"الأحمق يظن أنه حكيم؛ أما الحكيم فيعرف أنه أحمق".
الكاتب المسرحي الكبير، وليام شكسبير (William Shakespeare).
هل قابلت أحداً من قبل يَعُدّ نفسه أذكى من المتوسط؟ إذا فكرت قليلاً ستجد أنك قابلته لا محالة. تخيل أنك جالس على طاولة العشاء مع أقربائك في إحدى المناسبات المهمة، وطوال تناول الطعام، يتحدث أحد أقاربك عن موضوع ما تحدثاً طويلاً لا ينقطع، ويعلن بجرأة أنه على صواب وأن رأي الجميع غير صحيح وخاطئ تماماً، ثم يضيف هذا الشخص إنه توصّل إلى هذا الرأي بفضل ذكائه المتقد ومعرفته الواسعة؛ لكن واقعياً هو لا يملك أي فكرة عما يتحدث عنه، فلماذا يظن معظم الأشخاص أنهم أذكى من المتوسط؟ الحقيقة أن هذا يحدث بسبب تأثير دانينغ كروجر (The Dunning-Kruger effect) الذي سنتعرف إليه في هذا المقال.
محتويات المقال
ما هو تأثير دانينغ كروجر (The Dunning-Kruger effect)؟
يُعد تأثير دانينغ كروجر أحد أنواع التحيز المعرفي؛ حيث يعتقد المصابون به أنهم أكثر ذكاءً وقدرة مما هم عليه بالفعل. والفكرة الرئيسة لهذا التأثير هي: إذا كنت لا تعرف شيئاً ما، فلن تكون لديك القدرة على إدراك أنك لا تعرفه! وفي هذا السياق، يوضح الاستشاري النفسي مصطفى أبو سعد إن الأشخاص أصحاب الذكاء المتدني دائماً لديهم إحساس قوي بجنون العظمة وواثقون من قدراتهم الضعيفة لأبعد مدى.
وقد صيغ هذا المصطلح للمرة الأولى خلال عام 1999، وذلك على يد أساتذة علم النفس بجامعة كورنيل (Cornell University)، ديفيد دانينغ (David Dunning) وجاستن كروجر (Justin Kruger)؛ حيث أجرى الثنائي اختباراً منطقياً مكوناً من 20 سؤالاً ثم طلبوا من المشاركين تقدير عدد الأسئلة التي أجابوها على نحو صحيح، ووجدوا أن الطلاب الذين حققوا أدنى الدرجات قيّموا مهاراتهم ومستويات ذكائهم أعلى بكثير من المتوسط.
اقرأ أيضاً: ما متلازمة المحتال وكيف تتغلب عليها؟
لماذا يعتقد معظم الناس أنهم أذكى من المتوسط؟
في الكثير من الأحيان، يؤدي هذا التحيز المعرفي إلى المبالغة في تقدير مستوى مهاراتك، هذا بالإضافة إلى أنه يخلق فجوات في المعرفة تؤثر في كيفية اتخاذك للقرارات؛ وهذا يشكل بعد ذلك كيفية فهمك للعالم من حولك. والتحيز المعرفي مصطلح يُستخدم لوصف الخطأ المنطقي أو العيوب في الحكم، فقد يتجاهل عقلك أشياء أساسية مثل المنطق والاحتمالات؛ ما يؤثر تأثيراً كبيراً في حياتك اليومية ويجعلك تعتقد أنك أذكى من المتوسط، هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى مثل:
- الاعتماد على الحدس بدلاً من التفكير التحليلي: فالأشخاص الذين يعتمدون أكثر على الحدس قد لا تكون لديهم البيانات التي تُمكّن كلاً منهم من فهم أن حدسه خاطئ، والأشخاص الذين يعتمدون أكثر على البيانات لديهم القدرة على التحليل بما يكفي للتعرف إلى احتمال أن يكونوا مخطئين. ونظراً إلى رغبتهم في اتخاذ القرارات بسرعة؛ يلجأ الأشخاص إلى أنماط التفكير المألوفة بدلاً من معالجة المعلومات الجديدة؛ ما يجعلهم يعتقدون أنهم أذكى من الآخرين.
- عدم القدرة على إدراك نقص المهارات: يشير أستاذ علم النفس ديفيد دانينغ إلى أن العجز في المهارات والخبرة يخلق مشكلة ذات شقين؛ أولاً، تتسبب أوجه القصور هذه في أداء الأشخاص بطريقة سيئة في المجال الذي لا يتمتع فيه بالكفاءة، وثانياً، فإن معرفته الخاطئة والناقصة تجعله غير قادر على التعرف إلى أخطائه.
- صعوبة اتباع استراتيجيات ما وراء المعرفة (Metacognition): يشير مصطلح "ما وراء المعرفة" إلى القدرة على التراجع والنظر إلى سلوك الفرد وقدراته ومهاراته من خارج نفسه. وبالنسبة إلى الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أذكى من المتوسط، فإنهم يواجهون صعوبة في فعل ذلك؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون في كثير من الأحيان تقييم أنفسهم إلا من وجهات نظرهم المحدودة والذاتية للغاية. ومن هذا المنظور المحدود، يبدو أنهم على درجة عالية من الذكاء والمهارة والمعرفة والتفوق على الآخرين.
- القليل من المعرفة يمكن أن يؤدي إلى الثقة المفرطة: في بعض الأحيان، قد يؤدي القليل من المعرفة في موضوع ما إلى اعتقاد معظم الأشخاص خطأً أنهم يعرفون كل ما تُمكن معرفته عنه، والحقيقة أن القليل من المعرفة يُعد خطراً لأنه يرتكز على الافتقار إلى المهارات الأساسية المطلوبة. لذا؛ الأفراد الذين يملكون القليل من المعرفة يصبحون غير قادرين على التعرف إلى الفجوات المعرفية الخاصة بهم.
كيف ينعكس تأثير دانينغ كروجر على السلوك والقرارات؟
نحن جميعاً قد نبالغ في تقدير مهاراتنا ومستويات ذكائنا من وقت إلى آخر؛ ولكن لا يزال لدى معظمنا فهم واقعي لما نحن قادرون على فعله. ولكن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أذكى من المتوسط لا يدركون ذلك الأمر أبداً، وبهذه الطرائق ينعكس تأثير دانينغ كروجر على السلوك والقرارات:
- سوء اتخاذ القرار: سواء كان الأمر يتعلق بممارسة مهنة لا تتناسب مع قدراتك أو التطوع في مشروع لا يمكنك تحقيقه على نحو واقعي، فإن هذا العبء المزدوج يمكن أن يؤدي إلى بعض القرارات السيئة.
- عدم الثقة بين أعضاء فريق العمل: إذا أصبحت ثقتك المفرطة في مستوى ذكائك نمطاً معتاداً، فقد يشك زملاؤك في العمل بقدرتك على الأداء؛ حيث إن الميل إلى المبالغة في الوعود وعدم الوفاء بها يؤدي إلى تآكل ثقة زملائك في الفريق.
- ارتفاع مستوى المخاطر: خاصة بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعملون في مهن خطِرة، فإن المبالغة في تقدير مهاراتهم ومستويات ذكائهم يمكن أن تشكل خطراً على أنفسهم وعلى الآخرين.
اقرأ أيضاً: لماذا قد نخاف من حكم الآخرين علينا وكيف نتغلب على ذلك؟
4 نصائح للتعامل مع تأثير دانينغ كروجر
تأثير دانينغ كروجر هو تحيز معرفي غير واعٍ؛ وهذا يصعّب التغلب عليه؛ ولكن يمكن أن يبدأ الأمر بالتدريب الواعي لتحسين التفكير الذاتي والحد من التحيزات. وهذه أهم النصائح للتعامل مع هذا التأثير:
- استمر في التعلم: بدلاً من افتراض أنك تعرف كل ما تُمكن معرفته عن موضوع ما، استمر في البحث على نحو أعمق، وبمجرد اكتساب معرفة أكبر في موضوع ما، من المحتمل أن تدرك المقدار الذي يتعين عليك تعلمه. ومع مرور الوقت، يمكن لهذا التطور أن يجعلك تقاوم الميل إلى افتراض أنك خبير وأذكى من الآخرين.
- فكر قبل القفز إلى أي استنتاجات: خذ دائماً وقتاً للتفكير في قدراتك قبل القفز إلى الاستنتاجات، وبهذه الطريقة، يمكنك منع نفسك من المبالغة في تقدير كفاءتك ومستوى ذكائك.
- تقبّل النقد البناء: تتضمن الاستراتيجية الفعالة الأخرى مطالبة الآخرين بالنقد البناء، وعلى الرغم من أنه قد يَصعُب سماع النقد في بعض الأحيان، فإنه يمكن أن يوفر رؤىً قيّمة حول كيفية إدراك الآخرين لقدراتك ومستوى ذكائك.
- شكّك في مستوى ذكائك وقدراتك من وقت إلى آخر: لتجنب الوقوع فريسة لتأثير دانينغ كروجر، يمكن أن تُشكّك بصدق في قاعدة معارفك ومستوى ذكائك والاستنتاجات التي تتوصل إليها، بدلاً من قبولها بطريقة عمياء.