هل يمكن أن تستمر الصداقة حقاً مدى الحياة؟ رغم أنها لا تُقدَّر بثمن، فإنه يمكن للصداقة كحال أي علاقة أخرى أن تتغير بمرور الوقت، خاصةً عندما تتحول من مصدر للراحة إلى عبء يُثقل كاهلنا، فكيف يمكن لنا التعامل عندما تصبح الصداقة عبئاً عاطفياً؟
يسلّط سافيرو توماسيلا وشارلوت ويلس في كتابهما الجديد "العبء العاطفي" (La charge affective) الضوء على علاقاتنا ومدى تأثيرها في رفاهتنا. تتولّد الكثير من العواطف والمشاعر في داخلنا بصورة يومية تبعاً للأشخاص الذين نشاركهم الأخبار السعيدة والحزينة وأوقات السرور والضيق والطمأنينة والقلق، وتؤثر هذه العواطف في حالتنا المزاجية وطاقتنا.
وبناءً على ذلك يدعونا الكاتبان إلى التفكير في علاقاتنا والعواطف التي تثيرها هذه العلاقات في أنفسنا؛ إذ تساعدنا العواطف الإيجابية على ضبط الضغوط النفسية التي نعاني منها، وتعيد شحننا نفسياً وتُمثل أداة تحفيز لنا.
أما إذا كانت الصداقة تثير عواطفَ سلبيةً فينا فإنها ستكون على العكس من ذلك عبئاً علينا، وقد تصل إلى حد التسبب بصدمة عاطفية تنتهي بالإصابة بالاحتراق النفسي.
وفي هذا السياق يؤكد سافيرو توماسيلا أن التعافي من حالة الاحتراق النفسي قد يستغرق مدةً تتراوح من 6 إلى 18 شهراً. ولأن الوقاية خير من العلاج فإنه من الضروري أن نكون قادرين على التمييز بين الصداقة الحقيقية التي تمثل دعماً حقيقياً لنا، وتلك التي تنطوي على علاقة غير متكافئة تؤدي إلى تقويض ذواتنا.
تقول شارلوت ويلس؛ المعالجة النفسية والمدربة المتخصصة في دعم الأشخاص مفرطي الحساسية: "تثير علاقة الصداقة في نفس المرء مشاعر الفرح والسعادة؛ إذ تمدنا الصداقة الصحية بالطاقة الإيجابية وتسمح لنا بالتخلص من الضغط الذي نشعر به من خلال الأوقات الجيدة التي نتشاركها مع الأصدقاء. وإحدى أهم علامات الصداقة الصحية هي شعورنا بالسعادة بعد رؤية الصديق الحقيقي، وهي إشارة إلى أن العلاقة ثمينة ومثمرة".
يُعرَّف الصديق بأنه الشخص الذي تلتقي به في مرحلة من مراحل الحياة وتقرر أن تشاركه جزءاً من رحلتك فيها. ولكن كحال كل أنواع العلاقات الأخرى فإن الصداقات قد لا تدوم، فقد تتغير اتجاهات كل شخص بصورة مختلفة نتيجة تطوره خلال الأحداث التي تمر به في الحياة؛ بما في ذلك تغير ذوقه وأفكاره السياسية واهتماماته، وغيرها.
ومع ذلك فإن اختلاف وجهات النظر بين الصديقين لا يعني انتهاء العلاقة التي تجمعهما بصور تلقائية؛ لكن ذلك يشير إلى ضرورة تقبل حقيقة أن الصداقة التي تنشأ في مرحلة من مراحل الحياة لن تدوم بالضرورة إلى الأبد.
فالصداقة تستمر بين شخصين طالما أن هنالك ما يستطيع كل منهما تقديمه للآخر، وعندما لا يعود الحال كذلك فإنه من الضروري أن يكون كل شخص منهما قادراً على استئناف حياته وفق المسار المناسب له. بخلاف ذلك فإن المرء يخاطر بربط نفسه بعلاقة ترهقه وتؤثر فيه تأثيراً سلبياً بدلاً عن أن تكون مصدر دعم له.
ما هي علامات الصداقة غير الصحية؟
هناك العديد من العلامات الواضحة التي تشير إلى علاقة الصداقة غير المتوازنة؛ مثل ملاحظة عدم تعامل الطرف الآخر معك بالعفوية والانفتاح اللذين يميزان علاقة الصداقة.
وتقول شارلوت ويلس: "هذا هو الحال عندما يُشعرك هذا الشخص بأنه يتعين عليك القيام بالكثير من أجله لتستحق صداقته". فالصداقة من طرف واحد هي علاقة مكلفة كثيراً للشخص الذي يقدم الكثير من العواطف دون أن يتلقى ما يقابلها من الطرف الآخر.
من علامات التحذير الأخرى الشعور بالأذى من فكاهة الطرف الآخر، وتوضح المعالجة النفسية قائلةً: "عندما تحب شخصاً ما فأنت لا تطلق عليه نكاتاً جارحة ثم تقول له لا بأس إننا نمرح فقط. فالشخص الراشد يجب أن يحافظ على مشاعر أصدقائه، ومن ثم فهو يتوخى الحذر فيما يقوله لهم. من جهة أخرى فإن محاولة الشخص لتقدير ذاته عبر التقليل من قيمة الآخرين بهذه الطريقة تُظهر في الحقيقة رغبته في أن يكون الطرف المسيطر في العلاقة".
تقول شارلوت ويلس: "أود أن أضيف أنه لا يجوز استخدام الأصدقاء كوعاء عاطفي لنا. من المؤكد أنه يمكننا أن نشاركهم تجاربنا المؤلمة، أما الشكوى لساعات وتكرار الحديث ذاته عن أنفسنا وحظنا السيئ فليست أموراً مقبولة؛ إذ لا يمكننا أن نغرق الآخرين بشكوانا ونتوقع منهم أن يستمعوا إلينا في كل مرة دون تردد".
تعرف إلى كيفية إنهاء علاقة الصداقة
يمكنك قبل اتخاذ قرارك بإنهاء علاقة الصداقة أن تحاول مناقشة الأمر مع الطرف الآخر. وتؤكد شارلوت ويلس أن التواصل اللاعنفي هو أفضل طريقة للتعامل مع الموضوع؛ عَبّر عن نفسك وتذكر أن الغرض من النقاش ليس إيذاء الآخر بل جعله يدرك ما تشعر به.
من جهة أخرى فإن الخوف من أن نؤذي الطرف الآخر هو غالباً ما يمنعنا من التعبير عن مشاعرنا. ولكن من الضروري أيضاً أن تتذكر أنك قد تعرضت للعنف من هذا الصديق قبل أن تقرر التحدث معه حول إنهاء صداقتكما؛ وذلك من خلال كلامه ومواقفه التي سببت لك الأذى والألم.
تسمح لنا قدرتنا على التحدث عن العلاقة بوصفها لم تعد ملائمةً لنا بالانتقال إلى الخطوة التالية، وهي أن نوضح للطرف الآخر أن اختلاف مساراتنا في الحياة لا يعني أن الأمر بيننا قد انتهى إلى الأبد، فنحن لا نعرف ما الذي تخبئه لنا الحياة وقد يحدث أن تجمعنا نقطة تلاقٍ أخرى يوماً ما. علاوةً على ذلك، فإننا بتخلينا عن علاقة تسبب لنا المعاناة نستعيد حريتنا، ونعيد للآخر حريته أيضاً.
أخيراً؛ عندما تصبح الصداقة عبئاً عاطفياً ونقرر الابتعاد عن الشخص الذي لم يعد صديقاً بالنسبة لنا فإننا نتيح الفرصة لأنفسنا لمقابلة أشخاص آخرين. ليس من الأنانية إنهاء الصداقة، فالجميع يعيدون ترتيب حياتهم بمفردهم ويجددون دائرة أصدقائهم وفقاً لاهتماماتهم الحالية، وهي ديناميكية إيجابية تحول الصداقة من عبء يثقل كاهلنا إلى دافع للمضي قدماً في الحياة.