ملخص: توصّل الباحثون منذ سنوات عديدة إلى نتائج تؤكد أن تلوث الهواء يؤثر في القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي؛ لكن مؤخراً، اتضح أن تلوث الهواء يمكن أيضاً أن يؤدي إلى اضطراب نفسيتك، فكيف يحدث هذا الأمر؟ الإجابة يتضمنها هذا المقال.
محتويات المقال
هل فكرت من قبل في الهواء الذي تتنفسه كل يوم؟ إنه جزء أساسي وغير مرئي من حياتك وغالباً ما يُتجاهَل؛ المدينة المليئة بالضباب الأصفر الذي يحوم في الأفق، السماء الرمادية ورائحة الانبعاثات الصناعية، هذه المناظر كلها ليست مجرد خلفية لروتينك اليومي المعتاد، إنها تؤثر تأثيراً كبيراً في صحتك النفسية والجسدية. وفي الوقت الذي عرف فيه العلماء منذ السبعينيات أن المستويات العالية من تلوث الهواء يمكن أن تضر بصحة القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي؛ ما يزيد خطر الوفاة المبكرة بسبب أمراض القلب والرئة، فإن تأثير تلوث الهواء في الصحة النفسية أُدرك في وقت متأخر، فكيف يمكن أن يؤدي تلوث الهواء إلى اضطراب نفسيتك؟ الإجابة يقدمها لك هذا المقال.
ما هو تلوث الهواء؟
تؤكد منظمة الصحة العالمية (The World Health Organization WHO) إن تلوث الهواء يؤدي إلى وفاة أكثر من 3 مليون شخص كل عام؛ وذلك لأنه يضر بالقلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي، ويُعرف تلوث الهواء بأنه وجود خليط متنوع ومعقد من المواد الكيميائية أو الجسيمات أو المواد البيولوجية في الهواء المحيط والتي يمكن أن تسبب ضرراً للإنسان و الكائنات الحية الأخرى، ويمكن أن تكون مصادر تلوث الهواء طبيعية مثل الانفجارات البركانية، أو من صنع الإنسان مثل الانبعاثات الناتجة من التطور الصناعي.
أما عن ملوثات الهواء فهي تشمل: أوكسيد النيتروجين (NOx) وأوكسيد الكبريت (SOx) وأول أوكسيد الكربون (CO)، والبنزين والعديد من المعادن مثل المنغنيز (Mn)، والزرنيخ (As)، والكادميوم (Cd)، والرصاص (Pb)، والزئبق (Hg)، والنيكل (Ni)، والألمنيوم (Al)، والفاناديوم (V) المتولدة عن حركة مرور الشاحنات، والانبعاثات الصناعية، هذا بالإضافة إلى الجسيمات (PM)، والأوزون (O3)، وعادة ما يحدث تلوث الهواء بسبب:
- حرق الوقود الأحفوري.
- الغاز المستخدم في المنازل.
- الحرق المكشوف لمخلفات النفايات.
- التحلل الإشعاعي.
- المنتجات الثانوية لتوليد الطاقة وعملية التصنيع.
- الأبخرة الناتجة من المصانع الكيماوية.
كيف يؤثر تلوث الهواء في الدماغ؟
يعاني الأشخاص الذين يتنفسون الهواء الملوث تغيرات داخل مناطق الدماغ التي تتحكم في العواطف. ونتيجة لذلك؛ قد يكونون أكثر عرضة إلى الإصابة بالقلق والاكتئاب من أولئك الذين يتنفسون هواء أنظف، والحقيقة أن تأثير تلوث الهواء في الدماغ يكون من خلال الجزيئات المتناهية الصغر المنبعثة من عوادم السيارات، ويمكن أن تؤثر في الدماغ إما على نحو مباشر عن طريق الانتقال عبر الأنف إلى الدماغ، وإما على نحو غير مباشر عن طريق التسبب في التهاب وتغيير الاستجابات المناعية في الجسم.
ويبدأ تأثير تلوث الهواء في أدمغتنا قبل الولادة؛ حيث أثبتت الأبحاث العلمية أن الأم التي تستنشق الكربون الأسود؛ وهو أحد مكونات التلوث بالجسيمات، تنقل تلك الملوثات إلى الجنين بعد الولادة؛ حيث عُثر على جزيئات تلوث الهواء السامة في رئات الأجنة وأدمغتها.
كما وجدت دراسة بحثية نشرتها مجلة وجهات نظر الصحة البيئية (Environmental Health Perspectives) عام 2022 أن الأمهات اللاتي تعرضن إلى مستويات أعلى من ثاني أوكسيد النيتروجين في أثناء الحمل، خاصة في الثلثين الأول والثاني، كان لديهن أطفال أكثر عرضة إلى المشكلات السلوكية. وفي هذا السياق، توضح أستاذة الصحة العامة في كلية الطب بجامعة ويسكونسن (The University of Wisconsin)، كاثرين كار (Catherine Karr)، إن هذه الدراسة تؤكد أن تلوث الهواء يشكل عامل خطر على النمو العصبي الصحي للطفل.
اقرأ أيضاً: ما هو الإجهاد التأكسدي؟ وكيف تحمي نفسك منه؟
كيف يؤثر تلوث الهواء في الجهاز العصبي المركزي؟
يعتقد الباحثون أن الطريقة الأساسية التي يؤثر بها تلوث الهواء في الجهاز العصبي هي من خلال الالتهاب، فمن المعروف أن تلوث الهواء يخلق استجابات التهابية داخل الجسم، ويمكن أن يؤدي الالتهاب المزمن في الدماغ إلى إتلاف الخلايا العصبية والاستجابات التنظيمية للجهاز العصبي. وتُظهر الأبحاث التي أُجريت على الحيوانات أن تلوث الهواء يمكن أن يدخل إلى الدماغ ويسبب هذا الالتهاب من خلال مجموعة متنوعة من المسارات:
- عن طريق عبور حاجز الدم في الدماغ، أو الحاجز الوقائي بين الأوعية الدموية في الدماغ والخلايا التي تشكل أنسجة الدماغ التي تعمل على خلق دفاع ضد مسببات الأمراض والسموم الموجودة في الدم.
- عن طريق دخول الخلايا العصبية الشمية التي تربط الأنف بالدماغ؛ حيث يُستنشق الهواء الملوث إلى الأنف ويمكن أن يؤدي إلى تلف الخلايا العصبية.
- عن طريق الدخول إلى المعدة والجهاز الهضمي؛ حيث يوجد الجهاز العصبي المعوي؛ الذي يُشار إليه غالباً باسم "الدماغ الثاني" لأنه يؤثر بشدة في الحالة المزاجية.
قد يسبب تلوث الهواء في بعض الأحيان التهاباً مزمناً في الدماغ، وتشوهات في المادة البيضاء، وتنشيط الخلايا الدبقية الصغيرة؛ ما يزيد خطر اضطرابات طيف التوحد، واضطرابات التنكس العصبي (مثل مرض آلزهايمر (AD) ومرض باركنسون (PD)، والسكتة الدماغية، والتصلب المتعدد (MS)
ما العلاقة بين تلوث الهواء والاضطرابات النفسية؟
أكدت دراسة بحثية أجرتها المكتبة الوطنية للطب (The National Library of Medicine NLM) خلال عام 2017 أن تلوث الهواء الناجم عن عوادم السيارات يسبب الكثير من الآثار الضارة، ليس فقط على صحة القلب والرئتين؛ ولكن أثره الضار يمتد إلى الصحة النفسية حيث يؤدي إلى زيادة الإصابة بالاكتئاب والقلق، ويمكن أن يعمل على ضعف الذاكرة؛ وذلك لأن دخان عوادم السيارات يتكون من ثاني أوكسيد الكربون (CO2)، وأول أوكسيد الكربون (CO)، وثاني أوكسيد النيتروجين (NO2)، بالإضافة إلى الهيدروكربونات، والتعرض إلى هذه الغازات يعمل على ارتفاع مستويات الإجهاد التأكسدي في الدماغ الذي يحدث نتيجة اختلالات في مضادات الأكسدة مؤدياً إلى ضعف الذاكرة.
وفي سياق متصل، يؤدي تلوث الهواء الناتج من دخان حرائق الغابات إلى تراجع الصحة النفسية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال؛ وجد الباحثون صلة بين تلوث الهواء المتجسد في الدخان وارتفاع معدلات الانتحار.
ومن جانبه، يؤكد أستاذ الطب النفسي بجامعة أكسفورد (the University of Oxford)، كام بهوي (Kam Bhui)، إن التعرض إلى تلوث الهواء يؤدي إلى الاكتئاب والقلق والذهان والاضطرابات المعرفية العصبية مثل الخرف، وعادة ما يحدث الاكتئاب بسبب نقص المساحات الخضراء وارتفاع نسبة هرمون التوتر (الكورتيزول).
وفي دراسة بحثية أُجريت عام 2011 ونُشرت في المكتبة الوطنية للطب (The National Library of Medicine NLM)، عرض الباحثون الفئران لمادة الجسيمات (PM) مدة 8 ساعات في اليوم 5 مرات في الأسبوع في فترة امتدت 10 أشهر، ووجد الباحثون أن تعرض الفئران إلى تلك المادة يومياً صعّب عليها تعلم مهارات جديدة؛ حيث استسلمت بسرعة أكبر في أثناء المهام الصعبة وبدا أنها فقدت الاهتمام بالأنشطة التي كانت متحمسة لها في السابق؛ مثل الحصول على رشفة من الماء المضاف إليه السكر. وفي نهاية الدراسة، تَبين للباحثين أن تعرض الفئران إلى مادة الجسيمات أدى إلى ظهور أعراض الاكتئاب وفقدان الاهتمام بالمتع البسيطة.
ثم نظر الباحثون من كثب إلى الاختلافات في أدمغة الفئران المكتئبة المعرضة إلى تلوث الهواء وتلك التي لم تتعرض إلى أي تلوث ولم تظهر عليها علامات مماثلة للاكتئاب، وتبين أن الفئران التي تعرضت إلى التلوث لديها كمية أكبر بكثير من السيتوكينات في أدمغتها؛ وهي علامة ملحوظة على الالتهاب الذي يسهم في الإصابة بالاكتئاب والقلق.
اقرأ أيضاً: ما هو الإجهاد التأكسدي؟وكيف تحمي نفسك منه؟
4 إرشادات لتحمي نفسك من تلوث الهواء
يوضح أستاذ أمراض الحساسية والمناعة، مجدي بدران، إن التعرض إلى مستويات مرتفعة من ملوثات الهواء يؤدي إلى الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي المختلفة؛ بما فيها الربو ومرض الانسداد التنفسي المزمن والتهاب الشعب الهوائية، هذا بالإضافة إلى أنه يؤثر في المخ ويؤدي إلى العصبية وبطء الاستجابة. وحتى تحمي نفسك من تلوث الهواء، عليك اتباع الإرشادات التالية:
- تابع توقعات الطقس على هاتفك: هناك بعض التطبيقات على الهاتف التي ترسل إشعارات يومية بحالة الجو. تابع تلك التطبيقات يومياً قبل مغادرة المنزل، وإذا كان الجو ملوثاً، فحاول البقاء في بيتك وأغلق النوافذ جيداً.
- استخدم قناعاً طبياً: إذا كانت مستوى تلوث الهواء مرتفعاً ويجب عليك الذهاب إلى العمل ولا يمكنك البقاء في البيت، ارتدِ قناعاً طبياً، وعلى الرغم من أن تلك الأقنعة لا توفر العناية الكاملة فإنها فعالة؛ ولكن حاول شراء الأقنعة التي تعمل على تصفية الهواء من الجزيئات الأكبر حجماً.
- تناوَل طعاماً صحياً: العديد من الأطعمة يمكن أن تعزز صحة الرئة والمناعة طبيعياً، وهذا يمكن أن يحميك من الآثار الضارة لمستويات التلوث العالية. لذا أضف ما يكفي من الفواكه والخضروات والمكسرات والبقوليات والدهون الصحية إلى نظامك الغذائي.
- رشّد استهلاك الكهرباء في بيتك: يؤدي توليد الكهرباء ومصادر الطاقة الأخرى إلى تلوث الهواء؛ ولكن عند ترشيد استخدام الطاقة، ستساعد على تحسين جودة الهواء والحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.