"لا يمكن أن نكون بخير وحدنا" إنها صرخة إنذار أطلقها أستاذ الطب النفسي الشهير "إدوارد زاريفيا": دعونا نتواصل مجدداً بالتحدث مع بعضنا وننسج روابط حقيقيةً مع الآخرين حتى نتلذذ بالحياة من جديد.
كيف حالك؟
"إذاً كيف حالك؟"، "هل أنت بخير؟". هذان أكثر من مجرد سؤالَين حقيقيين تلزمهما إجابة صادقة ومدروسة. "كيف حالك؟ هي عبارة تقليدية تستخدَم للتواصل مع الآخرين في جميع اللغات. وجرت العادة أن تكون الإجابة عنها: "بخير" لأن السائل لا يقصد من سؤاله بالضرورة أن يستمع إلينا نروي مصائبنا. "كيف حالك؟ تعني: "أتمنى أنك سعيد بحياتك وأنك تنال ما تتمناه فيها".
فأن تكون على ما يرام بشكل عام ليس دائماً مسألة شعور (أن تشعر أنك على ما يرام نفسياً وجسدياً)؛ فقد يشعر أي شخص بالضيق والاكتئاب والقلق عندما يبدأ بالشعور بأنه يتحسن وعندما يتواصل أخيراً مع ذاته. لنأخذ حالة هذا الرجل مثالاً، فقد تظاهر لسنوات بأن جميع أموره تسير على ما يرام من خلال تجاهله عيوبه وإنكاره كراهيته لأمه غير المُحبة ومشاكله مع الحب، ليسقط عنه قناع الرجل المتوازن في اليوم الذي قرر فيه مواجهة مشاكله. لذا إذا أراد من حوله أن يحكموا على حالته بناءً على مظهره لا شك أن في رأيهم سيكون: إنه فعلاً أسوأ من ذي قبل.
تكون عبارة "على ما يرام" غالباً مرادفةً لكلمة "عادي"؛ إذ نميل إلى أن نقول عن شخص نرى أنه يؤدي دوره بشكل عادي ولديه زوجة وأطفال ووظيفة ويدفع إيجار منزله وضرائبه: "هذا الشخص بخير، وحياته عادية". لكن كما يوضح البروفيسور "إدوارد زاريفيا"؛ أن تكون على ما يرام لا يعني أن يكون كل شيء عادي كالمتعارف عليه. فلا يمكن لأحد سوانا أن يقيم حالتنا الداخلية، ولا أحد سوانا يستطيع أن يعرف ما نحتاجه لنكون على ما يرام، واحذر ممن يدعي أنه يستطيع ذلك. إذاً كيف حالك؟
المبادئ الرئيسية من إدوار زاريفيا
"برأيي؛ إحساس المرء هو ما يحدد أنه على ما يرام أم لا، ولن ينعم بهذا الإحساس إلا استوفى الشروط الثلاثة التالية: أن يكون متصالحاً مع ماضيه (لا أندم على ما فات، وتأنيب الضمير لا يقض مضجعي)، أن يقدّر الحاضر (لا أعيش صراعاً يشتتني)، ألا يخاف من المستقبل (الأمل أجمل شعور عرفه الإنسان). ومن جهة أخرى؛ الشعور بالرضا يعني انسجام أبعاد الوجود الثلاثة: الحقيقة والخيال (القدرة على رسم الخطط) والرمزية (حيز التصرفات المتبادلة والتعبير العاطفي).
إن تشكيل هذه الرابطة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الحقيقة والخيال والرمزية يمنحك فوراً شعوراً أفضل. لكن هذه الفكرة لا تنطبق على الأفراد المضطربين لدرجة كبيرة؛ إذ يمكن أن يرى مريض نفسي يعاني من حالة هذيان شديدة وإنكار كلي للواقع بأنه على أفضل ما يرام. لكن لو كان قادراً على التمهّل والابتعاد بما يكفي لرؤية الأمور بشكل أوضح وانتقاد نفسه سيدرك أنه ليس على ما يرام أبداً".
لا تنفع الوحدة أحداً
"توجد فكرة واحدة مؤكدة: لا يمكننا أبداً أن نكون بخير بمفردنا، دون شخص آخر على الأقل لنتبادل معه الحديث والمشاعر. وإذا استحوذت علينا أي معاناة نفسية سنحتاج أيضاً إلى مساعدة شخص آخر: ألا وهو المعالج. من ناحية أخرى فلا أحد يستطيع أن يملي علينا ما نحتاجه لنكون بخير؛ وحدنا من نقدر على العثور على الوسيلة لتحقيق ذلك. لهذا السبب أرفض تقديم التوجيهات.
سأقنع نفسي بأن التحدث والمحبة وتقديم المساعدة هم ثلاثة أفعال تمثل جوهر إنسانيتنا وتضفي معنىً لوجودنا. فدون الكلام لا وجود للحياة الروحية؛ وبالتالي لا يمكن عيش المشاعر الداخلية/ لا يمكن إظهار ذاتنا الداخلية. وأهمية المحبة لتطور الكائن تماثل أهمية الماء والشمس للحياة. وأعتقد أن المساعدة المتبادلة ضرورية لاستدامة الإنسانية داخلنا، فهي المقابل النفسي لعملية التكاثر البيولوجي لاستمرار أي فصيلة.
يولد العظماء من رحم المعاناة
"لا يسعني إلا أن أعتقد أنه لا بد للمرء أن يعيش معاناة شخصية حتى يكون إنساناً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ إذ نستخلص منها مغزىً دائماً وتنير بصيرتنا حول ذاتنا والآخرين من حولنا وتمكننا من إدراك ما يشعر به الآخرون حتى لو لم نعِش ما يعيشونه يوماً؛ وهذا ما يسمى بالتعاطف. والمعاناة رمز للطبيعة المعقدة للوجود، ففي معظم الأحيان تنتج عن المعنى والقيمة العاطفية التي ننسبها إلى الأفعال المتبادلة أو الأحداث.
لنطرح مثالاً من الحياة المهنية التي تبدو أنها اليوم تسبب معاناة يومية شديدة لكثير من الناس؛ يأتي مديرك المباشر إليك ويخاطبك بلهجة حادة: "لم تبذل أي جهد في إعداد تقريرك عن تطوير شركة "دوشامان" (Duchemin)"، ثم يغادر الغرفة ويتركك وحيداً مع هذا الحكم القاتل. لو قالها لك شخص غريب لما تأثرت؛ لكنها صادرة من شخص ذو سلطة عليك وتتوقع منه أن يقدِّر جهودك المبذولة. وستكون مشاعرك أكثر إيلاماً لو كنت تمجّد مديرك، تمر بفترة عصيبة و/أو تنزع إلى الحطّ من قيمة نفسك. ولا نغفل أن احتمال خسارتك لعملك يعد مشكلةً حقيقيةً بالنسبة لك؛ لكن صورتك وصورة مديرك في ذهنك هي التي تحدد درجة شدة المعاناة النفسية التي ستشعر بها.
فإذا كنت واثقاً من نفسك سترى أن تصرف مديرك كان بسبب مزاجه المتعكر. أما إذا لم تكن واثقاً بنفسك فسيتردد صدى كلماته في ذهنك وستعده تأكيداً على رداءة عملك. ونحن فعلاً في الوقت الحاضر نميل إلى جعل نجاح الإنسان المادي مقياساً يحدد قيمته، وهذا انحراف عن طريق الصواب،
فقيمة كل منا عظيمة بصرف النظر عن حجم حسابنا المصرفي ومنصبنا الوظيفي".
تعلّم كيف ترمم ذاتك
"قد تكون الكلمة بلسماً يهدئ النفس ويسكّن الألم، وقد تكون سلاحاً فتاكاً أكثر من رصاصة تصيب القلب. فحتى نحمي أنفسنا منها ينبغي لنا أن ننتهي عن التصرف بسلبية عند تلقّيها ونحولها إلى موضوع للتساؤل: لماذا قسا عليّ الطرف الآخر هكذا؟ لماذا أنا مستاء حالياً؟ هل يستحق الأمر هذا الاستياء؟ قبل كل شيء يجب أن ندرك أنه في مجال الأفعال المتبادلة بين البشر لا وجود للواقع؛ وإنما كل شيء هو مجرد وهم، فتصورنا عن أنفسنا وعن الآخرين هو من صنع نفسنا. وكذلك الأمر بالنسبة للمعاناة والرفاه،
فحتى في ألم الحداد على وفاة شخص آخر، ليس اختفاؤه نهائياً من حياتنا هو ما يؤلمنا وإنما اختفاء الرابط الذي كان يجمعنا به والإدراك المؤلم أننا بفقدانه فقدنا جزءاً منا، فإن جزءاً من وجودنا كان من خلاله، في ذكرياتنا معاً، في صورتنا في ذهنه. والحالة نفسها عندما نغادر منزلاً عشنا فيه زمناً طويلاً، أو حتى عندما نفقد أي شيء حسي مثله كمثل الوهم، أو حتى عندما نُجرَّد من مسؤوليات في عملنا؛ نشعر وكأنهم يستأصلون جزءاً منا. ومن هنا تنبع الحاجة إلى عملية ترميم داخلي ونمو وتغيير. علماً أننا كلما اشتد ارتباطنا العاطفي والرمزي بالشخص أو الشيء الذي فقدناه اشتدت صعوبة ترميمنا لذاتنا وتطلبت بذل جهد عظيم. وأعيد وأكرر: لتحقيق ذلك نحتاج إلى دعم شخص آخر.
الافتقار إلى الحب
"إن الاستمتاع بالأفعال المتبادلة مع الناس والثقة بهم يكون مسألةً شائكةً أكثر بالنسبة للأشخاص الذين افتقروا إلى الحب والتقدير والكلمات المطمئنة عندما كانوا أطفالاً. لحسن الحظ أن حياتنا ليست مشروطة كلياً بالنواقص التي نعاني منها ويمكننا أن نتغير متى أردنا. فإذا لم نستطع تغيير الماضي؛ نستطيع تغيير المستقبل وتعديل مصيرنا.
ولسنا ملزَمين بالخضوع لعلاج نفسي متعمق لتحقيق ذلك ما لم تستدعِ الحاجة ذلك طبعاً؛ بل يكفي لنحقق ذلك غالباً أن ننمي أنفسنا، ونطرح الأسئلة الصحيحة عليها، ونبذل جهدنا في الانفتاح على الآخرين ومراقبة ما يدور حولنا: "لن يتخلى الآخرون عني. يمكن أن أكون مهماً للآخرين. ربما يمكنني أن أسمح لنفسي بأن أثق بهم".
العثور على الكلمة المناسبة
"بالنسبة لي تنبع الكآبة التي تكتنفني من قلة التحدث مع الآخرين والروابط بيني وبينهم ومعالم الهوية. تنتج هذه المعاناة النفسية عن العزلة التي يولدها هذا المجتمع المادي الذي يخلط بين احترام تفرُّد كل شخص وعبادة الفرد.
إن الحديث، بالمعنى الذي أفهمه، لا علاقة له بالثرثرة. فما يكمن خلف الكلمات يترجم أولاً نية المتحدث بلمس كينونة الآخر معنوياً لتوصيل رسالة ضمنية له مفادها: "أنا مهتم بك. هذه مكانتك لدي، وهذه مكانتي التي آمل أن أشغلها لديك". أعتقد أن دردشتك مع الآخرين من دون أن تكون مسؤولاً عن كلماتك أو تصغي إلى من يحدثك، كما هو الحال في معظم الأحيان، لا تعد حديثاً بينكما. وحده التضامن هو الذي يجعل مشاعرنا واقعيةً. والأهم من ذلك؛ إنه العنصر الأساسي الذي يزيد سعادتنا ويتيح لنا العيش بسعادة مع الآخرين. ستكون حياتنا أسعد إذا كان الأخذ والعطاء جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية.
لكنني متفائل واعٍ، فأنا أؤمن أن البشر سيكونون قادرين على حماية الركيزة التي تقوم عليها إنسانيتهم. عندما أرى نجاح المدوّنات، هذه المذكرات الخاصة التي تنتشر على الإنترنت، وتعميم الهواتف المحمولة، ومختلف الأماكن العامة المكتظة بالأشخاص الذين يجتمعون للدردشة معاً، تزداد ثقتي بقدرتهم، إضافةً إلى مختلف الجمعيات التي أنشئت، حتى لو كانت مجرد نادٍ للصيادين أو اتحاد للاعبي الكرة الحديدية. المفتاح هو خلق الفرص للالتقاء بإقامة احتفالات ومراسم. نعم أؤمن حقاً أنه لا يزال لدينا الكثير في جعبتنا لنتحدث فيه مع بعضنا.
آراء الأطباء النفسيين
العالم في سلوك الحيوان والطبيب النفسي "بوريس سيرولنيك":
كيف تعرف ما الذي يجري على ما يرام؟ توجد إشارات تدل على "السير السيئ للأمور": الشعور بالضيق والألم الذي تشعر به في موضع واحد أو أكثر من موضع والإعياء وما إلى ذلك. لكن لا وجود لإشارات تدل أن الأمور "تسير على ما يرام"، فنحن لا ندرك أننا بخير عندما نكون كذلك. قد تراودك لحظة حماس تجعلك تصيح فجأةً: "أنا بحالة رائعة الآن" لكن لحظة الحماس هذه لا تستمر. التعريف الوحيد الذي يمكنني تقديمه لـ "سير الأمور على ما يرام" هو: "عندما لا تسوء".
من كتاب "الحديث عن الحب على حافة الهاوية" (دار "أوديل جاكوب" (Odile Jacob)، 2004).
المؤرخة والمحللة النفسية "إليزابيت رودينيسكو":
قبل ثلاثين عاماً كنا نسأل أنفسنا عن السعادة. اليوم نسأل أنفسنا : ”ما الذي يسير على ما يرام؟”. استُبدِل التساؤل السياسي والفلسفي بالتساؤل الفردي والنفسي. وعلى عكس سؤالنا عن السعادة؛ لا يمكننا الاعتماد على أي معيار تاريخي - سياسي - نظري للإجابة عن سؤال ما الذي "يسير على ما يرام". وحده علم النفس من يجيب عن هذا السؤال وبالتالي جوابه نسبي؛ إذ قد يشعر أي شخص بالرضا في غمرة الأحداث السيئة، أو يشعر بالاستياء مع أن الأمور تسير على ما يرام. لذا هذا سؤال لا يمكن طرحه، ولا يستطيع أحد الإجابة عنه نيابةً عن شخص آخر، فلا يوجد "خبير" في مجال الحياة".
من كتاب "المريض والمعالج والدولة" (The Patient, The Therapist and the State) (دار "فايارد"، 2004).
عالم النفس السريري والمحلل النفسي "دومينيك ميلر":
يمكن للمرء أن "يكون بخير" عندما يغض الطرف عن المشاكل ومواضع الخلل. لكن في الواقع تسير الأمور على ما يرام عندما تسير حسب رغبة المرء؛ أي عندما نعتمد خيارات في حياتنا - شخصية أو مهنية - تتماشى إلى حد ما مع أعمق طموحاتنا، وقد يتحقق هذا دون أن نحدد هذه التطلعات بالضرورة؛ أي من الممكن اعتماد خيارات تتماشى مع رغبتنا دون "أن نعرف" ما هي. وعلى العكس من ذلك؛ تسوء الأمور عندما لا تعيش رغبتك؛ عندما تعيش تناقضاً بين جوهر ذاتك ورغباتك وما تعيشه في الواقع".
من كتاب "التحليل النفسي والحياة" (Psychoanalysis and Life) (دار "أوديل جاكوب"، 2005).
الطبيب والمعالج النفسي "كريستوف أندريه":
أعتقد أنك تستطيع التحقق إذا كنت بخير وفق سياقين: أن تكون بخير في وقت الراحة وأن تكون بخير في وقت العمل. فأما الراحة هي القدرة على التلذذ بلحظة الفراغ، والتواجد في العالم دون أن تفعل أو تفكر بأي شيء. ببساطة أن تشعر بأنك على قيد الحياة بطريقة بيولوجية وغريزية تقريباً وأن تُقدِّر ذلك. وأما في العمل، تكون بخير عندما تكون من جهة قادراً على التغلب على العقبات والتصرف والاستجابة لها دون أن ترهقك. ومن جهة أخرى ألا تفسد الصدف وفرص السعادة التي تقدمها لك الحياة اليومية.
من كتاب "علم نفس الخوف والهواجس والقلق والرهاب" (Psychology of fear, fears, anxieties and phobias) (دار "أوديل جاكوب"، 2004).