تعتبر حاسة الشم حاسة صعبةَ الفهم، فعلى الرغم من أننا خُلقنا بالطريقة نفسها إلا أن كلاً منا ينتابه إحساسه الخاص عندما نشم الرائحة نفسها. لنتعرف أكثر عن هذه الكيمياء الغامضة التي تعتمد إلى حد كبير على ذكرياتنا الشمّية.
حاسة الشم: حاسة مشتركة بين الجميع لكنها أيضاً شخصية جداً
تعتبر حاسة الشم إلى جانب اللمس الحاسة الأكثر مباشرَة وحساسية. كما أنها الأكثر حميمية. فكلنا نشمّ عبَق العطر بشكل مختلف. وبقدر ما يسهل علينا وصف زجاجة العطر المكعبة الحمراء، بقدر ما يصعب علينا وصف رائحة زهرة الفريسيا التي تحتويها، بل إن ذلك يظل صعباً حتى باستعمال لغة مجازية.
ومع ذلك فعندما يتعلق الأمر بالروائح، فإننا جميعاً متشابهون على الأقل من الناحية الفسيولوجية. إن مركز هذه الحاسة الغامضة حسب الأكاديمي وعالم الأعصاب جان ديدييه فانسان هو "الغشاء المخاطي الشمي الذي لا يتعدى حجمه اثنين أو ثلاثة سنتيمترات مربعة، ويتألف من حوالي 350 مستقبِلًا، ويقع على الجدران الجانبية والوسطى لسقف تجويف الأنف".
ويوضّح عالم الأعصاب أنه "خلال عملية الاستنشاق، تمر الجزيئات المعطرة الموجودة في الهواء عبر طبقة المخاط التي تبطن السطح الداخلي لتجويف الأنف، ثم تتلامس مع هذه المستقبِلات الشهيرة الموجودة في البطانة الشمية". ويبرز جان ديدييه فانسان كيف "يتم إرسال إشارة من الخلايا العصبية الحسية إلى البصلة الشمية، التي تعالجها وتسمح للدماغ الحوفي، حيث مركز المشاعر، بالتعرف على معلومات "الرائحة" التي يتم التعامل معها بوصفها طيبة أو كريهة". وحتى لو تكررت الرائحة نفسُها فإن دماغنا لا يعالجها بالطريقة نفسِها بسبب ذكرياتنا الشمّية.
المشاعر في قلب الروائح
"العطور هي الرابط الأقوى مع المشاعر"، هذا ما تؤكده إيفيت موريتي التي تصنع في ركن من شقتها الخاصة عطوراً مصمّمة خصيصاً لأولئك الذين يرغبون في تدليل أنفسهم بموسيقى شمية شخصية.
وتشدد هذه الشّغوفة بالعطور على أن "العطر وحده هو القادر على السفر بنا عبر الزمن، لتذكيرنا بأحاسيس شبابنا". ولكن إذا كان العطر مرتبطاً بالمشاعر، فهذا لأنه يبقى عالقاً في الذاكرة. فالعطر هو في المقام الأول ذكرى.
يكشف الكاتب دومينيك باكيه أن "عطراً ما يثير مشاعرنا لأننا سبق لنا أن شممناه بالفعل". فيأخذ مكانه في عالم الروائح التي شكلت ذاكرتنا منذ الولادة. نحتفظ أولاً برائحة أمهاتنا، ثم بمرور السنين، نحتفظ برائحة العشب والكعك والورق والحبر، وهناك 1,000 رائحة تشكل مخزوناً شمياً هائلاً نسترجعه باستمرار.
يكفي إذن أن نشم رائحة ما من جديد لتغمرنا المشاعر المرتبطة بها مرة أخرى. إنها مثلاً لمسة عرق السوس الصغيرة التي ترجع بذاكرتنا إلى عُلب السكاكر التي عرفناها في طفولتنا وتدعونا إلى عفوية الصِّغار. كما يمكن أن تكون هذه الرائحة عبق مِسكٍ يذكرنا بأثرِ حبٍ ضائع ويغرقنا في الحزن.
يكون رد الفعل هذا أحياناً واعياً، وفي الأغلب لا واعياً، ويصعب دائماً تحليله. فنحن لا نربط بالضرورة بين عطر ما وصورة من صور الماضي، مثلما لا نعرف دائماً كيف نعبّر بالكلمات عن المشاعر التي توقظها رائحة معينة.
ولتفسير هذه المسألة يذكرنا جان ديدييه فانسان ببساطة "أن مسارات حاسة الشم ليست مرتبطة بمراكز اللغة". وإذا كان من الصعب التعبير بالكلام عن المشاعر التي تولدها الروائح فإنها تبقى مع ذلك محفزة للذكريات. لكن تصريفها في الحاضر، يساعد أيضاً في تجسيد مشاعرنا، وترجمة أمزِجتنا.