لا تكف ثقافة الاستهلاك اليومية عن ابتكار وسائل جديدة تغذي رغبتنا في اقتناء كل ما هو جديد؛ إذ تتغير أذواقنا تدريجياً وتتوجه رغباتنا دون وعي منا، غالباً بسبب قوة الإقناع التي تتمتع بها وسائل التواصل الاجتماعي. من الأمثلة الحديثة على ذلك صيحة ميدالية المفاتيح التي تحمل دمية "لابوبو"، وهي دمية محشوة تبدو عادية المظهر تحولت إلى قطعة إكسسوار فاخرة بعد أن ظهرت في منشورات مشاهير ومؤثرين.
كانت لابوبو في الأصل شخصية فنية ابتكرها الفنان كاسينغ لونغ، لكنها حظيت بشهرة واسعة عام 2024 بعد أن ظهرت المغنية ليزا من فرقة بلاك بينك في صورة وهي تحمل واحدة منها معلقة بحقيبة يدها الفاخرة. ومنذ ذلك الحين، تحولت إلى ظاهرة استهلاكية تشهد إقبالاً غير مسبوق. وعلى الرغم من طرافة هذه الظاهرة، فإنها تعكس قضايا أعمق تتعلق بالاستهلاك في العصر الرقمي، حيث ترتبط الهوية والشعور بالانتماء والقيمة الاجتماعية أكثر فأكثر بصيحات تلقى رواجاً من خلال الخوارزميات والمؤثرين.
أثرت وسائل التواصل الاجتماعي في سيكولوجيا الاستهلاك وغيرتها تغييراً جذرياً؛ إذ يستثمر المؤثرون في تكوين علاقات شبه شخصية، تدعى "وهم القرب العاطفي" من المتابعين (هوفنر وبوند، 2022)، لتغذية مشاعر الارتباط والثقة، ما يهيئ بيئة خصبة للتسويق القائم على الإقناع. ومع اقتران هذا العامل بأثر القلق الناجم عن الخوف من تفويت شيء، يندفع الأفراد إلى نمط من الاستهلاك المتسارع القائم على الصيحات الرائجة من أجل الحفاظ على الشعور بالانتماء ومواكبة الأحداث.
ويكمن جوهر هذا السلوك في مفهوم "الاستهلاك الاستعراضي" الذي صاغه عالم الاجتماع فيبلن، ويقصد به شراء السلع وعرضها لا لقيمتها الوظيفية، بل بوصفها إشارات على المكانة الاجتماعية أو الهوية أو الانتماء. وقد استخدم فيبلن المصطلح في الأصل لوصف اقتناء السلع الفاخرة واستعراضها للتعبير عن الثراء. غير أن أبحاثاً حديثة (وانغ وآخرون، 2021) أثبتت أن الأفراد الذين يشعرون بتدني وضعهم الاقتصادي والاجتماعي غالباً ما يكونون أكثر ميلاً إلى هذا النوع من الاستهلاك كذلك؛ فالمسألة لا تتعلق بالثراء فقط، بل بخلق صورة ذاتية محددة، كأن يبدو المرء أنيقاً أو واعياً بالمخاطر البيئية أو مغامراً أو ملماً بالثقافة.
تجسد صيحات مثل دمى لابوبو هذا النمط بوضوح؛ فعلى الرغم من أنها تبدو في البداية غريبة الطابع وتعكس ذوقاً شخصياً، فغالباً ما تتحول إلى أدوات ترمز إلى رأس المال الثقافي. ومع تزايد شعبيتها بفعل التضخيم الخوارزمي وترويج المؤثرين، يتلاشى تفردها؛ فما يبدأ تعبيراً فردياً سرعان ما يتحول إلى سلوك جماعي متكرر، وهو ما يسلط الضوء على التناقض الكامن في صميم الاستهلاك الاستعراضي في العصر الرقمي: السعي نحو التفرد عبر اقتناء السلع الاستهلاكية لا يؤدي سوى إلى تعزيز النمطية والهويات المصطنعة لأغراض اجتماعية.
استناداً إلى نظرية الهوية (سترايكر وبيرك، 2000)، يستخدم الإنسان اختياراته الاستهلاكية لبناء صورة ذاتية والتعبير عنها بما ينسجم مع الدور الاجتماعي الذي يتطلع إليه، كأن يبدو مبدعاً أو أنيقاً أو واسع الاطلاع الثقافي. وتمثل هذه السلوكيات الرمزية وسيلة للتعبير عن الذات مثلما يراها صاحبها، ومثلما يرغب في أن يراه الآخرون في محيطه الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، يتحول الاستهلاك الرقمي إلى مسرح مفتوح لاستعراض الهوية، توجهه الخوارزميات ويستخدمه الإنسان لنيل القبول الاجتماعي.
ينطوي التبدل السريع في التوجهات الاستهلاكية القصيرة الأجل داخل السوق الرقمية اليوم على تبعات بيئية وأخلاقية مثيرة للقلق؛ فمن أجل تلبية الطفرات المفاجئة في الطلب، تكثف الشركات عمليات الإنتاج، غالباً على حساب الممارسات المستدامة. وينتج عن ذلك كميات هائلة من النفايات واعتماد مصادر توريد غير مسؤولة وترسيخ عقلية استهلاكية قائمة على الاستخدام المؤقت والتخلص السريع من المنتجات. وفي حالة ميداليات المفاتيح التي تحمل دمية لابوبو، يؤدي استخدام الصناديق المغلقة في التغليف، لإضافة عنصر المفاجأة، إلى تكرار الشراء؛ ما يفاقم معدلات الهدر والاستهلاك المفرط.
تمارس هذه الصيحات أيضاً ضغوطاً نفسية شديدة، لا سيما على فئة الشباب؛ فقد يشعر المراهقون بالإقصاء أو يتعرضون للتنمر إن لم يواكبوا أحدث المنتجات "التي لا غنى عنها"، ما يحول الاستهلاك إلى مقياس للمكانة الاجتماعية. وتسهم وتيرة تبدل الصيحات في تغذية دوامة من المقارنة والقلق والشراء القهري، ما يؤدي إلى انفصال قيمة الذات عن المعايير الجوهرية وارتباطها بمعايير سطحية يمليها الخارج.
قد تبدو ميدالية المفاتيح التي تحمل دمية لابوبو لطيفة الشكل، لكنها تمثل دراسة حالة لقدرة الصيحات الحديثة على التلاعب بالسلوك واستنزاف الموارد وتعزيز الضغوط الاجتماعية. ومن خلال فهم التداعيات الأوسع لهذه الظواهر، يمكننا الانتقال من الاستهلاك التفاعلي المتسرع إلى خيارات أكثر وعياً، ومدروسة بقدر أكبر من التأني.