الأعراض. ومن صور الحاجة إلى دعم المعالج النفسي المتخصص أن تجد الرغبة الداخلية فيما يلي:
- التوقف عن التحدث إلى نفسك ولكن لا يمكنك التخلص من هذه العادة بمفردك.
- الشعور بالضيق أو عدم الارتياح بشأن التحدث إلى نفسك.
- الشعور بوصمة عار بعد أن تتحدث إلى نفسك.
- تفضيلك للتحدث مع نفسك والانعزال عن محيطك بشكل مبالغ فيه.
في الختام؛ الكلام الداخلي أو حديث النفس من أبسط صور التحاور مع الذات وفهمها، وبإمكانه إحداث الفرق معرفياً واجتماعياً وصحياً متى كنّا حريصين على صياغته بشكل إيجابي وجعله داعماً لنا في مساعينا لإدارة ذواتنا وتنظيم تفاعلاتها مع محيطنا.
اقرأ أيضاً: طبيبك النفسي أقرب مما تتصور!