أن نكون منصفين بكلامنا يعني أيضاً ألا نخفي حزننا وغضبنا ومخاوفنا؛ لكن كيف لا نجعلها تغلبنا؟ كيف لا نقع تحت تأثير العواطف؟ ربما بالصمت أولاً.
عندما نشعر بغصة في حناجرنا وتتخدر أطرافنا وترتعش عينانا كيف نستطيع أن نقول لمديرنا أننا نهابه أو لشريكنا أننا نخاف أن يتركنا دون أن نجهش بالبكاء؟ ليس من السهل أن نجري حديثاً شخصياً لهذه الدرجة عندما يغمرنا الخوف أو الغضب أو الحزن. توضح الطبيبة والمعالجة النفسية "كاثرين إيميليت بيريسول" ذلك بقولها: "العواطف هي أنظمة دفاعية للإنسان تعمل في حالات الطوارئ عندما لا تلبَّى أحد حاجاته الأساسية، وهي تستجيب إلى ثلاثة أنواع من ردود الفعل: الهرب أو المعاناة أو الانسحاب". ويكون ذلك عند التعرض لمواقف يستحيل فيها التراجع وتخيل إجابة واضحة ومدروسة لأن "دماغنا البدائي يحشد كل ذرة فينا لتنبيهنا إلى نقص هذه الحاجة ويدفعنا إلى التجاوب طالما لم نلبيها، فهو يعد ذلك مسألة بقاء" وإذا لم نتوخى الحذر يكون ذلك على حساب تعرضنا لمعاناة نفسية شديدة لأنه يغرقنا بالعواطف حتى نطيعه وتنهكنا مقاومته.
ليكون كلامنا منصفاً نقترح أن نبدأ بالتزام الصمت. تشير "كاثرين إيميليت بيريسول" إلى أنها "الطريقة الوحيدة للتعرف إلى ما يهيج عواطفنا واستعادة وعينا والتحكم بمشاعرنا الجامحة". تنفسوا بعمق لتخفيف الضغط واستفيدوا من الهدوء الذي يمنحكم إياه للتمييز بين الحقائق وردات الفعل ومنع أنفسكم من إلقاء اللوم على من يحدثكم. وتتابع الطبيبة النفسية: "عند التعرض لموقف يزعزعنا تكون عواطفنا دائماً مهمةً ومنصفةً حتى لو بدت مشوهةً أو عدوانيةً؛ لكنها تكون متمحورة حول الذات" ولأنها تؤدي دور من يملي علينا الأوامر فإننا نفرضها بنفس الطريقة على من يحدثنا؛ والذي نعده رهينةً؛ إذ نعتقد أننا في حالة دفاع عن النفس في حين ينظر إلينا من يحدثنا باستغراب وارتباك دون أن يفهم شيئاً من كلامنا.
إذا لم نتمكن من التزام الصمت فليكن حديثنا خفيفاً. تقتضي طقوس التواصل في الواقع أنك بعد ملاحظتك أمراً معيناً ("عندما لا تجيب على مكالماتي") وتحدثك عن نفسك ("خشيت أنك لم تعد تحبني") تقدم طلباً ("أود أن تطمئنني"). في الواقع تبين أن تلك الخطوة الأخيرة تكون غالباً تلاعباً منا لأننا نجعل الطرف الآخر يشاركنا بإحساسنا بالضيق ونطلب منه تهدئتنا، لذا من الأفضل طرح سؤال مفتوح يمكنه الإجابة عليه بحرية. مثلاً: "آمل ألا تمانع أن تتصل بي بأسرع وقت ممكن؟" فإذا لم يستطع الاتصال أو لم يتصل، تمهل بضع ساعات؛ إذ سيكون لدينا دوماً متسع من الوقت لمشاركة هواجسنا معه بأسلوب ملائم أكثر من فوضى الدموع والكلمات التي نتفوه بها دون تفكير.
تتذكر "كاثرين إيميليت بيريسول": "لا نستطيع التحكم بالمشاعر التي نحسها لكن نستطيع أن نرى ما الذي تخبره عنا" من خلال تقبلها ثم تعزيز أوجه القصور التي تكشفها فينا، وحتى عند بحثنا عن ملكاتنا التي لا نتوقعها؛ يمكننا ترويضها تدريجياً حتى يصبح كل موقف نتعرض له فرصةً لنا لنستجيب بأسلوب مختلف على من يحدثنا ونوصل إليه رسالةً أكثر واقعيةً.
مخاوفنا تقيدنا
تعرف "كاثرين إيميليت بيريسول" الخوف بأنه "أول إحساس عاطفي يعترينا عندما نواجه ما شهدنا أنه تهديد لسلامتنا" فهو يكشف لنا أن حاجتنا للأمان لم تلبَّى ويدفعنا إلى تعويضها بحشد طاقاتنا لإعداد أنفسنا للفرار؛ يجبرنا على البحث عن الصفات الداخلية البارزة وطرق الهرب المتاحة. تقول جوى البالغة من العمر 32 عاماً: "أصاب بالذعر عند إجراء أي مقابلة عمل فأتلعثم ولا أستوعب الأسئلة المطروحة عليّ وتنقطع أنفاسي". عندما نكون في خضمّ الموقف لا تكون المسألة مسألةَ فهم سبب تجاوبنا بهذه الطريقة؛ بل كيف نطمئن أنفسنا. وسواء شعرنا بأن نظرة الآخر تحاصرنا أو أن أسئلته تضغط علينا يمكننا استعادة ثقتنا بأنفسنا بالاستعانة بالنظر إلى حركة الأشجار عبر النافذة أو تحديد لون شيء ما أو المبادرة بدعم لأنفسنا (بلمس معصمنا مثلاً) أو النظر إلى الأسفل بين كل جملتين لنعيد استجماع أفكارنا. عندما يهدأ الموقف لم لا نقدر عواطفنا؟ تؤكد الطبيبة النفسية أن: "عواطفنا هي أكثر الحالات الدفاعية إبداعاً لأنها تخلق محيط خيالنا". وباعتبارنا أنها إحدى ملكاتنا نعزز أماننا الداخلي حتى نتمكن بعد ذلك من التحدث دون أن نرتجف.
غضبنا يعمي بصيرتنا
تكشف "كاثرين إيميليت بيريسول": "عندما لا يكون الهروب متاحاً ننقلب على ما يهددنا". يشير الغضب إلى عدم تلبية حاجتنا لاكتساب هوية خاصة بنا فنشعر بالخداع والرفض وانخفاض تقديرنا لأنفسنا. يقول باسم ذو 55 عاماً: "إذا منحني سائق الأولوية أصاب بالجنون وقد أنهال عليه بمختلف الشتائم". نثبت أننا "الأقوى" بإصدار صوت عالٍ وتضخيم الجذع فنملأ فجوة افتقارنا للهوية بمطالبة الآخر باحترامنا. تعترف الطبيبة النفسية أنه: "يصعب على المرء عند احتدام الموقف أن يردع نفسه لأنه في قانون البقاء يفضل أن تتفوه بكلمات التهديد على أن تصمت ولا تثبت وجودك أبداً. عندما يهدأ الموقف دعنا نرى المهارات التي أظهرناها عند استعراض قوتنا بإنشاء قائمة بالمحاسن الثانوية مثلاً.
غارقون في حزننا
تقول "كاثرين إيميليت بيريسول": "عندما لا يكون الهروب ولا الشجار خياراً متاحاً نختبئ مما يهددنا". قبل كل شيء احرص على ألا تزعج أحداً وكن لطيفاً ومتحفظاً. نحلم بأن نختفي في قاع الأرض إلى أن نشعر بحزن عميق ونجهش بالبكاء ونحن محاصرون في هذا المأزق فتكون حينها حاجتنا إلى التواجد هي التي لم تلبَّى. تعد دموعنا التي قاطعت عزلتنا مفيدةً؛ حيث تتابع الطبيبة قولها: "هي تساعدنا على تفريغ كل التوتر، ومن خلال انسحابنا ولجوئنا إلى عزلتنا نعيد تواصلنا مع إنسانيتنا وحقيقة وجودنا" وخاصةً ما اعتقدنا أنه لا يرقى إلى التوقعات التي يفترضها قائدنا أو شريكنا منا. بدلاً عن التحدث بهدوء شديد لدرجة لا يسمعنا فيها أحد إلى أن نخسر جرأتنا على التحدث تدريجياً؛ سيكون من الأفضل عند احتدام الموقف أن نبحث عن الدعم الذي نفتقر إليه في جسدنا: نقف بثبات منتصبي القامة ونبسط أكتافنا ونفرد أعناقنا لنتكلم بصوت واضح، وأثناء تركيزنا على موضوعنا لنركز أيضاً على نقطة معينة في من يحدثنا: كتفه أو جبهته أو أي شيء عدا نظرته التي قد ترهبنا أكثر. كما أن إثارة حساسيتنا يتيح لنا غالباً اجتياز الدورة العاطفية التي نمر بها عندما يهدأ الموقف. تعد البستنة واليوغا والسمو الروحي واللعب مع أطفالنا وغير ذلك أنشطةً تجدد نشاطنا وتمنحنا طاقةً ومتعةً وتضفي معنىً على مكاننا في هذا العالم وتعزز شعورنا بوجودنا ورغبتنا في إعادة إثباته، فيرتفع صوتنا ورأسنا عالياً.