كيف تحقق التوازن بين رغباتك وآراء الآخرين؟

11 دقيقة
التوازن بين ما تريده لنفسك وما يريده الآخرون
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

يستيقظ غريغور سامسا ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة. قبل هذا التغير الغريب، كانت حياته تحددها الواجبات، والعمل ساعات طويلة في وظيفة بائسة لسداد ديون عائلته وتمويل مستقبل أخته. كانت أحلام غريغور ورغباته غائبة عن الأنظار، مدفونة تحت وطأة الالتزامات. وبعد تحوله، لم يعد قادراً على أداء تلك الأدوار حتى. فسرعان ما تخلت عنه عائلته التي كانت تعتمد عليه، كاشفة أن حبهم له كان مرتبطاً بفائدته إلى حد ما.

قد يكون مصير غريغور في رواية "التحول" لفرانز كافكا تذكيراً مؤلماً لما قد يحدث عندما نعيش كلياً وفقاً لتوقعات الآخرين. فإن لم نعمل على حماية عقولنا وتلبية احتياجاتنا، فربما نخاطر بأن نصبح مثل غريغور، منعزلين عن ذواتنا، لا يقدرنا الآخرون إلا لما نقدمه، ونعاني الإهمال عندما لا نعود قادرين على خدمتهم.

الآن، ربما لا يكون الواقع سوداوياً وتشاؤمياً إلى حد وصف كافكا، لكن هذا لا ينفي أهمية تحقيق التوازن بين ما تريده لنفسك وما يريده الآخرون لك، حفاظاً على طاقتك الذهنية وصحتك النفسية، وإليك 4 نصائح لفعل ذلك.

1. طور وعيك بذاتك

عندما تعرف ما يهمك حقاً، فمن المرجح ألا تؤثر الضغوط الخارجية في قراراتك. لكن، من أنت فعلاً؟ وما الذي تريده في هذه الحياة حقاً؟

في الواقع، ذاتك الحقيقية هي مزيج من قيمك وشغفك وتفضيلاتك الأصيلة. وللأسف، كثيراً ما تتلاشى هذه الصفات تحت وطأة سنوات من الضغط الأسري والثقافي وتلبية التوقعات والسعي لنيل إعجاب الآخرين.

ولاكتشاف ذاتك الحقيقية وإدراك ما تريده حقاً، عليك الانخراط في عملية طويلة ومستمرة لتطوير الوعي الذاتي؛ أي أن تكون واعياً بأفكارك ومشاعرك ودوافعك وأنماطك السلوكية، وأن تفهم أسبابها الكامنة وتأثيرها في حياتك. هذه العملية ليست سهلة، بل تتطلب الصبر والفضول والصدق والمواظبة.

تبدأ القصة باليقظة الذهنية، التي تدربك على مراقبة أفكارك ومشاعرك في اللحظة الراهنة دون إصدار أحكام. إضافة إلى تدوين اليوميات الذي يعد أداة فعالة لفهم مشاعرك وقراراتك وتحديد الأنماط السلوكية ومصادر السعادة أو الانزعاج.

كما أن التأمل في تجاربك السابقة، الإيجابية والسلبية، وكيف أثرت في معتقداتك وسلوكياتك، والانتباه لردود أفعالك في مختلف المواقف، خاصة في اللحظات الصعبة، سيعطيك فكرة جيدة عن محفزاتك.

علاوة على أن تذكر المواقف التي شعرت فيها بالفخر والرضا التام عن نفسك، والبحث عن القيم الكامنة وراء تلك اللحظات، مثل الشعور بالحرية أو القدرة على الإبداع أو اللطف أو تحقيق الإنجازات، وجعل قراراتك متوافقة مع قيمك هذه، كل ذلك سيساعدك على التواصل مع ذاتك.

إضافة إلى أن طلب آراء الأصدقاء أو العائلة أو الزملاء الموثوق بهم قد يساعدك على فهم كيفية نظر الآخرين إليك، ويكشف لك نقاط ضعف أو نقاط قوة ربما لم تكن منتبهاً لها، ما يعمق فهمك لما يبدو أصيلاً مقارنة بما يبدو متوقعاً.

اقرأ أيضاً: كيف تعرف أن شخصيتك تتطور نحو الأفضل؟

2. تقبل أنك لا تستطيع إرضاء الجميع

أنت تعلم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، لكن إلى أي مدى تطبق هذه القاعدة؟ بالطبع ليس سهلاً أن تتوقف عن تلبية رغبات الآخرين في حال كنت معتاداً على تعديل كلامك وسلوكياتك أو تغييرها بما يراعي مشاعرهم أو ردود أفعالهم. لكن ثمة نقطتين ينبغي توضيحهما.

أولاً، توقعات الآخرين هي أفكار أو معتقدات أو افتراضات حول كيف ينبغي أن تفكر أو تتصرف أو تستجيب في مواقف معينة، وهي غالباً ما تتبلور من خلال مزيج من التقاليد الثقافية والضغوط المجتمعية والتجارب الشخصية وطبيعة العلاقات. باختصار، توقعات الناس منك وما يريدونه لك هي انعكاس لمخاوفهم أو رغباتهم أو تقاليدهم في كثير من الأحيان وليس انعكاساً لحقيقتك.

وفي حين أن بعض التوقعات، عندما تكون واقعية ومتوافقة مع قيمك، قد توفر دافعاً وفرصاً للنمو، فإن بعضها الآخر قد يكون غير واقعي أو يتعارض مع احتياجاتك أو أهدافك، وهو ما قد يسبب التوتر والإحباط والشعور بعدم الكفاءة.

ثانياً، ربما تطورت طاعة الناس لديك باعتبارها آلية للنجاة في مرحلة الطفولة. فعندما يكبر الطفل في بيئة يشعر فيها بأنه لا يحصل على الحب أو الموافقة أو الأمان إلا بتنفيذ شروط معينة، قد يتعلم أن أفضل طريقة لتجنب الصراع أو الرفض هي كبت احتياجاته الخاصة وإعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين.

بمرور الوقت، يصبح نيل رضا الآخرين مرتبطاً بقيمته الذاتية، وتراه يشعر بالقلق أو الذنب عند قول "لا"، وذلك خوفاً من الرفض أو الهجر أو إثارة غضب الآخرين. وعلى الرغم من أن هذا النمط كان يحميه في السابق، فمن المرجح أن يسبب الإرهاق والاستياء والاغتراب عن الذات الحقيقية. فما هو الحل؟ إليك بعض النصائح:

  1. انتبه إلى الإشارات: يبدأ التخلص من عادة إرضاء الناس المستمرة بملاحظة متى وكيف يحدث ذلك في حياتك، فهل تخاف الرفض؟ أم تسعى لأن يحبك الآخرون؟ أم توافق بسرعة على أي شيء حتى لو لم تكن موافقاً حقاً؟ أتراك معطاء جداً؟ أم تؤثر الصراعات والخلافات فيك بشدة؟ يساعدك الوعي بأساليبك في إرضاء الناس على البدء بإجراء التغييرات اللازمة.
  2. تدرب على إعطاء الأولوية للعناية بنفسك: ضع احتياجاتك في المقام الأول، فهذه ليست أنانية، بل أمراً صحياً وضرورياً. قد تتضمن تلبية احتياجاتك الخاصة التعبير عن آرائك والاعتراف بمشاعرك وطلب ما تحتاج إليه في علاقاتك.
  3. احرص على إبداء اللطف حينما تعنيه فعلاً: وليس رغبة في كسب الاستحسان. بكلمات أخرى، قبل أن تقدم المساعدة، راجع نواياك، فهل تقديم المساعدة يجلب لك السعادة؟ أم يجعلك تشعر بالاستياء إذا لم يقابل هذا الفعل بالمثل؟
  4. ضع الحدود الصحية: يقول المعالج النفسي، أسامة الجامع، إن من يكون دافع تعامله مع الناس هو الإرضاء المستمر، فإن المطاف سينتهي به بمعاناة وضغط نفسي كبير، فالناس لا تعرف أين تقف بحدودها معك ما لم تخبرهم أنت بذلك، فالعقول والخبرات والأذواق تختلف من شخص لآخر. وليس القصد الأنانية بقدر ما هو أن توضح للآخرين ماذا تريد، وما هي حدودك، وما الذي يمكنك فعله، وما الذي تعتذر عن فعله، لا بد من أن تكون شخصيتك واضحة لكي يعرف الآخرون كيف يتعاملون معك، لا تهتم بغيرك؛ بل نظم نفسك.

لوضع الحدود، كن واضحاً ومباشراً قدر الإمكان دون أن ترفع صوتك، وعبر عما تحتاج إليه أو ما لا ترغب به، وتقبل أي انزعاج أو شعور بالذنب أو ندم قد ينتج عن ذلك. تعلم أن تقول لا حينما لا تريد فعلاً، ولا تتفاوض على حدودك فيما يتعلق بمطالب الآخرين أو آرائهم التي لا تتوافق مع قيمك.

وهنا يرى المعالج النفسي جون كيم، أنك عندما تسعى دائماً لإثبات ذاتك للآخرين، فإن أفعالك تتأثر بتوقعاتهم، ولا تنبع عن حقيقتك. لكن في اللحظة التي تتوقف فيها عن محاولة إبهار الآخرين أو إقناعهم أو نيل قبولهم، فإنك تمنح نفسك مساحة للتصرف وفقاً لرغباتك ومعتقداتك وآرائك الحقيقية. وهذا لا يعني عدم اهتمامك؛ بل يعني أنك تركز على اكتشاف ذاتك والعيش وفقاً لقيمك.

اقرأ أيضاً: احذر المبالغة في إرضاء الآخرين حتى لا تقع ضحية للتلاعب النفسي

3. قيم نصائح الآخرين بدقة

قد تكون نصائح بعض الناس وآراؤهم أدوات فعالة للنمو الشخصي والمهني، في حين قد يكون بعضها الآخر عديم الفائدة أو مضراً حتى. لذا، عليك تقييم النصائح بدقة قبل قبولها أو العمل بها، وأول ما عليك فعله هو التفكير في مدى توافق الملاحظات مع قيمك ومبادئك الأساسية وأهدافك الطويلة المدى.

وكذلك عليك الإمعان في مصداقية المصدر، فهل مقدم النصيحة شخص تثق في معرفته وخبرته ونواياه؟ وهل تطبيق هذه النصيحة يعزز النمو دون المساس بصحتك النفسية أو العاطفية؟ بكلمات أخرى، هل تساعدك هذه النصيحة على التعلم أو حل المشكلات أو الاقتراب من أهدافك؟ وهل اتباعها سيجعلك تشعر بالتوازن والثقة والأمان، وليس بالإرهاق أو القلق أو الاستنزاف؟ إذاً، تقبل ما يفيدك، وتجاهل ما لا يفيدك بأدب، وتجنب الانتقادات غير الضرورية.

اقرأ أيضاً: هل تحتار بين إرضاء الآخرين وإسعاد نفسك؟ إليك الحلول النهائية

4. عزز مرونتك النفسية

المرونة النفسية هي القدرة على التعامل مع التوتر والنكسات والنقد دون فقدان استقرارك العاطفي. لا يعني هذا تجاهل مشاعرك أو كبتها؛ إنما التعامل مع التحديات بطريقة متوازنة وبناءة. وإليك كيفية تطوير هذه المهارة:

  1. تواصل مع أشخاص داعمين: تمنح العلاقات القوية الأمان العاطفي؛ فالأصدقاء أو أفراد العائلة الموثوقون هم بمثابة ملجأ عندما تشعر بأن نصائح الآخرين أو انتقاداتهم مرهقة. كما أن مشاركة الأفكار تخفف العزلة وتقلل ردود الفعل الانفعالية.
  2. ضع أهدافاً يومية هادفة: اجعل لكل يوم معنى بأن تفعل شيئاً يمنحك الشعور بالنجاح؛ لكن ضع أهدافاً واضحة قابلة للتنفيذ، ما سيساعدك على التطلع نحو مستقبل هادف.
  3. اعتن بنفسك بانتظام: فالنوم الكافي، واتباع نظام غذائي متوازن، وممارسة الرياضة، وتمارين اليقظة الذهنية، والتأمل، والتنفس العميق، والهوايات الممتعة، كلها عوامل تعزز الاستقرار العاطفي.
  4. ابق متفائلاً ومنفتحاً على التغيير: يدرك الأشخاص المرنون أن النكسات مؤقتة وأن التغيير ممكن. تمكنك هذه العقلية من التعامل مع الآراء أو النصائح الجديدة بفضول بدلاً من الانفعال والرفض المباشر.
  5. اطلب التوجيه المهني عند الحاجة: يتطلب بناء المرونة وقتاً وممارسة. يستطيع المعالجون النفسيون أو الأطباء النفسيون تقديم استراتيجيات لإدارة التوتر والتعامل مع الانتقادات وتعزيز ضبط الانفعالات.

الخلاصة هنا هي أن المرونة تعد بمثابة درع داخلي؛ فهي تسمح لك بالشعور بمشاعرك بعمق وتقبل النصائح الخارجية، مع الحفاظ على اتزانك وهدوئك وصدقك مع نفسك.

المحتوى محمي