قد تتوقف لوهلة عن فعل أمر ما ثم تتذكر موقفاً قد حصل لك، ومن ثم تبدأ بإجراء حوارات مطولة بداخلك عن سبب ذلك الموقف، وما كان يجب عليك قوله حينها. لا يكاد الإنسان الطبيعي يجد مهرباً من التفكير في الماضي أو المستقبل ومحاولة تخيلهما بشكل مختلف عما يخبره به الواقع. في الحقيقة؛ وصف المشاركون في إحدى الدراسات مفهوم التفكير المفرط على أنه حوار داخلي مستمر وسلبي يزداد حدّة عندما يكون الأشخاص بمفردهم.
هل يؤثر التفكير المفرط في صحتنا النفسية؟
من الملاحظ أن الشخص الذي يمارس التفكير المفرط يصل إلى حالة من عدم الاتزان النفسي والعقلي والجسدي؛ بحيث يصبح في دوامة لا نهائية من التفكير الذي لا طائل منه. وتشير دراسة علمية إلى أن التفكير المفرط (Overthinking) يُعتبر من أهم عوامل الخطر التي قد تؤدي إلى ظهور حالات القلق والاكتئاب الشديد لدى كلٍّ من المراهقين والبالغين. ويشمل مفهوم التفكير المفرط أيضاً عملية اجترار الأفكار والمواقف السلبية (Rumination)؛ حيث من الممكن ملاحظة استخدامهما بشكل متبادل في الأبحاث الأكاديمية. وتضيف إحدى الدراسات أن المراهقين الذين يقعون تحت وطأة التفكير المفرط من خلال اجترار الأفكار والمواقف السلبية، يكونون أكثر عرضةً للعيش في بيئات مليئة بالقلق (Stressful Environments)، ونعلم أيضاً أن الإفراط في التفكير قد يكون من أعراض بعض اضطرابات القلق؛ مثل اضطراب القلق العام الذي يُلاحظ فيه ميل الأشخاص إلى التفكير المفرط في جميع عواقب الأمور التي من الممكن حدوثها دون الوصول لخطط أو حلول سليمة ومناسبة.
لقد عرفّنا القلق مسبقاً على أنه اضطراب نفسي "ينبع من الداخل؛ يكون نتيجةً لمشاعر الخوف أو الأفكار المقلقة، أو في معظم الأحيان بلا سبب واضح ومعروف". ونستطيع الاستنتاج من هذا المفهوم أن القلق قد ينشأ نتيجةً للأفكار المقلقة - التي من السهل حدوثها عند ممارسة التفكير المفرط. ويمكننا تعريف التفكير المفرط على أنه حالة من التفكير غير المنطقي الذي يؤدي إلى خلق تهيؤات غير عقلانية وغير واقعية، نتيجة زيادة التفكير بعمق في مواقف وأفكار حدثت بالفعل أو لا زالت جارية. ويُعرف التفكير المفرط أيضاً بمسمى التفكير المتفاقم -من كتاب "عن قرب" للدكتور شهاب الدين الهواري- والذي قد يتمحور حول الأحداث السلبية التي وقعت في الماضي، أو الأحداث الحالية التي يعيشها الشخص - أياً كانت.
في الحلقة الإذاعية "أوقف تفكيرك المفرط في الأشياء" (Quit Overthinking Things) من هارفارد بزنس ريفيو، يخبرنا إيثان كروس (Ethan Kross)؛ أستاذ علم النفس في جامعة ميشيغان، عن ثلاثة تحولات سلبية تنتج عن التفكير المفرط. التحول الأول أن التفكير المفرط يثبّط أداءنا؛ حيث لا تستطيع عقولنا استيعاب فكرتين وعمليتين في نفس الوقت، والتحول الثاني يتمثّل في تأثير التفكير المفرط على علاقاتنا الاجتماعية؛ حيث يقود إلى اجترار الأفكار والمواقف السلبية، مسبباً بيئةً مليئةً بالقلق والخلافات، أما التحول الأخير فيتمثّل في تأثير التفكير المفرط السلبي على صحتنا الجسدية؛ مثل الإصابة بأمراض القلب، أو الالتهابات، أو حتى السرطان.
مفهوم التفكير المفرط وجودة الحياة
يقودنا التفكير المفرط بطبيعة الحال إلى السقوط في دوامة لا متناهية من القلق؛ ما يحفز أجسادنا لبدء سلسلة من التغيرات النفسوجسدية التي تؤثر سلباً على صحتنا ككل، وصحتنا النفسية بوجهٍ خاص، ومن ثَمَّ تقلل من جودة الحياة التي نعيشها. فعلى سبيل المثال: ذكرنا في مقالنا اضطرابات القلق النفسية وصحة القلب، بعضاً من التغيرات النفسوجسدية السلبية؛ والتي تتضمن دخول الجسم في حالة الكر والفر (Fight-or-Flight Response)، والخفقان (تسارع النبض)، وارتفاع ضغط الدم، وسرعة التنفس؛ ما يقلل وفرة الدم المحمّل بالأكسجين الذي يصل لخلايا الجسم المختلفة، ويضعف التركيز، ويسبب الإجهاد أو الضعف، والأرق. بالإضافة لما سبق؛ وجدت إحدى الدراسات أن عملية اجترار الأفكار والمواقف السلبية تؤثر على نشوء حالات مزاجية سلبية، وتقلل من جودة النوم، ويؤثر التفكير المفرط سلباً بشكلٍ ملحوظ على جودة النوم، حتى بعد القدرة على تحييد أثر الحالات المزاجية السلبية على صحتنا النفسية.
خطوات التوقف عن التفكير المفرط
يساعد الوعي الذاتي بأفكارنا وإدراكها على مقاومة شعورنا الذي يدفعنا لبدء التفكير المفرط. ويُعد هذا الإدراك المرتفع لما يدور في عقولنا وأنفسنا على حد سواء من أهم الخطوات التي يمكننا من خلالها إدارة التفكير المفرط وتتبعه. فعندما نتوقف للحظات ونفكر في كيفية نشوء الفكرة؛ وهو سلوك ما قد يُسمى "ما وراء الإدراك" (Metacognition)، ونتعمق أكثر في مدى تأثيرها على مزاجنا العام وصحتنا العقلية والنفسية، سوف نصبح أكثر وعياً بتسلسلها وأثرها؛ ما يعطينا القدرة على تجنب خطرها. يمكن لنا أيضاً أن نُلهي أنفسنا بإيجاد مشتت نافع يحول دون وقوعنا في دوامة التفكير المفرط قد يتمثّل في صورة العمل على تعلم مهارات جديدة في الطبخ، أو ممارسة هواية جديدة؛ كالرسم والنحت، أو الذهاب للنادي الرياضي والتمرّن، أو التطوع مع منظمة خيرية محلية؛ ولكن يجب أن ننتبه أننا نلهي أنفسنا ولا نحاول حل المشكلة الرئيسية حتى لا تتحول تلك الطريقة كوسيلة للهروب من المشاكل.
بالإضافة إلى ما سبق؛ يمكننا أن نوقف التفكير المفرط من خلال التعامل بإيجابية معه. وهاهنا بعض الخطوات التي يذكرها لنا كتاب "عن قرب"؛ وتتمثل في نقاط رئيسية (منقولة بتصرف). على سبيل المثال:
- علينا في البداية أن نعي ونفهم نطاق التفكير المفرط الخاص بنا، حتى نستطيع إنتاج رد فعل إيجابي وسوي.
- يجب أيضاً أن نلاعب عقولنا بقليل من الحذر؛ بحيث نغيّر مسار التفكير لحظة إدراك البدء في ممارسة التفكير المفرط؛ كأن نغيّر جلستنا أو طريقة الاستلقاء خلال النوم.
- من الخطوات الفعالة أيضاً أن نوجّه التفكير تجاه الحلول الفعالة - لا أصل المشكلة؛ وبذلك نسخّر قوة التفكير المفرط بشكل إيجابي، أو أن نحدد وقتاً قصيراً مسمّىً خلال اليوم لعملية المراجعة الإيجابية لتلك المواقف أو التصرفات التي أثارت حفيظة تفكيرنا المفرط.
- وأن نعمل على تأجيل أي رغبات للتفكير في تلك المدة الزمنية، حتى نحول دون السقوط في وحل التفكير المفرط.
من الحلول المقترَحة أيضاً في الأبحاث الأكاديمية لتحسين استجابتنا لكُلٍّ من التفكير المفرط والقلق؛ ينصح المختصون بالابتعاد عن منشورات التواصل الاجتماعي السلبية، أو تقارير التلفاز المرئية السلبية التي قد تتسبب في نشوء حالات من القلق والتوتر لدينا، والحرص على تخصيص وقت للذهاب إلى الأماكن الطبيعية الخضراء. علينا أيضاً التخلي عن طلب الكمال (Perfectionism)، وممارسة التأمل لنحقق الاسترخاء والسلام الداخلي، والوصول لحالة عالية من التركيز على الوقت الحالي، أو تعلم اليقظة الذهنية التي تتطلب منّا الاستغراق في اللحظة الحالية، وزيادة التركيز، والتحكم بالتنفس واستجاباتنا العقلية والنفسية والجسدية.
في النهاية وعلى ضوء ما سبق؛ ينبغي علينا جميعاً ألا ننزلق في دوامة التفكير المفرط التي لا طائل منها، وأن نسعى بكل قوانا لتحقيق أعلى مرحلة من الاتزان النفسي والعقلي والجسدي؛ وذلك من خلال تجربة الخطوات التي تعرفنا عليها في هذه المقالة.