"بعد تعرّضي لحادث صادم ظننت في البداية أنني أدير أزمتي النفسية جيداً؛ لكن ذلك لم يستمر سوى لعدة أسابيع تلاها ظهور أعراض جسدية مزعجة أشبه بالتعرض لنوبة قلبية إلى حد اقترابي من فقدان الوعي"، إنني مصاب بـ "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD).
أحياناً قد نواجه أحداثاً صادمة لا نكون مستعدين لها؛ مثل الاستيقاظ على زلزال مدمر أو وجودنا في مكان يقع به حادث إرهابي، أو اصطدام السيارة التي نستقلها بسيارة أخرى، جميعها حوادث محتمَلة تؤدي إلى المعاناة من أفكار ومشاعر سلبية يتمكن بعض الأشخاص من تجاوزها بمرور الأيام بينما يعلق البعض الآخر فيها ولا يتمكن من تجاوزها؛ ما يوقعه في شراك اضطراب ما بعد الصدمة الذي سنتعرف إليه بالتفصيل في مقالتنا.
ما اضطراب ما بعد الصدمة؟
تُعرّف الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين (American psychiatric association) اضطراب ما بعد الصدمة بأنه اضطراب نفسي يصيب الأشخاص الذين تعرضوا أو شهدوا حدثاً صادماً نفسياً أو جسدياً هدد حياتهم؛ مثل الكوارث الطبيعية والحوادث الخطيرة والحروب والاعتداء الجنسي والعنف الأسري أو عنف الشريك.
وقد انتشرت النقاشات حول اضطراب ما بعد الصدمة على نطاق واسع خلال سنوات الحرب العالمية الأولى والثانية؛ إذ أُصيب به الكثير من المحاربين القدامى. لكنه رغم ارتباطه بتلك الفئة من المجتمع يمكن أن يصيب أي شخص من أي جنس وفي أي عمر؛ إذ يُصاب نحو 3.5% من البالغين الأميركيين به كل عام.
ويعاني المصابون باضطراب ما بعد الصدمة من أفكار ومشاعر مزعجة قد تستمر لفترة طويلة بعد انتهاء الحادث الصادم الذي تعرضوا له، ومن أهم تلك المشاعر الحزن أو الخوف أو الغضب إلى جانب شعورهم بالانفصال عمّن حولهم، وأيضاً محاولتهم تجنب المواقف أو الأشخاص الذين يذكرونهم بالحادث الذي تعرضوا له، وأحياناً تكون لديهم حساسية عالية للأشياء العادية التي ارتبطت بظروف الحادث مثل رائحة أو صوت معين.
أسباب الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة
ذكرت هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) أحداثاً مختلفة يمكن أن تؤدي للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة؛ مثل:
- الحوادث الخطِرة.
- الاعتداء الجسدي أو الجنسي.
- الإساءة بما فيها إساءة المعاملة في مرحلة الطفولة وكذلك العنف المنزلي.
- التعرض لأحداث صادمة في العمل.
- المرور بتجارب مرضية مثل دخول العناية المركزة.
- موت شخص قريب.
- معايشة الحروب والصراعات.
- التعذيب.
- تجارب الولادة التي تتعرض فيها المرأة للخطر الذي قد يصل إلى حد فقدان الطفل.
ما أعراض اضطراب ما بعد الصدمة؟
تقسم الاستشارية النفسية داكوتا كينغ وايت (Dakota King-White) أعراض اضطراب ما بعد الصدمة إلى عدة أعراض رئيسية تشمل:
العرض الأول: الذكريات الاقتحامية
يعاني المصابون باضطراب ما بعد الصدمة من أفكار ومشاعر متكررة غير إرادية تقتحم حياتهم اليومية وترتبط بالحادث الصادم، وأحياناً قد يصل الأمر إلى معاناتهم من مشاعر شبيهة بما عاشوه في التجربة الأصلية، ولا تفلح محاولاتهم في تجنبها أو إلهاء أذهانهم عنها.
العرض الثاني: فرط اليقظة
يعيش من أُصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة حساسية عالية مبالغاً فيها في كثير من الأحيان تجاه التهديدات المحتمَلة، تنتج منها ردود أفعال غير منطقية إلى جانب عدم مقدرتهم على التركيز ومعاناتهم من صعوبات في النوم أحياناً أو الشعور بالانفصال عن العالم الخارجي؛ ما يؤدي إلى صعوبات مهنية واجتماعية.
العرض الثالث: السلوكيات التجنبية
يمكن أن تظهر هذه السلوكيات في أكثر من سياق يتجنب من خلاله المصابون باضطراب ما بعد الصدمة أي شيء يذكرهم بالحدث الصادم؛ مثل تجنب الأشخاص أو الأماكن أو المواقف أو حتى الروائح المرتبطة بذلك الحدث، وقد يصل الأمر إلى تجنب مدن أو ظروف مناخية بعينها.
العرض الرابع: تقلبات المزاج
يرافق تقلب المزاج المصابين باضطراب ما بعد الصدمة ويظهر في يومهم دون إنذار مسبق، وهذا ما يجعلهم أكثر عرضة للمعاناة من الاكتئاب والشعور بالانزعاج والميل إلى الغضب والعدوانية، وهو ما يفسر أيضاً كونهم أكثر عرضة من غيرهم لارتكاب السلوكيات المتهورة وأهمها محاولات الانتحار وتعاطي المخدرات أحياناً.
العرض الخامس: اضطرابات الجسد
يتأثر جسم المصاب باضطراب ما بعد الصدمة بما حدث له، ويصبح شديد اليقظة بهدف الوقاية من المخاطر المحتمَلة. على سبيل المثال؛ إذا سمع صوتاً ما أو اشتم رائحة مرتبطة بالحادث نفسه الذي أدى إلى الصدمة سيكون رد فعله غير منطقي وفي سياق استجابة لصدمة متوقعة رغم أن الواقع غير ذلك، وذلك يمنع دماغه من التعافي مما حدث على المدى البعيد.
اقرأ أيضاً: أثر صدمات مرحلة الطفولة في الصحة النفسية
كيف يشخَّص اضطراب ما بعد الصدمة؟
تشير الاختصاصية النفسية ناتاشا دي فاريا (Natasha de Faria) إلى أن تشخيص المصاب باضطراب ما بعد الصدمة يكون من خلال البحث عن الأعراض التي تم توضحيها مسبقاً والتي تظهر غالباً بعد مرور شهر من وقوع الحدث الصادم، ويُشترط للتشخيص بالاضطراب أن تستمر الأعراض لأكثر من أربعة أسابيع مسببة ضغوطاً شديدة تؤثر في الحياة اليومية للمريض.
وتلفت فاريا الانتباه إلى نقطة مهمة هي أن الأعراض قد تتأخر في بعض الحالات لشهور أو حتى سنوات، فلا يعني عدم ظهور أي أعراض بعد الحدث الصادم أن الشخص لن يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة لاحقاً.
كيف يعالَج اضطراب ما بعد الصدمة؟
يؤكد أستاذ علم النفس بجامعة توليدو الأميركية (University of Toledo)، ماثيو تل (Matthew Tull) إنه لا يوجد علاج نهائي وقطعي لاضطراب ما بعد الصدمة إنما يوجد العديد من الطرائق والأساليب العلاجية التي تخفف حدة أعراضه؛ مثل:
1. العلاج الدوائي
وفيه يستخدم الطبيب النفسي مجموعة متنوعة من الأدوية تعمل على علاج اضطرابات المزاج والقلق مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، وكذلك مثبطات استرداد السيروتونين والنورإبنفرين (SNRIs).
2. العلاج النفسي
يتفرع إلى عدة أساليب علاجية مثل العلاج السلوكي المعرفي الذي يركز باستخدام الكلام على استيعاب الحدث الصادم وتحسين آلية التعامل معه على الصعيد العقلاني والعاطفي أيضاً، ويحتاج المريض عادةً إلى 12 - 16 جلسة فردية أو جماعية.
كذلك، يُستخدم العلاج بإزالة تحسس العين (EMDR) الذي يعتمد على حركات العين لمساعدة الشخص على التأقلم مع ذكرياته وأفكاره ومشاعره المرتبطة بالصدمة.
3. العلاج بالتعرض
يُستخدم هذا النوع من العلاج بالأخص مع الاضطرابات المرتبطة بالقلق؛ ما يجعله فعالاً في علاج اضطراب ما بعد الصدمة إذ يضع المعالج سيناريوهات تدريجية تجعل المريض يتعامل مع صدمته بقدر أقل من الخوف والقلق وتقلل حساسيته تجاهها.
4. العلاج باليوغا
أثبتت اليوغا قدرتها على تخفيف التوتر، لذا يمكن أن تكون فعالة في تقليل الأعراض عند الأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.
إذا كنت تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة فاعلم أنك لست وحدك وهناك جانب مضيء في القصة هو أنك نجوت جزئياً مما حدث. بالطبع ستستمر آثار هذه الصدمة لبعض الوقت لكن يمكنك تخفيف حدتها بالالتزام بالعلاج والتوصل إلى آليات تأقلم فعالة تجعل تلك الآثار محدودة قدر المستطاع.