دراسة حديثة: الكذب يدمر تقدير الذات، فما الحلول الفعالة للإقلاع عنه؟

7 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: توصلت دراسة بحثية حديثة نشرتها المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي (the British Journal of Social Psychology) في ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى نتيجة مفادها أن الكذب يؤدي إلى تدمير الثقة بالنفس وزيادة المشاعر السلبية، وإليكم التفاصيل كلها حول هذه الدراسة من خلال هذا المقال.

الكذب سلوك شائع لدى البشر، وذلك على الرغم من كونه من الأفعال المحرمة أخلاقياً في الثقافات الإنسانية كلها، وله القدرة على التأثير سلباً في صورة الفرد وعلاقاته. وقد أفادت دراسة علمية نُشرت في المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي (British Journal of Social Psychology) في ديسمبر/كانون الأول 2023 بأن الكذب يقلل احترام الذات ويزيد حدة المشاعر السلبية. وقد ركز الباحثون في هذه الدراسة على نوعين من الأكاذيب؛ تلك المتمحورة حول الذات والتي تُطلَق لتحقيق مكاسب شخصية، والأكاذيب الموجهة نحو الآخرين بهدف حماية مشاعرهم. ومن خلال الدراسة البحثية، حاولت أستاذة علم النفس الاجتماعي ساني بريوتر (Sanne Preuter) وزملاؤها معرفة تأثير الكذب في احترام الكاذب لذاته وعواطفه. فهل من الممكن أن تكون للكذب تكلفة نفسية، حتى لو لم يُكتشف؟ الإجابة يتضمنها هذا المقال.

لماذا يكذب البشر؟

توضح المعالجة النفسية لورا سغرو (Laura Sgro) إن الكذب سلوك اجتماعي معقد يحدث عادة على نطاق واسع للغاية ويتراوح تأثيره من غير ضار إلى مدمر، والحقيقة أن الكذب له الكثير من الدوافع المحتملة؛ مثل: 

  • حماية النفس: السبب الأكثر شيوعاً للكذب هو حماية النفس من التعرض إلى الأذى، خاصة في حال انتهاك القواعد.
  • التلاعب النفسي: الشخص المسيء يكذب باستمرار من أجل مواصلة التلاعب على ضحاياه، وعادة لا يستطيع الشخص المتلاعب التوقف عن الكذب أبداً لأنه يعرف أن نتيجة ذلك ستكون رحيل الضحايا من حياته. 
  • الخوف: يكذب الأشخاص في بعض الأحيان لأنهم يشعرون بالخوف من الآخرين، وعلى الرغم من أن الكذب في هذه الحالة قد يسبب حالة من الراحة، فإنها راحة على المدى القصير لأن الشعور بالنقص غير مريح إلى درجة أن الكذب يحدث للتستر عليه، وهي دائرة مفرغة لن تنتهي.
  • لفت الانتباه: هناك أشخاص يكذبون فقط لجذب انتباه الآخرين، والمفارقة هي أن معظمهم لا يعرفون ماذا يفعلون بالانتباه عندما يحصلون عليه.
  • التجنب: قد يكذب البعض من أجل تجنب الصراع. على سبيل المثال؛ قد يختار أحد الزوجين عدم قول الحقيقة بشأن ما يشعر به تجاه سلوك الطرف الآخر خوفاً من احتمال نشوء خلاف غير مريح.
  • الرغبة في الشعور بالتفوق: توضح أستاذة الطب النفسي هبة العيسوي إن بعض الأفراد ينخرطون في سلوك الكذب المستمر رغبة في الشعور بالتفوق على الآخرين، ولجعل أنفسهم يبدون دوماً الأفضل من المحيطين كلهم.
  • التحكم: في بعض الأحيان، يعود الأمر كله إلى محاولة السيطرة على سلوكيات شخص آخر، ومن أجل تحقيق هذا الأمر يقوم بعض الأفراد بالكذب.
  • المماطلة: أحياناً يكون لدينا الكثير من المهام التي يجب القيام بها ولكننا نختار تجنبها عمداً؛ هذا يسمى بـ “المماطلة”، وحتى نقوم بتلك المماطلة نلجأ أحياناً إلى الكذب.
  • البحث عن تعاطف الآخرين: على غرار البحث عن الاهتمام؛ يحاول الشخص الحصول على التعاطف من الآخرين عن طريق الكذب بشأن حدث سابق أو حالي.
  •  التأثير: كوسيلة لمحاولة إقناع الآخرين، والتسبب في انطباع أفضل، قد يكذب الشخص بشأن هويته، أو ما يفعله، أو الأماكن التي يذهب إليها.
  • الحفاظ على مشاعر الآخرين: قد نكذب أحياناً رغبة في الحفاظ على مشاعر الآخرين. على سبيل المثال؛ قد لا نخبر صديقاً بما نشعر به حقاً تجاه ملابسه الجديدة حتى لا يشعر بالحزن أو الإحباط.
  •  العادة: يتحول الكذب بعد فترة من الوقت وممارسته على نحو مستمر، إلى عادة يمارسها الأفراد من غير الحاجة إلى دوافع محددة.

اقرأ أيضاً: الكذب وسط كومة حقائق: كيف يفلت النرجسي من تحمل مسؤولية أخطائه؟

كيف يكون شكل الدماغ البشري في أثناء الكذب؟

شرع فريق من الباحثين في جامعة كوليدج لندن (University College London) وجامعة ديوك (Duke University) في اكتشاف ما يحدث في الدماغ بالضبط في أثناء الكذب وذلك من خلال مراقبة نشاط دماغ المشاركين باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI).

لاحظ الباحثون في البداية، قدراً كبيراً من النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالعواطف، وخاصة اللوزة الدماغية، وتشير هذه الملاحظة إلى أن المشاركين شعروا في البداية بالسوء الشديد تجاه الأكاذيب التي رووها؛ ولكن مع مرور الوقت، ومع كذب المشاركين مراراً وتكراراً، أظهرت هذه المناطق من الدماغ نشاطاً أقل فأقل.

وقد توصل الباحثون في النهاية إلى نتيجة مفادها أننا عندما نواجه محفزات مزعجة مثل الضوضاء العالية أو الصور المخيفة، يتمتع الدماغ بالقدرة على التكيف وجعل تلك المحفزات أقل شدة، وفي هذه الحالة، يسهّل التكيف الكذب، وعندما لا يثير الكذب شعورنا بالسوء تجاه أنفسنا، نكون قادرين على زيادة حجم أكاذيبنا،  ويستمر المنحدر الزلق.

وفي هذا السياق، توضح مؤلفة الدراسة تالي شاروت (Tali Sharot) إن هذا المنحدر الزلق يحدث بالأساس بسبب الانفصال بين إشارات الدماغ والجسم المرتبطة بالانخراط في سلوك خادع، ويرجع ذلك إلى انخفاض نشاط اللوزة الدماغية. ووفقاً لشاروت؛ يسبب الكذب إثارة عاطفية وينشط اللوزة الدماغية؛ ولكن مستوى النشاط يتضاءل مع كل كذبة إضافية ما يجعل الكذب أسهل.

دراسة حديثة: الكذب يقلل احترام الذات ويزيد المشاعر السلبية

ركزت دراسة بحثية جديدة نُشرت في المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي في ديسمبر/كانون الأول 2023 على العواقب النفسية للكذب على الشخص الكذّاب، وتتكون هذه الدراسة من 4 تجارب مختلفة هي:

  • التجربة الأولى: قُدمت خلالها 8 سيناريوهات للمشاركين تحاكي معضلات الحياة اليومية، وبعد ذلك كُلفوا بالتذكر والإبلاغ عن كيفية استجابتهم إلى موقف حقيقي مماثل في الحياة. على سبيل المثال؛ كذبوا، أو قالوا الحقيقة، أو لم يسبق لهم أن تعرضوا إلى مثل هذا الموقف من قبل، وقد أفاد المشاركون الذين اختاروا الكذب في بعض المواقف عن انخفاض احترام الذات وزيادة المشاعر السلبية مقارنة بالذين قالوا الحقيقة.
  • التجربة الثانية: شملت 192 مشاركاً طُلب منهم وصف مواقف سابقة كذبوا فيها أو قالوا الحقيقة، إما لتحقيق المنفعة الذاتية وإما لإفادة الآخرين، وقد ركز الباحثون خلال هذه التجربة على قياس العاطفة من خلال سؤال المشاركين عن مدى شعورهم بمشاعر إيجابية أو سلبية فيما يتعلق بوضعهم الموصوف. وعلى غرار التجربة الأولى؛ أبلغ المشاركون الذين تذكروا مواقف الكذب عن انخفاض احترام الذات وعواطف أقل إيجابية مقارنة بأولئك الذين تذكروا قول الحقيقة.
  • التجربة الثالثة: طُلب فيها من 285 مشاركاً تتبع سلوكهم الكاذب مدة يوم واحد والإبلاغ عن احترامهم لذواتهم، وكانت الاختيارات المتاحة أمامهم: “كنت راضياً عن نفسي” أو “لم أكن راضياً عن نفسي”، إلى جانب إجابة سؤال: “ما التأثير الذي لاحظته: الغضب، العار، الفخر، أم السعادة؟”. وتماشياً مع التجارب السابقة، أفاد المشاركون الذين كذبوا في يوم الدراسة عن انخفاض احترام الذات وشعروا بمشاعر سلبية أكثر مقارنة بأولئك الذين لم يكذبوا، بغض النظر عن نوع الكذب.
  • التجربة الرابعة: ضمت هذه التجربة 100 مشارك طُلبت منهم كتابة مذكرات مدة 5 أيام، وفي كل يوم، أبلغوا عن سلوكهم الكاذب واحترامهم لذواتهم وعواطفهم، وقد سمح تصميم هذه التجربة للباحثين بتتبع التغيرات في احترام الذات بالنسبة إلى سلوك الكذب على مدار عدة أيام من خلال رصد عدة جوانب؛ أهمها: هل يقلل الكذب احترام الذات بمرور الوقت؟ وهل يمكن لمستويات احترام الذات في يوم معين أن تتنبأ بسلوك الكذب في الأيام اللاحقة؟ وفي الواقع، شهد المشاركون الذين كذبوا انخفاضاً في احترام الذات، ومع ذلك فإن مستويات احترام الذات لم تتنبأ بسلوك الكذب في اليوم التالي.

إذاً من خلال 4 تجارب بحثية ذات منهجيات مختلفة، وجد الباحثون أن كلاً من الأكاذيب المتمحورة حول الذات والأكاذيب الموجهة نحو الآخرين تقلل احترام الذات وتزيد المشاعر السلبية لدى الكاذب؛ ما يشير إلى أن الكذب له تكلفة نفسية.

اقرأ أيضاً: كيف تكشف كذب الآخر؟ إليك الطريقة من خبراء نفسيين

كيف يمكن أن يضر الكذب بصحتك النفسية؟

يحاول معظمنا أن يعيش حياة صادقة جداً؛ ولكن الحقيقة هي أننا نكذب حتى نجعل حيواتنا أسهل أو من أجل الحفاظ على مشاعر الآخرين، وفي حين أن الأكاذيب قد توفر في بعض الأحيان راحة قصيرة المدى؛ إلا أنها تحمل أيضاً تكلفة نفسية كبيرة للكذاب مثل: 

  • التنافر المعرفي: تؤكد أستاذة علم النفس إليز ماكنيل (Elyse McNeil) إن فعل الكذب يخلق تنافراً معرفياً؛ وهو الانزعاج الذي تشعر به عندما يكون لديك فكرتان متعارضتان أو أكثر، فأدمغتنا تحب الاتساق، وهي مصممة للحفاظ على انسجام مواقفنا ومعتقداتنا وتقليل التنافر بينها؛ لكن هذا التنافر سيظل موجوداً طالما الكذب موجود، ويمكن أن يسبب ضغطاً هائلاً على الأشخاص،  ويسهم في تفاقم الشعور بالقلق والاكتئاب والإجهاد. 
  • تآكل الثقة بالنفس والهوية: كل كذبة تُضعف ثقة الكاذب في نفسه، ومع مرور الوقت يؤدي الكذب المستمر إلى أزمة هوية تتجسد في الخلط بين الذات الحقيقية والذات الخادعة التي يصورها المرء للآخرين، ويمكن أن يؤدي هذا الانقسام إلى تدني احترام الذات، والشعور بالذنب.
  • تدمير العلاقات: الكذب على شخص ما من أجل الحفاظ عليه وتقدير مشاعره يمكن أن يأتي بنتائج عكسية خطِرة، فحين ينكشف هذا الكذب تأتي مرحلة عدم الثقة، ويتعرض الشخص الآخر إلى الأذى؛ وهذا يترك أثراً سلبياً لا يُنسى في العلاقة.

وفي هذا السياق، تناول فيلم “أنت تؤذي مشاعري” (You Hurt My Feelings) هذه الفكرة، فهو يدور حول زوجين ينهار زواجهما عندما تكتشف الزوجة، وهي مؤلفة، أن زوجها كان يكذب عليها لسنوات بشأن حبه لكتابها، وتقول إن ثقتها به تضررت على نحو لا رجعة فيه، وهو ويقول إنه كان يحاول الحفاظ على مشاعرها؛ ولكن في الوقت الذي قد تحمي فيه الأكاذيب مشاعر الآخرين من الأذى فإنها قد تحرمهم من فرص التعلم والنمو.

  • الشعور بالوحدة والعزلة: بدلاً من مقابلة أصدقائك المقربين والشعور بالاسترخاء والاستمتاع بوقتك، ستجد نفسك مُطالباً بالاحتفاظ بقائمة مستمرة من الكذبات التي ألقيتها، والأشخاص الذين كذبت عليهم. ولهذا إذا كنت تواجه صعوبة في تذكر قصصك الكاذبة والحفاظ على الأمور في نصابها الصحيح، فقد تجد نفسك متراجعاً عن التعامل مع الآخرين؛ ما يعني الشعور بالوحدة والعزلة.

4 إرشادات فعالة للتوقف عن الكذب

إذا أصبح الكذب عادة في حياتك، فحاول ألا تكون قاسياً على نفسك واسأل نفسك كيف يمكنك كسر هذا النمط والمضي قدماً حتى تكون أكثر صدقاً، ويمكن أن تساعدك الإرشادات التالية: 

  • افحص محفزاتك: في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تكذب، توقف وانتبه لما يحدث في داخلك، واسأل نفسك: ما شعورك؟ هل تكذب لتشعر بالتحسن أو لتتجنب جعل شخص ما يشعر بالسوء؟ يمكن أن تساعدك إجابة هذه الأسئلة على تحديد السيناريوهات أو المشاعر أو العوامل الأخرى التي تدفعك إلى الكذب، وبمجرد تحديد بعض المحفزات، ألقِ نظرة فاحصة عليها وفكر في بعض الطرائق الجديدة للتعامل معها.
  • فكر في نوع الأكاذيب التي تقولها: الأكاذيب يمكن أن تتخذ أشكالاً عديدة؛ هناك الأكاذيب البيضاء وهناك المبالغات والأكاذيب الرمادية والأكاذيب الكاملة. إن تضييق نطاق نوع الكذب الذي تميل إلى الانخراط فيه يمكن أن يساعدك على فهم الأسباب الكامنة وراء كذبك على نحو أفضل. على سبيل المثال؛ ربما تبالغ في إنجازاتك في العمل لأنك تعتقد أنك أقل نجاحاً من أصدقائك.
  • تدرب على وضع حدودك والالتزام بها: قد تشعر في بعض الأحيان بمزيد من الدافع للكذب إذا كنت تواجه صعوبة في وضع حدود في حياتك الشخصية أو المهنية. قد لا تبدو هذه الأكاذيب مشكلة كبيرة؛ لكنها يمكن أن تؤثر سلباً فيك. بالطبع ليس من السهل دائماً قول لا، خاصة إذا كنت لا تريد إيذاء مشاعر صديق أو مواجهة العواقب المحتملة في العمل. لكن كونك أكثر حزماً بشأن احتياجاتك يمكن أن يساعدك على التحدث عما هو الأفضل بالنسبة إليك.
  • اسأل نفسك: ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟: إذا كنت تكذب لأنك تعتقد أن الحقيقة ستزعج شخصاً ما أو تسبب الأذى، اسأل نفسك ما أسوأ نتيجة إذا قررت قول الحقيقة، ففي الكثير من الأحيان لا يكون الأمر سيئاً كما تعتقد.

المحتوى محمي !!