ملخص: "قبل 10 سنوات، فُصلت وخُفضت رتبتي من منصبي في الجامعة، واليوم حصلت على جائزة نوبل عن عملي"، هذا ما قالته حائزة جائزة نوبل في الطب لعام 2023، كاتالين كاريكو في أعقاب إعلان فوزها. فما التحديات التي واجهتها؟ وكيف تمكنت من التغلب عليها؟ وما الدرس الذي يمكن أن نستلهمه من قصة كفاحها؟
محتويات المقال
"قبل 10 سنوات، فُصلت وخُفضت رتبتي من منصبي في الجامعة، واليوم أحصل على جائزة نوبل عن عملي"! بهذه الكلمات القليلة لخصت الباحثة المجرية كاتالين كاريكو (Katalin Kariko)، عقوداً من الكفاح والمعاناة، مع رفض المجتمع العلمي لأبحاثها، والتثبيط من عزيمتها، اللذين تكللا بفوزها بجائزة نوبل في الطب لعام 2023. فما التحديات التي واجهت كاريكو؟ ولماذا تعرّضت إلى الرفض؟ تابع معي لنتعرف في هذا المقال إلى الرفض الذي تعرضت إليه العالمة كاريكو خلال مسيرة عملها، ونستلهم منها طرائق مواجهته.
مدخل: تعرف إلى قصة كاريكو عن الأمل والإصرار
ولدت كاتالين كاريكو في بلدة صغيرة في المجر عام 1955، وكانت تحلم بأن تصبح عالمة، ووضعت هدفها نصب أعينها. شهدت كاتالين كاريكو اكتشاف الحمض النووي الريبوزومي المرسال (mRNA)، والضجة العلمية التي أحدثها بعد أن أصبح بالإمكان استغلال نظام المراسلة الخلوية هذا لتحويل أجسامنا إلى مصانع لصنع الأدوية، فكان الملهم الأكبر لها خلال سنوات دراستها.
حصلت كاريكو على درجة الدكتوراة من جامعة سيجد (University of Szeged)، وشغلت منصب زميلة ما بعد الدكتوراة في مركز الأبحاث الحيوية التابع للجامعة؛ حيث ركزت في أبحاثها على الحمض النووي المرسال وكيفية استخدامه لاستهداف الفيروسات لكن لم تكن التكنولوجيا المطلوبة لجعل مثل هذه الطموحات الكبرى حقيقة واقعة موجودة بعد.
وقد واجهت أولى التحديات عندما نفد المال من برنامج الأبحاث بالجامعة في عام 1985، فقررت المغادرة مع زوجها وطفلتها إلى الولايات المتحدة؛ حيث تلقت عرضاً للعمل من جامعة تيمبل في فيلادلفيا (Temple University) للحصول على زمالة أخرى لما بعد الدكتوراة بعد أن اضطرت لبيع سيارتها.
تابعت كاريكو أبحاثها، وعملت بجد كل ليلة؛ لكن رؤساءها في الجامعة اعتقدوا بأن العمل على الرنا المرسال غير مجدٍ ومضيعة للوقت والمال. لذا؛ خيروها بين مواصلة العمل عليه، أو فقدان منصبها بوصفها عضواً في هيئة التدريس، وتخفيض راتبها، وحدث ذلك بالتزامن مع تشخيصها بمرض السرطان، وعودة زوجها إلى المجر مدة 6 أشهر بسبب مشكلات في تأشيرته، فكان عام 1995 صعباً على كاتالين.
على الرغم من ذلك، واصلت كاريكو التنقل من مختبر إلى آخر، مكافحة للبقاء على قدميها في الأوساط الأكاديمية. وكانت تتعرض إلى سخرية الناس كلما ناقشتهم أفكارها، ناهيك بأنها لم تتمكن من الحصول على منحة مالية من كلّ من القطاع الخاص والحكومة لأنهما لم يرغبا في دعم الأبحاث البعيدة المنال على حد تعبيرهما!
هنا بدأت الشكوك تراودها، واعتقدت بأنها لم تكن جيدة أو ذكية بما فيه الكفاية. فقالت في إحدى المقابلات: "فكرت في الذهاب إلى مكان آخر، أو القيام بشيء آخر"؛ إلا أن الحال قد تغيرت بعد أن جمعتها الصدفة بعالم المناعة درو وايزمان (Drew Weissman).
تعاون الباحثان، وواجها معاً العقبات والتجارب الفاشلة، والرفض من المجلات العلمية والمنح المالية، حتى تمكنا في عام 2005 من نشر ورقتها البحثية حول شكل معدّلٍ خصيصاً من الرنا المرسال، فسجلا براءة اختراع، وأسسا شركة بيو إن تيك (BioNTech) للتكنولوجيا الحيوية.
وعندما اجتاحت جائحة كوفيد-19 العالم، أثبتت كاريكو أن بحثها المشترك مع وايزمان هو الحل لإيجاد اللقاح، وأنتجت شركتهما الجيل الأول من لقاح كوفيد-19 الذي كان سبباً في نيلهما جائزة نوبل للطب عام 2023 بالمشاركة.
ماذا نستلهم من قصة كاتالين كاريكو؟
في قصة كاتالين للفوز بجائزة نوبل، شهادة على فضائل الأمل والمثابرة، والإصرار على مواجهة الشدائد، والقوة الكامنة داخلنا لمواجهة عدو خفي قد نتعرّض إليه جميعنا في أي مرحلة عمرية، ويسبب لنا الكثير من المشكلات؛ إنه الرفض.
ما هو الرفض؟
نحن كائنات اجتماعية بطبيعة الحال، ونميل إلى الشعور بالانتماء، والحاجة إلى التواصل، فعندما نكون جزءاً من مجموعة، نستطيع تلبية هذا الشعور وإشباع حاجتنا إلى التواصل والتفاعل مع الآخرين، بالإضافة إلى الإحساس بقيمتنا الذاتية وصحة معتقداتنا؛ لكننا قد لا نتمكن من إدراك هذه الغاية في الأوقات كافةً فنتعرّض إلى الرفض.
يُشار إلى الرفض الاجتماعي على أنه الاستبعاد من العلاقات الاجتماعية أو التفاعل، سواء عن قصد أو دون قصد. على سبيل المثال؛ ربما لم يكن والدك محباً للعناق أو حتى لم يتمتع بروح مرحة للضحك على مزاحك، فشعرت بالرفض من قبله في طفولتك! وقد يكمن خوفك في عدم الاعتراف بأفكارك ومواجتها بالرفض مثلما حدث مع كاريكو حينما لم تعترف جامعهتا أو أحد من المجتمع العلمي بأهمية بحثها، ورفضوا تمويله.
ويمكن أن يظهر الرفض بطريقتين:
- الرفض النشط: يكون الاستبعاد علنياً ومباشراً؛ مثل التنمر. للتوضيح، إذا تعرض الطفل في المدرسة إلى السخرية من قبل الآخرين باستمرار، فإنه يعاني الرفض النشط.
- الرفض السلبي: أي المعاملة الصامتة، أو التجاهل. على سبيل المثال؛ إذا تجاهل المدير أفكار أحد أعضاء الفريق باستمرار أو تعمد ابعاده من غداء العمل، فإنه يعاني رفضاً سلبياً.
كيف يؤثر الرفض في صحتنا النفسية والجسدية؟
يولد الرفض إحساساً مزعجاً، على الرغم من أن الاستجابة إليه تتفاوت بين فرد وآخر، وهو ما يطلق عليه "الحساسية للرفض". الجدير بالذكر إن بعض المشكلات قد تتطور عند بعض الأفراد الشديدي الحساسية لتترك آثاراً نفسية وأخرى جسدية.
الآثار النفسية للرفض
أوضحت الطبيبة النفسية جوليا سامتون (Julia Samton)، إن الأطفال، نتيجة خبراتهم المحدودة في الحياة؛ قد يفسرون أي صورة من صور الرفض على أنها خطؤهم: ما يولد آثاراَ نفسية فورية وطويلة الأمد مثل:
- مشاعر الغضب والقلق.
- الاكتئاب والعجز.
- الحزن واليأس.
- تراجع الأداء الدراسي وضعف الإنتاجية.
- الصدمة.
- الغيرة وانعدام الثقة والشك بالذات.
- فرط اليقظة ومضاعفات الصحة النفسية التي قد تتطور في حالات الرفض المزمن.
وغالباً ما تظهر آثار الرفض عند البالغين من خلال نظرية التعلق أو أسلوبه؛ إذ تشير النظرية إلى أن ما نختبره في مرحلة الطفولة له تأثير مباشر في علاقاتنا خلال البلوغ. وتؤكد الاستشارية النفسية ستيفاني جان (Stephani Jahn)، إن بعض من يعانون الرفض المزمن في الطفولة، قد يتملكه شعور بالشك الذاتي وعدم الجدارة؛ ما يعوقه عن تكوين علاقات صحية في المدرسة والعمل. وقد يظهر أسلوب التعلق لدى البالغين من خلال:
- الخوف من الالتزام.
- الخوف من الارتباط بعلاقة رومانسية.
- الشعور القوي بالاستقلال.
- التخلي السريع عن الآخرين عاطفياً، ورفض مشاعرهم.
- صعوبة الثقة بالآخرين.
- ضعف مهارات الاتصال.
اقرأ أيضاً: كيف تؤثر طريقة تعاملك مع الرفض في صحتك النفسية؟
الآثار الجسدية للرفض
"الدماغ لا يفرق بين عظم مكسور وقلب مجروح"! في الواقع، أثبتت الدراسة المنشورة في دورية العلوم (SCIENCE) صحة المقولة السابقة، فقد أفادت الدراسة بأنه يمكن للرفض أن ينشط مناطق الدماغ نفسها التي تشارك في الألم البدني.
واستخدم الباحثون التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) لمسح أدمغة المشاركين الذين لعبوا لعبة افتراضية، بعد استبعاد كل منهم من قبل اثنين من اللاعبين الآخرين، فأظهرت النتائج أن المشاركين الذين استُبعدوا عانوا نشاطاً متزايداً في القشرة الحزامية الأمامية (ACC) وقشرة الفص الجبهي البطنية اليمنى (RVPFC)؛ اللتين تنشطان عند معاناة الألم الجسدي.
اقرأ أيضاً: لماذا يزداد ألم الرفض عند البعض؟ وكيف يمكنه تجاوزه؟
4 إرشادات عملية لمواجهة الرفض
قد يكون التعامل مع الرفض أمراً صعباً؛ لكن ثمة استراتيجيات عدة يمكن أن تساعدك على التأقلم والمضي قدماً، ولربما استخدمت الدكتورة كاتالين كاريكو إحداها أو كلها:
1. اعترف بالألم والحزن على الخسارة
عندما نتعرض إلى الرفض، نشعر بالألم والخجل والإحراج، ونريد فقط تجاوز ذلك الإحساس والمضي قدماً، وعلى الرغم مما قد يبديه ذلك من نضج ووعي، فإنه ينطوي على قمع للمشاعر وإنكارها.
قد يتسبب الإنكار في اللجوء إلى بعض السلوكيات السلبية لنسيان الإحراج المرافق للرفض؛ مثل التدخين أو اضطرابات الأكل أو الانخراط في أنشطة محفوفة بالمخاطر. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يؤدي الإنكار إلى القلق والاكتئاب والأمراض الأخرى المرتبطة بالتوتر.
في المقابل، يسمح لك الحزن بالتعبير عن مشاعرك ومعالجتها؛ لذا امنح نفسك الوقت الكافي للشعور بالحزن. على سبيل المثال؛ يمكنك اللجوء إلى البكاء أو كتابة اليوميات للتعبير عن مشاعرك.
2. لا تلم نفسك
عندما لا توجد أسباب واضحة للرفض، وهي الحال في معظم الحالات، قد يضع البعض اللوم على نفسه. على الرغم من أنه من المفيد أن تبحث عن نقاط الضعف فيك، وإلقاء نظرة على سلوكك والطريقة التي تقدم نفسك بها؛ إلا أن البعض قد يعتقد أنه غير كفؤ أو غير محبوب، أو ليس بالمستوى الكافي من الذكاء، أو يفتقد المهارات المطلوبة.
يحذر استشاري طب الأسرة، الدكتور علاء الرحيلي، من القسوة في الحكم على الذات بعد التعرض إلى الرفض، ويوصي باحتوائها والعطف عليها، والنظر إلى تجربة الرفض بطريقة إيجابية وموضوعية. أي باعتبارك شخصاً بالغاً، ينبغي لك التخلص من المعتقدات الخاطئة والبحث عن فرضيات بديلة، وأسباب أخرى للرفض لا تمس تقييمك لنفسك.
قبل أن تتمكن كاريكو من نيل جائزة نوبل، فشلت محاولاتها كافةً للحصول على الإعانات والمنح المالية بينما كانت في المجر، وتعرضت إلى الرفض من المجتمع العلمي الذي اعتقد بأنها لن تصل إلى شيء، ولا قيمة علمية لبحثها؛ لكنها لم تستسلم أو تشكك في مقدراتها. فقالت: "ظللت أحاول. لم أسمح للرفض أن يعرّفني أو يحدد عملي".
وبالمثل؛ لا ينبغي السماح للرفض أن يحدّ من إيمانك بنفسك وثقتك بقدراتك. على سبيل المثال؛ قد لا تحصل على الوظيفة لأن المدير التنفيذي اختار توظيف أحد أقربائه وليس لأنه أفضل منك، أو تفشل محاولتك للتقرّب من شخص ما لأسباب تخصه مثل عدم شعوره بالأمان، وليس لأنك لا تستحق الحب أو الإعجاب.
اقرأ أيضاً: كيف تتصرّف بشكل ناضج وغير مؤذٍ اتجاه الرفض العاطفي؟
3. عزز مرونتك
المرونة هي القدرة على التكيف مع المواقف الصعبة، والتعافي أو الارتداد من الانتكاس، وقد مارست كاريكو المرونة لمواجهة الرفض والتحديات، حينما أصرّت على متابعة العمل خارج بلادها، ولم تمانع تخفيض رتبتها العلمية، وتقول عن ذلك: "لقد كان قراراً صعباً لكنني اتبعت غريزتي لأنني كنت أعرف أنه يمكن لعملي إنقاذ الأرواح يوماً ما".
لحسن الحظ، يعتقد علماء النفس أنه يمكن لأي فرد أن يتمتع بصفة المرونة باتباع بعض النصائح؛ مثل:
- امتلاك العقلية المنفتحة.
- تجنب التفكير الزائد وسلوك الإنكار.
- التركيز على الحلول، والبحث عن فوائد إيجابية للتجربة.
- طلب الدعم، وتطوير شبكة اجتماعية من الأشخاص الداعمين.
- التركيز على نقاط قوتك والثقة بنفسك.
اقرأ أيضاً: 8 نصائح لبناء المرونة استعداداً لمواجهة الشدائد
4. تدرب على امتلاك عقلية النمو
قد يعتقد من يتعرض إلى الرفض في مجال العمل والبحث الأكاديمي أن مشروعه أو مؤهلاته لا تتناسب مع معايير صاحب القرار مقارنة مع المتقدمين الآخرين.
بالنسبة إلى كاتالين، تكررت حالة الرفض لعملها حتى بعد أن هاجرت، وطًردت من مختبرها في جامعة فيلادليفا الأميركية (Philadelphia University)، وتعرّضت إلى تخفيض رتبتها العلمية في الجامعة، فبعد أن تكللت تجاربها في المختبر بالنجاح حاولت التقدم إلى منحة جديدة، فكان طلبها الوحيد الذي رُفض من بين 7 طلبات أخرى.
لكن الباحثة تبنت تقنية ساعدتها على تجاوز الخيبات ورؤيتها كفرص؛ إنها عقلية النمو؛ أي أن تنظر إلى ذاتك على أنها قابلة للنمو والتطور نحو الأفضل باستمرار. تقول كاريكو: "كان راتبي أقل من الفني الذي كان يعمل إلى جواري لكن زميلي درو وايزمان كان داعماً وهذا ما ركزت عليه، وليس الحواجز التي كان عليّ مواجهتها".
اقرأ أيضاً: 5 خطوات عملية تنقلك من عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة
اليوم، وبعد عقود من التشكيك والرفض، تتوج كاتالين كاريكو مسيرتها المهنية والأكاديمية المحفوفة بالتحديات ومحاولات التحجيم، بأعلى وسام في العلوم؛ جائزة نوبل، وإعجاب العالم وتقديره، ليس فقط لإنقاذها أرواح ملايين البشر؛ وإنما لإصرارها وعزيمتها، وتشبثها بهدفها. ونستلهم من قصة كفاحها حجم ما نمتلكه بداخلنا من قوة للتغلب على تحديات الحياة وعقباتها.