كان بإمكاني أن، كان عليّ أن، كان يلزم أن، هكذا "نجتر" أفكارنا التي تشكل مصدر خوف وإزعاج لنا. يعد اضطراب "الاجترار النفسي" أحد أبرز الاضطرابات النفسية المعاصرة التي تنتشر بشكل واسع وتسبب الإرهاق للكثيرين، وفي حين أن عملية "اجترار الأفكار" تتخذ أشكالاً عديدةً؛ إلا أنها تتمحور حول نفس المشاعر لدى الجميع؛ ألا وهي مشاعر الخوف. فيما يلي شروحات ونصائح عملية لتتعلم كيفية وقف اجترار الأفكار.
تعمل أريج؛ 38 عاماً، مندوبةً طبيةً لإحدى الشركات. وفي كل شهر، "تمدح" أريج المنتجات التي صممتها الشركة أمام جمهور من الأطباء، وبعد انتهاء كل نسخة من هذا المؤتمر المصغر، يغزو ذهنها سيل من الأفكار غير السّارة؛ مثل: "ما كان يجب أن أبدأ بهذه الطريقة، بالتأكيد لم يفهموا أي شيء! لقد نسيت أن أذكر العبوة الجديدة، كان يجب أن أدون ذلك باللون الأحمر على صفحتي! ماذا لو طلبوا محاضراً آخر من الشركة؟ سوف أسأل عن رأيهم في أدائي... هل أتحدث إلى رئيسي حول هذا الموضوع؟ لا سوف يضحك عليّ، يمكنني سماعه بالفعل!". في غضون دقائقَ قليلة، أصبحت أريج كاتبة السيناريو والممثلة والمخرجة لفيلم هي الوحيدة التي تصوره وتحرره وتشاهده في مخيلتها.
وبالمثل عانت كوثر؛ 32 عاماً، وهي أم لطفلين، من حالة شبيهة بحالة أريج، وبدأ كل شيء عندما قالت لها معلمة ابنها كامل إنه يعاني من صعوبة في التركيز، وسألتها عما إذا كانت هناك أي مشاكل عائلية في المنزل. منذ ذلك الحين؛ دخلت كوثر في دوامة من الأسئلة: "ماذا قصدت المعلمة بذلك؟ كنت أعلم أن إجبار الطفل الصغير على البقاء في المدرسة لم يكن فكرةً جيدةً؛ لكنني اتبعت نصيحة والده"، وتوضح: "كالعادة استسلمت لأفكاري". وحتى وقت متأخر من الليل كانت كوثر لا تزال تبحث عن حلول لمشكلة ربما تكون افتراضيةً تماماً.
إذا تعرفت على نفسك في هذه المخاوف التي تعاني منها أريج وكوثر، فهذا ليس مفاجئاً؛ إذ تم تحديد فرط التفكير "الاجترار النفسي" الذي وقعتا ضحيةً له على أنه أحد الاضطرابات النفسية المعاصرة.
بين القلق والتفكير
كانت اللغة الشعبية قد تداولت اضطراب "اجترار الأفكار" بشكل فعلي فيما مضى؛ إذ عبرت عن المصابين به بعبارات مثل: "هنالك شيء ما يسيطر على أذهانهم"، "إنهم يصنعون أفلاماً"، "إنهم يشعرون بالهلع". أما على الصعيد العلمي، فكانت أستاذة علم النفس في جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة؛ سوزان نولين هوكسيما، أول من تناول اضطراب "اجترار الأفكار"، وقد تمت ترجمة أعمالها في فرنسا مؤخراً.
وجدت دراسة أُجريت على 1,300 شخص تم اختيارهم عشوائياً، أن 63% من الشباب و52% من كبار السن يمكن اعتبار أنهم يعانون من فرط التفكير. إذاً ما هو هذا النشاط الذهني المفرط الذي يدفع بالبعض لاستهلاك الكحول أو تعاطي دواء البروزاك، عندما لا يستطيعون التعامل مع ضغوطات الحياة اليومية؟ بالنسبة لأستاذة علم النفس الأميركية؛ يرجع ذلك إلى: "مظهر من مظاهر الحساسية المفرطة" التي تؤدي إلى "سيل من المخاوف".
تتضخم الأفكار السلبية لدى من يعاني اضطراب الاجترار النفسي بشكل تدريجي تماماً كما ينتفخ عجين الخميرة. ففي البداية؛ يركز الشخص على الحدث الذي وقع للتو، ثم- شيئاً فشيئاً- ينزلق نحو مواقفَ أخرى من الماضي، والحاضر، ويُلحق هذه الأفكار أخيراً بأكثر الشكوك إثارةً لقلقه.
وتُمثل عملية "إعادة نسج الأفكار" الفوضوية والمهتاجة هذه، الجانب الذي يميز الاجترار النفسي عن القلق. وفي حين أن هذا الاضطراب يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الاكتئاب أو القلق المزمن؛ إلا أنه لا يمكن اختزاله في مجرد مشاعر الحزن أو القلق: "على عكس الشخص الذي يعاني من القلق، فإن من يعاني من فرط التفكير قد تجاوز التفكير في فرضية "ماذا لو"، وصولاً إلى الاقتناع بأن الأسوأ قد حدث بالفعل". وتؤكد عالمة النفس أنه لا علاقة للمنهجية التي يتبعها من يعاني من فرط التفكير بواقع الأمور؛ إذ قد يرى البعض أن طريقة التفكير هذه ما هي إلا دليل على بُعد النظر الذي يتمتع به صاحبها؛ ما يؤهله لاتخاذ زمام القيادة، وهذا غير صحيح.
يقول المحلل النفسي نوربرت شاتيلون: "التفكير هو القدرة على التفريق والتسمية والربط"، أما اجترار الأفكار فهو يمنعنا من تمييز الأمور الجدية بالفعل بالنسبة لنا، وينعكس ذلك على عدم القدرة على تمييز المخاوف الحقيقية، على سبيل المثال: إصابة أحد أفراد الأسرة بمرض خطير".
ويتابع المحلل النفسي: "تجتاح هذه الأفكار أذهاننا دون أن نقدر على استيعابها، بينما يتميز التفكير السليم بالقدرة على تصنيفها"، فعندما "تجتر" أريج وكوثر هذه الأفكار، فإنهما تحاولان التفكير دون التمكن من ذلك، لماذا؟ ربما تكمن الإجابة في كيفية اختبارهما للمشاعر.
- قد يهمك أيضا: كيفية علاج فوبيا المرتفعات.
استمع إلى مشاعرك
توضح الأخصائية النفسية المختصة في جزء "دماغ الزواحف البدائي" من الدماغ؛ كاثرين إيمليت بيريسول: "يعد الشعور بالخوف إشارةً تخبرنا بأننا انتقلنا من حالة الانفتاح إلى حالة الدفاع، ودائماً ما تقبع تهديدات مثل الخوف من التخلي، أو التعرض لإطلاق النار، أو عدم الأهلية، في جذور التفكير. وعندما تتولد لدينا مشاعر الخوف الناجمة عن هذه "الأفكار الجذرية"، فهي تولد بالتالي استجابة "الهرب". نحن نعيش في فترة من تزاحم الأفكار في الذهن وتزاحم الانفعالات الحسية التي تهدف إلى حشدنا لإيجاد الحلول".
لكن وعلى ما يبدو، فإن "آلية الحشد الفكري" هذه قد توقفت لدى غالبيتنا، وتعبر كاثرين آيمليت بيريسول عن ذلك بأسف قائلةً: "بدلاً عن الاستماع إلى خوفنا من أجل تحديد الاحتياجات التي يعبر عنها والتصرف وفقاً لها؛ إذ دائماً ما يكون الخوف محركاً لنا، فإننا نتحمله ونحبس أنفسنا فيه".
وتصف الأخصائية النفسية هذا الشكل من الرضا عن الذات بـ "رد الفعل العنيف" على ثمار الثورة الفرنسية، وتقول: "لقد صنعنا الثورة لنكون قادرين على التعبير عن مشاعرنا؛ ولكننا نستغني اليوم عن نقاطنا المرجعية وقيمنا من خلال كسر هذا الإطار. فأين حرية التعبير عن مشاعرنا في أيامنا هذه؟".
بالنسبة لنوربرت شاتيلون أيضاً، فإن الخوف هو المحرك الرئيسي لـ "عجلة العقل": "إن لفوضى التفكير وظيفة مضادة للاكتئاب؛ إذ تسمح هذه الآلية- على نحو متناقض- بحمايتنا من أعمق مخاوفنا الوجودية من خلال عزلنا عن أحاسيسنا". ولكل شخص طريقته في التعامل مع هذه الفترات من الاضطراب النفسي؛ والذي يمكن أن يكون محفزاً في بعض الأحيان للإبداع لدى الشخص؛ إذ يمكن لهذا الاضطراب أن يولد حدساً وإدراكاً حاسمين لديه.
هل الأنثى أكثر هشاشة من الرجل تجاه فرط التفكير؟
تشير عالمة النفس الأميركية سوزان نولين هوكسيما في الصفحة الأولى من كتابها، إلى أن النساء يستسلمن لفرط التفكير أكثر من الرجال؛ إذ يميل الرجال للتصرف بشكل أسرع وأكثر فعاليةً (تقارير الأكاديمية الأميركية للعلوم، 23 يوليو/ تموز 2002). ويرجع ذلك- وفقاً لها- إلى الثقافة التي تشجع النساء، في وقت مبكر جداً، على الاستماع للآخرين والتحدث عن الصعوبات التي تواجههنّ.
كما يرجع هذا الاختلاف في السلوك إلى حقيقة أن الأحداث- سواء كانت سعيدةً أو حزينةً- ترتبط بالعواطف الأكثر رسوخاً في دماغ الأنثى. وتُعد قدرة المرأة على تذكر التواريخ المهمة؛ مثل ذكرى زواجها، دليلاً على ذلك، بينما ينسى الرجل هذه التفاصيل بسهولة.
إذاً هل ميل النساء لفرط التفكير أمر فطري أم مكتسب؟ كلاهما؛ تؤكد المحللة النفسية هيلين فيكيالي، مؤلفة كتاب "هكذا يكونون: لا نساء حقيقيات دون رجال حقيقيين": "منذ ولادتها، تعتقد الفتاة أنها مرغوبة بشكل أقل؛ إذ تشعر- على سبيل المثال- أنها لا تثير الدهشة في نظر والدتها كونها من نفس الجنس، في "منطقة معروفة" أمامها. لذا فإن إعادة صياغة أفكارها ستكون وسيلةً طُورت دون وعي منها، للهروب من الانزعاج الناتج عن هذه المفاهيم الخاطئة".
كما تضيف المحللة إلى هذا السبب الداخلي، عاملاً مجتمعياً: "تؤثر الصعوبات المرافقة للحضارة في عصرنا الحالي في حياة المرأة بشكل أكبر، وبشكل خاص تلك التي تجد نفسها ملزمةً بتحقيق النجاح على جميع الأصعدة، فمن دورها كزوجة، إلى دورها كأم وامرأة عاملة. ومن خلال إعطاء أولوية كبيرة لواجباتها المنزلية؛ تجد المرأة صعوبةً في تقسيم مهامها، أثناء التفكير في أهدافها الأخرى".
اقرأ أيضا: هل القلق يسبب نبضاً في الجسم؟