ملخص: وصف عالم النفس الاجتماعي الفرنسي، غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" الصفات النفسية للجماهير وأسباب نشوئها وما يحدد أخلاقها وتصرفاتها، فما أهم الأفكار التي صاغها لوبون في كتابه؟
محتويات المقال
"والفرد في الجماعة كذرّة التراب بين ذرات أُخرى تثيرها الريح كما تشتهي". يوضح عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) إن أعمال العنف التي يرتكبها الأفراد المجتمعون قد ينبذها كل واحد منهم ويمتنع عنها لو كان على انفراد، وإن القوانين التي تسنّها المجالس البرلمانية قد يرفضها كل عضو من أعضائها لو كان وحده، وسبب ذلك هو أن الفرد يختلف في مشاعره وأفكاره وسلوكه عندما يكون جزءاً من جماعة عما يكون عليه منفرداً.
ويوضح لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"؛ وهو دراسة نفسية اجتماعية نُشرت عام 1849، العوامل المؤثرة في نفسية الجماعة (الجمهور أو الحشد) وأسباب نشوئها، ويحدد مشاعرها ومعتقداتها وأنواعها، وإليك أهم الأفكار التي طرحها.
ما هي سيكولوجية الجماهير أو الجماعة النفسية بنظر لوبون؟
لا يكفي أن يجتمع الآلاف من الناس صدفةً لتكوين جماعة، فالحشد أو الجمهور أو الجماعة من الناحية النفسية كما عرّفها لوبون؛ هي أشخاص يجتمعون معاً بتحريض فكرة مؤثرة تحثّهم على العمل نحو هدف واحد، وهم مسيّرون باللاشعور وحده تقريباً، وأطلق عليها اسم "الجماعة النفسية".
ما يميز الجماعة النفسية هو أن الأفراد الذين تتألف منهم، ومهما اختلفوا في أعمالهم وطرائق حياتهم وأخلاقهم وعقولهم وذكائهم، فإنهم يكتسبون في حال تحولوا إلى جماعة نفسية شيئاً من الروح الجامعة، وهذه الروح تجعلهم يشعرون ويفكرون ويسيرون على نحو يخالف ما يشعر به ويفكر فيه ويسير عليه كل واحد منهم عندما يكون منفرداً.
أي يكتسب الأفراد في الجماعة صفات جديدة مختلفة عن صفات كل واحد منهم منفرداً، وسبب ظهور هذه الصفات هو شعور الفرد بالحصانة وعدم المسؤولية نتيجة قوة الجماعة وعددها؛ ما يجعله يستسلم لغرائزه التي يردعها مُكرهاً عندما يكون منفرداً.
والسبب الثاني هو انتقال الشعور والسلوك بين أفراد الجماعة كالعدوى؛ الذي سمّاه بالعدوى النفسية، أما السبب الثالث فهو القابلية الكبيرة للتلقُن ضمن أفراد الجماعة.
إذاً؛ يمكن القول إن أهم صفات الفرد في الجماعة هي تلاشي شخصية الفرد وهيمنة اللاشعور، والتوجه نحو هدف واحد بالتلقين وعدوى المشاعر والأفكار، وتحويل الأفكار المُلقَنة إلى أعمال في الحال.
في الجماعة، لا يعود الفرد كما كان أياً يكن علمه وذكاؤه؛ وإنما يصبح "آلة تعجز إرادته عن قيادتها"، فيفقد استقلاليته كلّها ويصبح بدائياً وعاطفياً وغير منطقي، وتتحول أفكاره ومشاعره تحولاً قد ينقلب فيه الشريف إلى سارق، والنذل إلى بطل، والمؤمن إلى ملحد، وغير ذلك.
اقرأ أيضاً: شوشين: فلسفة يابانية تدعوك إلى التعلم مدى الحياة
مشاعر الجماعة وأخلاقها
من الصفات الخاصة بالجماعة التي حددها لوبون: الاندفاع، والغضب، وفرط المشاعر، والعجز عن التعقل، وغياب روح النقد، بالإضافة إلى صفات أخرى تسهل مشاهدتها؛ مثل:
- استعداد الجماعة للاندفاع والغضب والتقلب: تفقد الجماعة إرادتها وتعجز عن التفكير، وتصبح ألعوبة بيد المحرضات، فتراها تنقاد بسهولة، وتتقلب بغتة من الفوضى والتوحش إلى التنظيم أو البطولة حسب المحرِّض الذي يلقنها.
- استعداد الجماعة للتلقُن والتصديق: إن الجماعة تنتظر متأهبة لما تلقَّن به والذي سرعان ما يتحول إلى عمل تنفذه، فسواء كان متجراً ليُحرَق أو عملاً بطولياً ليُنجَز، فإن الجماعة تبدو مستعدة لتنفيذ ذلك بسهولة كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، ونتيجة التلقين والعدوى النفسية وغياب المحاكمة العقلية في الجماعة؛ فإنها تفرط في سرعة تصديقها للحوادث والقصص المتناقَلة بينها، وخصوصاً مع التشويه الذي يحدث في خيال الأفراد المجتمعين.
فالبطل الذي بدا لشخص واحد من الجمهور يرفع غرضاً ثقيلاً، سرعان ما يصبح في خيال الجمهور بطلاً يرفع قصراً بيدٍ واحدة، وأفراد الجماعة جميعهم، سواء العالِم أو الأبله، على استعداد لتصديق الأوهام التي يكونون عرضة لها.
ويعتقد لوبون أن هذا هو أصل الهلوسات الجمعية الكثيرة في التاريخ؛ التي غالباً ما يُشَك بصحتها لأنها من الحوادث التي شاهدها آلاف الناس. ولذلك؛ يتعذّر الاعتماد على شهادة الجماعات، ويكون إجماع الكثير من الشهود على إثبات أمر ما من أسوأ الأدلة.
- بساطة مشاعر الجماعة: تتميز مشاعر الجماعة بالبساطة، فلا تعرف الشك ولا التردد وتميل الى التطرف على الدوام، في حين يهبط المستوى العقلي إلى أبعد حد. لذلك؛ قد تجد أنه وعندما يحاول أحد الخطباء التأثير في الجماعة، فإنه يلجأ إلى تحريض مشاعرها المتطرفة، فتراه يفرط في المبالغة والتوكيد والتكرار ويتجنب تقديم الأدلة العقلية.
- التحكم وعدم التسامح: إن الحشد أو الجماعة، كما ذُكر سابقاً، لا تعرف إلا المشاعر البسيطة المتطرفة؛ لذا فهي تقبل ما تلقَّن به من الآراء والأفكار والمعتقدات جملة وتفصيلاً، أو ترفضها جملة وتفصيلاً، فهي إما أن تعتبر هذه الأفكار والمعتقدات حقائقَ مطلقة، وإما ترهات مطلقة. ولا تطيق الجماعة أيضاً أن يخالفها فرد ما أو يجادلها؛ بل إن أقل مخالفة في الاجتماعات العامة من فرد ما أو خطيب تُقابَل بالغضب وأعنف الشتائم، وقد تنتهي بالضرب والقتل.
- أخلاق الجماعة: قد تتخلى الجماعة عن الأخلاق تماماً أو قد تتحلى بأخلاق رفيعة جداً؛ أي قد تكون الجماعة أكثر شراً أو خيراً من أفرادها، وهذا يتعلق بما تلقَّن به. ومع ذلك، فإن علماء النفس الذين بحثوا في الجماعات قد لاحظوا كثرة الأعمال الإجرامية للجماعات، وقد يكون السبب حسبما يعتقد لوبون أن غرائز التوحش المخرّبة هي رواسب موروثة راقدة في أعماق نفس كل واحد منا، وبما أن الفرد يشعر بخطورة أن يروي هذه الغرائز منفرداً؛ فإن الاندماج في جماعة غير مسؤولة تحميه من المحاسبة والعقاب يسمح له باتباع هذه الغرائز بحرية.
في المقابل، قد يصدر عن الجماعة أعظم ما يكون من الإخلاص والخير، والتاريخ مليء بقصص الجماعات التي ضحت بأنفسها في سبيل معتقدات ومبادئ لا تكاد تفقه معناها؛ بل إن الجماعات قد تقوم بإضرابات متطرفة إطاعة لأمر ما أكثر من طمعها في زيادة أجر، وذلك لأن المنفعة الشخصية نادراً ما توجد ضمن الجماعات.
اقرأ أيضاً: ما هي فلسفة وابي سابي اليابانية؟ وكيف تساعد على قبول الأشياء بعيوبها؟
كيف يؤثر القائد في الجمهور؟
يرى لوبون أن الجماعة تحتاج غريزياً إلى قائد تطيعه، والقائد إذا ما أراد أن يؤثر في جماعة ما، فعليه أن يلجأ إلى التأكيد والتكرار والعدوى، فتأكيد الفكرة أو المعتقد أو الهدف على نحوٍ بسيط وخالٍ من الدليل والبرهان يكون وسيلة فعالة للتأثير في الجماعات.
ومع ذلك، لا يكون التأكيد ذا نفوذ حقيقي إذا لم يكرَّر بعبارات موحّدة ليرسخ في نفوس المجتمعين على أنه حقيقة ثابتة، فإذا ما كُرر التأكيد بما فيه الكفاية لحصول الإجماع عليه، فإن الأفكار والمشاعر والعواطف والمعتقدات سوف تنتقل بين الناس كالعدوى.
وبالإضافة إلى هذه الوسائل التي يستخدمها القادة، فإن القائد يجب أن يتمتع بنفوذ شخصي، سواء كان هيبة شخصية أو مجداً حربياً أو هولاً دينياً، وما إلى ذلك. وكلما زاد النفوذ الشخصي للقائد، فرض نفسه على الجمهور وزادت طاعته له.
اقرأ أيضاً: فيلدينكرايس: ممارسة حركية ذات فوائد نفسية وجسدية تعرف إليها
آراء الجماعة ومعتقداتها
يعتقد لوبون أن آراء الجماعة ومعتقداتها تنشأ عن مجموعة من العوامل؛ منها عوامل بعيدة مثل تلك التي تجعل الجماعة قادرة على تبنّي أو عدم تبنّي بعض المعتقدات؛ مثل العِرق والتقاليد والزمن والنظم السياسية والاجتماعية والتربية، ومنها عوامل قريبة تسهم في إثارة روح الجماعة وقد تكون حوادثَ بسيطة، فالعوامل القريبة تتنضد فوق ما بنته العوامل البعيدة من أساس.
على سبيل المثال؛ افترض لوبون أن الثورة الفرنسية قد اندلعت نتيجة مجموعة من العوامل البعيدة مثل انتقادات الكتّاب والمظالم السابقة، في حين أثارت العوامل القريبة من خطب الخطباء ومقاومة البلاط للإصلاحات التافهة روح الجماهير.
جدير بالذكر هنا إن لوبون يعتقد أن كل أمة من الأمم تقوم على مجموعة من الأسس الثابتة التي تتكون ببطء شديد عبر المئات من السنين، وأن المساواة بين الأمم أمر غير ممكن، فكل أمة تتمتع بصفات نفسية وأخلاقية محددة وثابتة تحدد شكل حضارتها، وكل ذلك بناء على العرق الذي تكونت منه.
فالعرق هو روح الأمة، والفرد ممثل لعرقه؛ يرث المزاج النفسي عن أسلافه وأجداده مثلما يرث صفاته البيولوجية. أما في حال أصابت هذه الصفات النفسية تغييراتٌ ثانوية خارجية، فإنها سرعان ما تزول ولا تُحدث تغييراً في الأسس النفسية للأمة.
ويرى أن المبادئ القائلة إن النظم الحاكمة في أمة ما قادرة على معالجة مساوئ المجتمعات، وإن تطوّر الأمم ينتج من عمل الحكومات والدساتير، وإن التحولات الاجتماعية تنتج من المراسيم؛ هي جميعها مبادئ خاطئة تماماً؛ وإنما الصحيح هو أن النظم السياسية وليدة الأفكار والمشاعر والطبائع.
وهذه الأفكار والمشاعر والطبائع لا تتجدد بتجدد القوانين، فالأمة لا تملك القدرة على اختيار نظمها مثلما لا تقدر على اختيار لون العين والمزاج، فالحكومات والنظم السياسية هي ثمرة العرق وأخلاق الأمم، وليست الحكومات هي من يحدد مقادير الأمم.
اقرأ أيضاً: حارب الكمالية بالرضا وتحرر من شقاء المثل العليا
تقسيم الجماعات
قسم لوبون أنواع الجماعات التي يمكن أن تُلاحظ في كل أمة على اختلاف الأمم إلى ما يلي:
- الجماعات المتباينة: وهي الجماعة النفسية التي خصها لوبون في كتابه ووضح صفاتها في ما سبق؛ والتي تتألف من أفراد مختلفين في المهن والذكاء. وقد أوضح إن نفسية الناس في الجماعة تختلف عن نفسيتهم وهم منفردون اختلافاً جوهرياً، وإن الذكاء لا يحول دون هذا الاختلاف. وقسَّم الجماعات المتباينة أيضاً إلى نوعين؛ الجماعات المُغفلة كجماعات الشوارع مثلاً، والجماعات غير المغفلة كالمحلَّفين والمجالس البرلمانية.
- الجماعات المتجانسة: التي قُسمت بدورها إلى 3 أنواع؛ الفِرق وهي تحتوي أفراداً مختلفين تربيةً ومهناً وبيئة في بعض الأحيان، ولا تربط بينهم سوى وحدة المعتقدات مثل الفرق الدينية والسياسية. النوع الثاني هو الطوائف التي تتألف من أفراد مختلفين مهناً وتربية وبيئة غالباً، ولا تجمع بينها إلا وحدة المهن مثل العمال أو الكَهنوت. والنوع الثالث هو الطبقات التي تتألف من أفراد مختلفي الأصول تجمع بينهم وحدة المصالح وبعض أساليب العيش؛ مثل الطبقة الوسطى أو الطبقة الذراع وغيرها.
ختاماً، يمكن القول إن لعمل غوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير تأثير كبير في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وُجهت له؛ لكن أفكاره حول سلوك الجماهير وعلم نفس الأفراد داخلها لا زالت تُستخدم لشرح مجموعة واسعة من الظواهر اليوم.