نسمع كثيراً من العلماء في الآونة الأخيرة ينادون بأهمية المحافظة على الصحة النفسية وتعزيزها، وأيضاً أهمية العمل على استدامة التوازن العقلي والنفسي الذي يضمن للإنسان أعلى درجات الصحة العامة وأنسب درجات الصحة العقلية والنفسية. وتأتي هذه النداءات من الأوساط العلمية ذات المصداقية العالية بحيث تجعلنا جميعاً نفكر في إمكانية "تعزيز الصحة النفسية".
أهمية التعامل مع الصحة النفسية ذاتياً
عرّفنا في مقالنا ما الذي يجب أن تعرفه عن الصحة النفسية؟ الصحة والصحة النفسية، وتطرقنا لكيفية تأثر صحة الإنسان النفسية، ووصلنا إلى حقيقة مفادها أن "الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، وليس مجرّد انعدام المرض أو العجز"، وأن الصحة النفسية لا تعني فقط انعدام المرض النفسي؛ وإنما هي حالة السلامة التي تؤدي إلى اتزان في التفكير والعواطف والتعامل مع الاضطرابات النفسية.
وعلمنا أكثر عن الأسباب المتعددة التي تحتّم علينا أن نعرف كيف نتعامل مع صحتنا العقلية والنفسية، وأصبحنا نفهم أن صحتنا النفسية تتأثر أحياناً بحالات من القلق أو التوتر أو الاكتئاب، أو حتى الشعور اللحظي بحالة من الإجهاد النفسي؛ فعلى سبيل المثال، بعض المواقف اليومية -البسيطة- قد تتطلب منّا التعامل معها في الحال، وعدم كتمانها في دواخلنا أو تأخيرها حتى نحصل على مساعدة علاجية من مختص صحة نفسية. وهذه حكاية أخرى، ففي الكثير من الأحيان قد يتعذر توافر معالج نفسي لسببٍ خارجي لا نستطيع التعامل معه بشكل لحظي؛ مثل قلة مزودي الخدمات الصحية في المنطقة المحيطة بنا، ومحدودية الخيارات، أو ارتفاع التكاليف العلاجية. بالإضافة إلى ما سبق؛ يمكن أن يتعذر توافر معالج نفسي لسبب يخص وضعنا الشخصي في ذلك الوقت؛ مثل وقت المواقف التي نمر بها -أي ساعات الليل المتأخرة أو خلال يوم عمل طويل، أو حتى بسبب سوء حالتنا المزاجية أو النفسية، وانعدام رغبتنا في التواصل مع الآخرين.
علينا أن نتدرب على استخدام إحدى الطرق التالية؛ والتي من شأنها مساعدتنا في تعزيز صحتنا النفسية ذاتياً.
1- النوم لتعزيز الصحة النفسية ذاتياً
يُعتبر النوم من أهم عوامل "تعزيز الصحة النفسية"، وفي نفس الوقت من أهم العوامل التي تهدد الصحة النفسية. نستطيع من خلال النوم تعزيز صحتنا النفسية التي يمكن أن تتأثر نتيجة عدم قدرة الدماغ على أداء وظائفه الأساسية، بالإضافة إلى أن النوم مرتبط ارتباطاً مثبتاً علمياً بمستوييّ الصحة والأداء الذين يمكن لنا الحصول عليهما. ويساعد النوم الجسم والدماغ في القيام بوظائف رئيسية مهمة لصحتنا النفسية والجسدية؛ مثل تخزين الذكريات الجديدة، واتزان إفراز الهرمونات، وتقوية شبكة العصبونات الدماغية. ويخبرنا جيفري أليف (Jeffrey Iliff)؛ أستاذ علم الأعصاب في جامعة واشنطن، عن سبب آخر للحصول على نومٍ هانئٍ ليلاً (One more reason to get a good night's sleep)؛ والذي تمحور حول أهمية النوم بالنسبة لصحتنا النفسية والعقلية من خلال مساعدة الدماغ الذي يستهلك ما يقرب من ربع طاقة الجسم في سبيل القيام بكل العمليات المعقدة التي تتطلب تدخله حينما ننام ليلاً مدةً كافيةً، حتى يستطيع استعادة طاقته وحيويته ومرونته.
وارتباط النوم والصحة النفسية والعقلية ليس حديثاً، فقد عكفت العديد من الدراسات على توضيح العلاقة بين عدم النوم ليلاً أو السهر ونشوء اضطرابات نفسية وعقلية؛ مثل الاكتئاب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. ويمكننا القول أن علاقة النوم والصحة النفسية والعقلية تبادلية؛ حيث من الممكن أن يتسبب أحدهما في سوء حالة الآخر، لذا من المهم علينا أن نستخدم النوم لتعزيز الصحة النفسية ذاتياً؛ وذلك من خلال ممارسة بعض التصرفات التي من شأنها تحسين تجربة النوم وجودته. يمكننا البدء بتخفيف تعرضنا للضوء أو الأجهزة الإلكترونية قبل ساعتين أو أكثر من موعد نومنا، والتوقف عن شرب المنبهات في المساء، والحرص على النوم ساعات كافية خلال الليل.
2- الطبيعة الخضراء من أجل تعزيز الصحة النفسية ذاتياً
إحدى الطرق التي يمكننا من خلالها تعزيز صحتنا النفسية هي إحاطة أنفسنا بمناظر طبيعية خضراء. تخبرنا إحدى الدراسات أن المسطحات الخضراء داخل المباني، أو التي يمكن رؤيتها من النوافذ المنزلية، من شأنها زيادة مشاعر تقدير الذات، ومشاعر الرضا عن الحياة، ومشاعر السعادة (الشخصية)، وانخفاض مستويات الاكتئاب والقلق والشعور بالوحدة. وهذا يتلاءم مع ما ذكرناه في مقالنا ما الذي يجب أن تعرفه عن الصحة النفسية؟ من حيث تأثير البيئة الفيزيائية المحيطة على الصحة ككل والصحة النفسية والعقلية بشكل خاص.
من ناحيةٍ أخرى؛ وجد العلماء علاقة إيجابية بين قضاء الأوقات في الطبيعة الخضراء، وتحسن الصحة النفسية والعقلية. وتوصل الباحثون في دراسة تفصيلية أيضاً إلى أن الطبيعة الخضراء ارتبطت إيجاباً بصحة وعافية أفضل حتى من الجانب النفسي. على سبيل المثال؛ أظهر المشاركون الذين قضوا ما يزيد عن ساعتين خلال آخر 7 أيام في طبيعة خضراء، تحسناً ملحوظاً في معدلات الصحة -بناء على ردودهم (Self-Reported Health).
إن العلاقة بين البيئة الفيزيائية المحيطة التي تتسم بكثرة الطبيعة الخضراء فيها والصحة النفسية أو الصحة ككل، مثبتة بالأدلة في كثير من الأبحاث. لذلك من الممكن لنا أن نستخدم الطبيعة الخضراء لتعزيز الصحة النفسية ذاتياً؛ وذلك من خلال الحرص على حصولنا على قدر كافِ من التعرض للطبيعة الخضراء في أثناء زيارة الغابات القريبة منّا، أما إن كنّا في مدن حضرية، فالمقترح أن نعمل مع أصحاب المصلحة في مدننا لأنسنة الأحياء التي نسكن بها من خلال إيجاد مساحات خضراء للمشي أو الرياضات المختلفة أو التأمل اليقظ؛ والتي من شأنها أيضاً إضفاء رونق ونضارة خضراء على نوافذنا المنزلية، وتعزيز صحتنا النفسية.
3- أنماط الحياة التي تدعم عملية تعزيز الصحة النفسية ذاتياً
من المهم أيضاً الحديث عن بعض أنماط الحياة التي تدعم عملية تعزيز الصحة النفسية ذاتياً؛ ومنها الحرص على تناول أطعمة صحية، والحرص على النشاط البدني المتوازن المستمر، والحرص على التخلص من التوتر، والعمل على إيجاد ممارسة منتظمة للتأمل، والعمل على تقوية الروابط الاجتماعية في المنزل والعمل والمجتمع الصغير، والحرص قدر الإمكان على خلق بيئات محيطة خالية من مسببات القلق أو التوتر أو الاكتئاب.
ماذا تعلمنا من تعزيز صحتنا النفسية ذاتياً
لا بد من زيارة المعالجين النفسيين والكشف على صحتنا النفسية في حال احتجنا لذلك. فيما عدا ذلك؛ يصح القول أنه من الممكن تعزيز الصحة النفسية ذاتياً. تختلف الطرق التي تمكّننا من تحقيق الاستدامة الحقيقية لأعلى مستويات الصحة النفسية الممكنة، أو السعي إلى التعامل مع أعراض الخطر التي تهدد الصحة النفسية، أو العمل بشكل جدّي على إعادة ترميم وتوازن الصحة النفسية. تعرفنا معاً على أهمية التعامل مع الصحة النفسية ذاتياً، وكيفية الاستفادة من النوم، والطبيعة الخضراء، و أنماط الحياة التي تدعم عملية تعزيز الصحة النفسية ذاتياً.