ملخص: تترك صدمات الطفولة أثراً عميقاً في حياة الشخص نتيجة تغلغلها في تفاصيل صحته النفسية والجسدية؛ فوفقاً لدراسات علمية، ينتج عن تلك الصدمات تغييرات في مناطق الدماغ المسؤولة عن التنظيم العاطفي ومعالجة الذكريات والاستجابة للتوتر والتفكير الواعي، وهذا ما يجعل الأشخاص الذين عانوا الصدمات في طفولتهم أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الذاكرة، إلى جانب شعورهم بالخجل والذنب وزيادة احتمالية إصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة ونوبات الهلع، لكن ثمة إرشادات فعالة لتجاوز صدمات الطفولة؛ أهمها تقبّل ما حدث والاعتراف بتأثيره، إلى جانب طلب المساعدة الاجتماعية من الأشخاص المحيطين والمساعدة المهنية من المختص النفسي، وكذلك التعرف إلى محفزات الصدمة لتطوير استراتيجيات إدارتها، والتدرب على ممارسات اليقظة الذهنية مثل التنفس العميق، والحرص على الدخول في العلاقات الصحية والبعد عن العلاقات السامة، بالتوازي مع تقليل التوتر والإجهاد اليومي وتدوين اليوميات، وحصر المعتقدات السلبية عن النفس وتصحيحها وعدم استعجال النتائج.
" قصة مؤلمة عن تحول طفلة مكسورة الجناح إلى أم قوية على الرغم من صدمات الحياة".
عنوان يلفت الانتباه لحلقة جديدة من بودكاست "تحت الصفر" تحدثت فيها الفنانة الكويتية شوق الموسوي مع الإعلامي الكويتي عبد الله الطليحي حول أدق تفاصيل معاناتها في الطفولة، وقد لفت انتباهي سردها للمشاهد وكأنها تراها حية أمام عينيها، مثل تعرضها للضرب المبرح من عمها في الرابعة عشرة من عمرها بعد تحدثها مع والدتها التي لم تكن تعلم بوجودها في مكالمة تليفونية، وأيضاً ما فعلته عمتها من تكسير أصابعها وطردها خارج المنزل في السابعة عشرة، والكثير من التفاصيل المؤلمة الأخرى التي دعتها إلى البكاء أكثر من مرة خلال الحلقة.
وقد دعتني الحلقة إلى التفكير في التأثير طويل المدى لصدمات الطفولة، وهو تأثير يكون إلى حد كبير غير ظاهر، فوفقاً للمعالج النفسي أسامة الجامع: الطفل لا ينسى بل يراقب ويتألم في صمت، لذا يحذر من الذكريات التي يزرعها أولياء الأمور في أطفالهم دون قصد، لأنها تورث جروحاً خفية قد لا يعلمون عنها شيئاً لكنها تظهر لاحقاً في الكبر، من خلال تغيرات في شخصيات أبنائهم وردود أفعالهم ونظرتهم للحياة.
اقرأ أيضاً: 5 علامات تدل على عدم التعافي من صدمات الطفولة
ما هو التأثير النفسي الممتد لصدمات الطفولة؟
حسناً، حتى نتمكن من فهم التأثير الممتد لصدمات الطفولة علينا الغوص في الأعماق قليلاً، وتحديداً في دماغ الطفل الذي يتعرض للصدمة، إذ اكتشفت دراسة علمية نشرتها مجلة الطب النفسي البيولوجي: علم الأعصاب الإدراكي والتصوير العصبي (Biological Psychiatry: Cognitive Neuroscience and Neuroimaging) في يونيو/حزيران 2024 أن الصدمات التي يتعرض لها الأطفال ينتج عنها تغييرات في مناطق الدماغ المسؤولة عن التنظيم العاطفي ومعالجة الذكريات والاستجابة للتوتر. نعم، وصلني ما وصلك الآن: الأمر يصبح خارجاً عن نطاق السيطرة إلى حد كبير!
هل تود معرفة المزيد؟ توجد دراسة أخرى أجراها مستشفى ماكلين للأمراض النفسية (McLean Hospital) التابع لكلية الطب بجامعة هارفارد (Harvard Medical School) لرصد العلاقة بين التعرض للإساءة في الطفولة وتغير بنية الدماغ، وقد توصل الباحثون من خلالها إلى أن هناك فروقاً واضحة في تسع مناطق في الدماغ بين الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات في طفولتهم وأولئك الذين لم يتعرضوا لأي صدمات.
وكانت التغييرات أوضح في المناطق التي تعمل على تحقيق التوازن بين العواطف والاندفاعات إلى جانب المناطق التي تعمل على التفكير الواعي، وهو ما جعلهم يذكرون في نتائج الدراسة أن الأشخاص الذين تعرضوا للإساءة أو الإهمال في طفولتهم تزيد احتمالية إصابتهم باضطرابات نفسية عندما يكبرون.
تجعلنا النتائج السابقة نتفهم جيداً زيادة احتمالية إصابة الأشخاص الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم بالقلق والاكتئاب واضطرابات الذاكرة، إلى جانب شعورهم بالخجل والذنب أحياناً نتيجة لوم أنفسهم على ما وقع لهم، وهو ما قد يوصلهم إلى حلقة أخرى مدمرة؛ بالانخراط في الإرضاء المفرط للآخرين وعدم القدرة على رفض طلباتهم حتى يحظوا بقبولهم.
ليس هذا فحسب، فهم أيضاً كثيراً ما يعانون أفكاراً سلبية مزعجة تلازمهم في حياتهم اليومية وذكريات مؤلمة تظهر في عقولهم لا إرادياً بين الحين والآخر وكوابيس تُقلق منامهم، وهم أيضاً أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة والخدر العاطفي، والعزلة الاجتماعية ونوبات الهلع.
اقرأ أيضاً: ما العلاقة بين صدمات الطفولة وخطر الإصابة بالسمنة؟
9 إرشادات فعالة لتتجاوز صدمات الطفولة
يؤكد الطبيب النفسي محمد اليوسف أنه كلما جاءت الصدمات والجراح مبكراً في الطفولة كان أثرها أكبر وأعمق، وذلك نتيجة عدة أسباب، الأول أن الطفل يكون غضاً طرياً يلتمس طريقه في الحياة، والثاني هو أن الصدمة قد تكون غالباً جاءته من أقرب الناس له، أما الثالث فهو أن ما كان يراه النموذج الأمثل هوى أمامه وسقط من عينيه كتمثال شمع ظنه من ذهب.
ويرى اليوسف أن تجاوز صدمات الطفولة لا يتم بهدم ما حدث ونسيانه، إنما بالسماح لذكريات الطفولة القاسية قبل السعيدة بأن تظهر دون تفسير الشخص لها بقسوة، مثل أن يحكم على نفسه بأنه ضعيف أو مذنب أو غير كفؤ، ويتقبلها باعتبارها أمراً مكتوباً وليس حدثاً وقع نتيجة خطأ منه، وإلى جانب النصيحة الثمينة السابقة هناك إرشادات أخرى يمكن اتباعها لتجاوز صدمات الطفولة بسلام، أهمها:
1. اعترف بتأثير الصدمة
تعد هذه النقطة مهمة جداً في رحلة التعافي من صدمات الطفولة، فإذا فهمت تأثير الصدمة في حياتك ستتمكن من التعامل معه بطرائق أفضل، ويمكن أن يظهر التأثير في جوانب مختلفة منها الصحة الجسدية وأيضاً النفسية وكذلك علاقاتك الاجتماعية وحياتك المهنية، لذا احرص على رصد التأثير من واقعك بدقة واعمل جاهداً على الوصول إلى أفضل الأساليب لمواجهته.
2.اطلب المساعدة
لنكن صرحاء ونقول إنه ليس من السهل أن تتعافى بمفردك من صدمات طفولتك، لذا هناك نوعان من الدعم يمكنك الحصول عليهما؛ الأول هو الدعم الشخصي من المحيطين بك لتجاوز الأوقات الصعبة وتعزيز قدرتك على الصمود، أما الثاني فالدعم المهني من المختصين النفسيين الذين سيساعدونك على استيعاب صدمتك والتعامل معها.
3. تعرف إلى محفزات الصدمة
ترتبط صدمات الطفولة أحياناً بأحداث أو أماكن أو أشخاص بأعينهم، ما يجعل التعرض لتلك المحفزات يجدد داخلك آلام الصدمة، لذا من الضروري تطوير استراتيجيات عملية لإدارة هذه المحفزات والتعامل معها بهدف الحد من تجدد الصدمة باستمرار.
4. تدرب على ممارسات اليقظة الذهنية
تسبب صدمات الطفولة أحياناً انفصالك عن أحاسيسك الجسدية وعواطفك باعتباره آلية للتكيف، وهنا يكون الحل بممارسات تجعلك حاضراً في اللحظة الحالية، مثل التنفس العميق أو مسح الجسم، فهذا سيزيد شعورك بالأمان ويقلل قلقك.
5. احذر الأشخاص السامين
قد تجعلك صدمات الطفولة أكثر اندفاعاً للانخراط في العلاقات السامة نتيجة شعورك بعدم الكفاءة واضطرابك عاطفياً، وحتى تواجه هذا البعد الضار؛ عليك وضع الحدود مع الأشخاص السامين، وابحث عن العلاقات الصحية التي تعزز استقرارك العاطفي.
6. قلل توترك اليومي
واحدة من التأثيرات الممتدة لصدمات الطفولة أنها قد تجعلك تعاني فرط اليقظة، فيصبح جسمك أكثر حساسية للتهديدات المحتملة، وهنا عليك أن تعمل جاهداً على خفض معدل الإجهاد والتوتر في يومك حتى تنمي قدرتك على تنظيم عواطفك.
7. دوّن يومياتك
تتيح كتابة اليوميات فرصة لخروج أفكارك ومشاعرك المتعلقة بصدمات الطفولة كما هي، وهذا ما سيساعدك على معالجة تلك الصدمات والتعمق بفهمها أكثر ومن ثم التعامل معها بوعي.
8. صحح معتقداتك السلبية عن نفسك
تشمل هذه المعتقدات أحياناً الشعور بانعدام القيمة أو الشعور بالذنب أو غير ذلك من المشاعر الأخرى التي تعيق تقدمك، لذا تعرف إليها أولاً واعمل على تصحيحها واستبدالها بوجهات نظر أخرى تعزز احترامك لذاتك وتزيد إيجابيتك.
9. كن صبوراً
من المهم في رحلة التعافي من صدمات الطفولة أن تأخذ وقتك ولا تستعجل النتائج، وتُعامل نفسك بالطريقة ذاتها التي تعامل بها أفضل أصدقائك.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: تغيير السكن المتكرر في الطفولة يزيد احتمالية الإصابة بالاكتئاب