هل شعرت يوماً بأن هناك شيئاً مفقوداً في حياتك دون أن تعرف ما هو؟ قد يحيرك هذا الشعور الغامض، ويؤلمك في الوقت نفسه. فقد لا يرتبط شعور الخسارة بشيء ملموس أو واضح دائماً. ففي بعض الأحيان، نمر بأحداث تخلف تأثيراً عميقاً في أنفسنا دون أن ندرك ذلك على الفور. وقد يؤدي تراكم ضغوط الحياة اليومية إلى شعورنا بأننا فقدنا أجزاء من أنفسنا. ويمكن أن ترتبط هذه الخسارة بأحلام لم تتحقق، أو صداقات تلاشت بمرور الزمن، أو تجارب حياتية مؤلمة أو تغييرات جذرية في حياتنا، وهذا هو جوهر الخسارة الغامضة.
محتويات المقال
يمكن أن يحدث ذلك عند اختفاء شخص عزيز فجأة، أو عندما يتغير شخص مقرب إلى درجة يصعب فيها التعرف عليه؛ كما في حالات الخرف أو الإدمان. يترك هذا النوع من الخسارة الشخص في حالة من الارتباك والحزن المستمرين؛ ما يجعل التعامل مع هذا الفقد أمراً بالغ الصعوبة؛ حيث يظل الشخص عالقاً بين الحزن والأمل، دون أن يتمكن من تجاوز هذه المشاعر، أو يحصل على توضيح أو نهاية ملائمة لهذا الفقد. في هذا المقال، نتعرف إلى مفهوم الخسارة الغامضة، وعلاماته. ونستعرض الأسباب المحتملة التي قد "توضح" هذا الغموض، ونناقش الاستراتيجيات الفعالة للتعامل مع الحزن والألم النفسي المرتبطين بالخسارة الغامضة.
ما هي الخسارة الغامضة؟
تعد الخسارة الغامضة (Ambiguous Loss) واحدة من أكثر أنواع الخسائر النفسية تعقيداً وصعوبة. حيث لا يمكن تحديد طبيعة هذه الخسارة أو الفقدان بصفة كاملة؛ لذلك قد يصعب على الأشخاص التكيف معها، فهذه الخسارة لا تتوافق مع الفهم التقليدي للفقد؛ حيث لا يكون هناك فصل واضح أو نتيجة نهائية يمكن التعايش معها. وبحسب عالمة النفس الأميركية بولين بوس (Pauline Boss) التي صاغت مصطلح "الخسارة الغامضة"، يمكن تقسيم هذا الفقد إلى نوعين رئيسَين:
- الخسارة الغامضة المادية: تحدث عندما يختفي الشخص جسدياً؛ لكنه يظل حاضراً نفسياً. من أمثلة ذلك حالات الاختفاء غير المبرر، أو الغياب خلال الحروب أو الكوارث الطبيعية.
- الخسارة الغامضة النفسية: تحدث عندما يظل الشخص حاضراً جسدياً؛ لكن تتغير العلاقة التي كانت تربط هذا الشخص بالمحيطين به؛ إما بسبب مرض، وإما تغير الحالة الاجتماعية مثلاً.
يقول الطبيب النفسي، محمد عيسى، في حديثه إلى منصة نفسيتي، إنه على الرغم من صعوبة تحديد الخسارة الغامضة ورصدها، هناك بعض الأعراض والعلامات التي قد تشير إلى أن الشخص يعاني هذا النوع من الخسارة؛ وتشمل الشعور بالارتباك العاطفي والمشاعر المتضاربة؛ مثل الحزن والأمل والحنين والرفض. ويضيف إن الشخص قد يعاني قلقاً وحزناً مستمرين دون سبب واضح، بالإضافة إلى الشعور بالذنب أو المسؤولية تجاه الفقدان، وقد يواجه الشخص صعوبة في التركيز وتذكر التفاصيل، أو ينعزل عن الآخرين.
اقرأ أيضاً: ما علامات الحزن الاستباقي؟ وكيف يمكن التعامل معه؟
4 أسباب للخسارة الغامضة
هناك الكثير من الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى شعور الشخص بالخسارة الغامضة، سواء كانت نفسية أو جسدية، نوضح في الأمثلة التالية المزيد من الأسباب:
- الكوارث الطبيعية والنزاعات: يمكن أن تتسبب الكوارث الطبيعية؛ مثل الزلازل أو الأعاصير أو الفيضانات، في فقدان الأشخاص أحبائهم أو منازلهم. وفي بعض الأحيان، لا يُعثر على المفقودين؛ مثلما يمكن أن يختفي الأشخاص في مناطق الصراع دون أي أثر. قد يصعب على عائلات هؤلاء الأشخاص وأصدقائهم الذين يعانون هذا النوع من الخسارة قبول هذا الفقد؛ نظراً إلى عدم توفر معلومات واضحة حول مصير الشخص المفقود، فيحتار الأهل والأصدقاء، ويشعرون بالعجز لأنهم لا يعرفون إذا كان الشخص المفقود حياً أم ميتاً، وتستمر حالة الحزن والعجز، وتعاني العائلات عدم اليقين المستمر بشأن مصائرهم.
- الأمراض النفسية والعصبية: تشمل هذه الحالات الأشخاص الذين يمرون بتغييرات كبيرة في الشخصية بسبب إصابات الدماغ أو الأمراض النفسية الخطرة. فعندما يعاني أحد أفراد العائلة مرضاً نفسياً أو عصبياً؛ مثل الاكتئاب الشديد، أو الفصام، أو الإدمان أو الخرف، قد يشعر المحيطون به بخسارة غامضة. فالشخص الذي كانوا يعرفونه قد لا يكون هو نفسه؛ بسبب التغيرات السلوكية والشخصية والجسدية التي قد ترافق المرض. فعلى الرغم من أنه موجود جسدياً، فإن علاقته بالآخرين قد تغيرت على نحو كبير، فيشعر المحيطون به أنهم فقدوا الشخص الذي كانوا يعرفونه والعلاقة التي تربطهم به. وقد يعاني أفراد الأسرة الذين يشاهدون تدهور محبوبهم الإحباط والألم لعجزهم عن مساعدته؛ ما يزيد صعوبة التعامل مع هذا الفقد.
- حالات الانفصال وفقدان التواصل: في بعض الأحيان، ينفصل الأصدقاء دون تفسير واضح، أو يتوقف التواصل بينهم فجأة، فيما يُعرف بـ "الاختفاء المفاجئ" (Ghosting). يترك هذا النوع من الخسارة الشخص في حالة من التساؤل والارتباك؛ حيث لا يفهم السبب وراء انقطاع التواصل، ولا يستطيع التوصل إلى تفسير منطقي لما حدث.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يواجه الأفراد في حالات الطلاق خسارة متعددة الأوجه؛ تشمل الفقدان العاطفي، وتغير الهوية الاجتماعية، وخسارة نمط الحياة السابق. وقد يظل الشريك السابق حاضراً في الحياة اليومية بسبب الأطفال أو العمل؛ فيصعب على الطرفين تجاوز الحزن والانتقال إلى مرحلة جديدة من الحياة. في هذه الحالة، يوجد الشخص جسدياً لكن العلاقة نفسها قد انتهت؛ ما يولّد شعوراً بالخسارة الغامضة.
- الهجرة: عند اضطرار الأفراد إلى الهجرة؛ بسبب الظروف الاقتصادية أو السياسية مثلاً، قد يواجهون نوعاً من الخسارة الغامضة. حيث يتركون وراءهم أوطانهم وأحباءهم وثقافاتهم، ويعيشون في حالة من عدم اليقين بشأن مستقبلهم، أو إمكانية عودتهم إلى ديارهم. إضافة إلى ذلك، يمكن أن ينفصل الأصدقاء أو الأحباء بسبب الهجرة؛ ما يزيد الشعور بالخسارة الغامضة، حيث يظل الشخص مرتبطاً نفسياً بصديقه أو وطنه حتى لو كان بعيداً عنه.
اقرأ أيضاً: انتهت العلاقة، فهل تتخلص من ذكرياتكما؟ إليك آراء الخبراء
8 استراتيجيات فعالة للتعامل مع الخسارة الغامضة
"الخسارة الغامضة تشعرنا بالعجز، فهي تقوّض إحساسنا بالكفاءة وتدمّر إيماننا بأن العالم مكان عادل ومنظم وقابل للإدارة. لكن إذا تعلمنا كيفية التعايش مع عدم اليقين، فيجب علينا إدراك أن هناك رؤى مختلفة للعالم، حتى عندما يكون هذا العالم أقل غموضاً، فإذا كنا سنتمكن من تجاوز هذه الأزمة والتعامل مع الخسائر الغامضة، فعلينا أولاً أن نهدئ رغبتنا الجامحة في السيطرة. هذه هي المفارقة". الطبيبة النفسية، بولين بوس.
يتطلب التعامل مع الخسارة الغامضة الصبر على فهم المشاعر المتضاربة المتعلقة بهذه الخسارة والرفق بالنفس، والتعاطف معها، والحصول على الدعم المناسب للتخفيف من وطأة هذه المعاناة. يمكن أن يساعد تطبيق هذه الاستراتيجيات العملية الأفراد الذين يعانون هذه الخسارة على التكيف مع الغموض الذي تنطوي عليه، وتجاوز الألم النفسي:
- تقبل الواقع والاعتراف بالمشاعر: إذ قد يعاني الشخص مجموعة من المشاعر المتناقضة؛ مثل الحزن والأمل، فعليه أن يدرك أن هذه المشاعر طبيعية في سياق الخسارة الغامضة، ويتقبل عدم القدرة على التحكم في بعض الأمور المتعلقة بهذه الخسارة، ويستسلم لأن بعض الأسئلة قد لا توجد لها إجابات، وأن الحياة يمكن أن تستمر حتى في ظل الغموض. إذ يمكن أن يساعد هذا التقبل على تقليل مشاعر القلق والارتباك.
- التركيز على الحاضر وإعادة بناء الحياة: من الضروري أن يعيد الشخص تعريف هويته في ضوء الخسارة التي عاناها. يمكن تحقيق ذلك من خلال بناء علاقات جديدة، وتجربة هوايات مختلفة، أو تحديد أهداف تسهم في تركيز الانتباه على المستقبل. فمن خلال الانخراط في أنشطة جديدة، يمكن للشخص أن يجد طرائقَ لإعادة بناء حياته والانطلاق في مسار جديد. علاوة على ذلك، يساعد التركيز على الأنشطة اليومية والعناية بالذات على تخفيف الشعور بالعجز والضياع.
- البحث عن الدعم الاجتماعي: يعد التحدث إلى المقربين أمراً حيوياً لمواجهة الخسارة الغامضة؛ إذ يمكن أن يساعد ذلك على توفير الدعم اللازم للشخص لمواجهة مشاعر الحزن والقلق، والتكيف مع الخسارة الغامضة. يمكن التحدث إلى الأصدقاء والعائلة، أو الانضمام إلى مجموعات دعم تتكون من أشخاص يواجهون تحديات مشابهة. توفر المشاركة في هذه المجموعات فرصة للتعبير عن المشاعر، والشعور أن الشخص ليس وحده في معاناته.
- ممارسة الأنشطة الرمزية: من المفيد ممارسة أنشطة رمزية تساعد على تقبل الخسارة والتعايش معها. على سبيل المثال؛ تُمكن كتابة رسائل إلى الشخص المفقود أو الذي تغيرت العلاقة معه للتعبير عن المشاعر الداخلية، أو تنظيم أنشطة تحتفي بالأوقات الجميلة التي قضاها هذا الشخص مع الأحباء. قد تسهم هذه الممارسات في توفير "نهاية" نفسية، حتى إن كانت النهاية الفعلية غير ممكنة.
- تعلم مهارات جديدة للتكيف: يمكن أن يقلل تعلم تقنيات جديدة للتعامل مع الضغوط النفسية؛ مثل التأمل، واستراتيجيات التفكير الإيجابي، أو ممارسة التمارين البدنية، مستويات التوتر ومشاعر القلق الناتجة عن عدم اليقين، ويهدئ العقل، ويحسن الصحة النفسية عموماً.
- الكتابة اليومية: تتيح الكتابة فرصة للشخص كي يتواصل مع مشاعره العميقة بطريقة آمنة؛ حيث تساعده على تفريغ عواطفه المكبوتة التي قد يصعب التعبير عنها شفهياً، إلى جانب تتبع مشاعره مع مرور الوقت؛ ما يساعده على التعرف إلى الأنماط المتكررة في هذه المشاعر وفهمها على نحو أفضل. ينصح الطبيب النفسي محمد عيسى بتخصيص 10-15 دقيقة يومياً للكتابة عن هذه المشاعر، والأحداث أو الأشخاص المرتبطين بها، دون القلق حول تنظيم الأفكار أو كيفية صياغتها.
- إيجاد المعنى: محاولة فهم الفقد والعثور على منظور جديد له تساعد الشخص على التغلب على الحزن. على سبيل المثال؛ يمكن أن يحول الشخص تجربة فقده إلى فرصة للمشاركة في حملة توعوية أو نشاط خيري؛ فكل من العمل التطوعي، أو الانخراط في أنشطة مجتمعية، والمشاركة في القضايا التي تهم الشخص؛ مثل دعم مرضى الخرف، أو مساعدة اللاجئين، يمكن أن يسهم في تحويل مشاعر الحزن إلى طاقة إيجابية، ويضفي معنى جديداً إلى الحياة بعد الخسارة.
- الاستعانة بمختص الصحة النفسية: يمكن أن يساعد الدعم المهني من خلال استشارة معالج نفسي على توفير الأدوات والتقنيات اللازمة للتعامل مع مشاعر الحزن والتوتر. على سبيل المثال؛ يشير الطبيب النفسي محمد عيسى إلى فوائد طريقة الكرسي الفارغ (Empty Chair Technique)؛ وهي تقنية تستخدم في العلاج النفسي تحت إشراف معالج متخصص، لمساعدة الأفراد على التعامل مع المشاعر غير المحلولة، أو الأمور العالقة، وإعطاء الشخص فرصة للتفاعل مع أفكاره ومشاعره تجاه شخص محدد أو موقف معين وكأنه موجود أمامه. حيث يتخيل الشخص شخصاً آخر أو موقفاً معيناً على كرسي فارغ أمامه، ثم يتحدث إلى الكرسي، ويتبادل الأدوار مع الكرسي؛ لمحاولة رؤية الموقف من منظور آخر.
اقرأ أيضاً: من الإنكار إلى القبول: دليلك للتعامل مع ألم الفقد
في النهاية، لا شك أن الخسارة الغامضة تجربة نفسية عميقة ومعقدة؛ لذلك تتطلب من الشخص تطوير طرائق مختلفة للتكيف والتعافي. ويعتمد نجاح الشخص في التعامل مع هذه الخسارة على تقبل الغموض، وإعادة بناء الحياة بطريقة تتيح له المضي قدماً على الرغم من الألم، إلى جانب ضرورة توفر الدعم الاجتماعي واللجوء إلى المساعدة المهنية عند الحاجة. ومن ثم؛ يمكن للشخص العثور على معنى وأمل جديدين؛ ما يسهم في تعزيز عملية الشفاء النفسي ومن ثم التعافي.
اقرأ أيضاً: ما الطريقة الأفضل لإدارة تحولات حياتك المصيرية؟