أحياناً قد لا يوجد خيار آخر سوى المواجهة، فعندما يقتلنا الصمت أو يصبح الحوار الهادئ مستحيلاً أو عقيماً، لأن الآخر لا يفسح المجال أو تبدو كلماته غير كافية بالنسبة لنا لوضع الحدود، يجب أن نتجرأ على تأكيد معارضتنا بكل حزم.
هذه هي الطريقة التي نقول بها "لا" لطفل أو صديق لم يعد يحترمنا، أو نبني من خلالها علاقة واعية مع الزوج. ومع ذلك، فإن المواجهة مخيفة لأننا نجازف بالتخلي عن الحب أو نهايته، وتدمير الرابطة التي تجمعنا بالآخر. هذا ما يجعلنا نبني علاقة تحفظ للآخر مكانته دون الاكتراث لأن نكون حقيقيين أو صادقين تماماً.
بالنسبة للمختصة في علم النفس دومينيك بيكار: "يسمح لك الدخول في نزاع ما بإيجاد علاقة حقيقية". كما تؤكد أنه يجب ألا نخافَ معارضة أنفسنا فهي طريقة لرسم الحدود للآخر وفهم حدودنا.
لماذا نخافُ المواجهة؟
لأننا بشكل لا إرادي نربط بين الصراع والعنف والنزاع والانفصال، ونحدّ من رؤيتنا للحياة من منظورَين فقط؛ إما أنها تسير على ما يرام أو بشكل سيئ. ودائماً ما يعني الخلاف أن الأمور تسير بشكل سيئ إذ إن المواجهة ترمز إلى فشل العلاقة؛ ولكن ليس الأمرُ بهذه البساطة!
من أين تأتي هذه المخاوف؟
في الحقيقة هذه المخاوف قديمة. التجرؤ على مواجهة شخص ما، سواء كانت العلاقة عائلية أو رومانسية أو مهنية، يعني المخاطرة بالانفصال حتماً، وهذا يعيدنا إلى شعورنا بانعدام الأمن عندما كنا أطفالاً. يعرّض الانفصال الأطفال للخطر لما ينجرّ عنه من قلق، ناهيك بالخوف من الهجران والشعور بالدونية وخطر الموت، حتى ولو كان طفيفاً.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فقد غرست فينا نشأتنا فكرة أن المعارضة سيئة وأن التعايش مع الآخر لا يقوم إلا على التسامح والتفاوض. هذه المُثل ضرورية لكن لكل مبدأ مكانته، لا سيما عند المواجهة. ما من علاقة لا تمر بلحظات من التوتر؛ إنه أمر ضروري وحتمي!
أَتقصد أن الهروب من الصراع له عواقب في نهاية المطاف؟ وما هي إذاً؟!
لا تتعايش الذات البشرية مع العلاقات المبنية على الزيف والكذب والخداع. قد نخدع بعضنا بعضاً اليوم؛ لكن إذا حافظنا على تلك العلاقات المشوّهة سنتأثّر فيها لا محالة. إذا كنت تعيش علاقة رومانسية فلن تتمكن من رسم حدود بينك وبين الآخر، وذلك سعياً منك للحفاظ على هذا القسم الأصيل من علاقتكما وبالتالي المحافظة على ذاتك.
ينبغي على المرء أن يجازف بالمواجهة مهما كلّف الأمر، وعلى الرغم من أنها قد تسفر عن الانفصال فذلك لا يعني أن الآخر كان يود المحافظة عليك بالضرورة.
أياً كانت الحقيقة، هل سيكون من الجيد البوح بها؟
في الواقع أنا أؤمن بذلك بعمق طالما كان الآخر سيتحدث معك بصدق وأمانة فيما يتعلق بالمسائل المهمة، مع العلم أن الدخول في نزاع لا يعني بالضرورة إيذاء الآخر. علاوة على ذلك، فإن رغبة الأخر في التحدث إليك بصراحة أفضل من الهروب حتماً.
من ناحية أخرى، فإن قبول المواجهة والنزاع طريقة يعبر بها المرء عن معاناته، وربما يكتشف معاناة الطرف الآخر أيضاً. من المفارقات أن هدف المواجهة هو أولاً وقبل كل شيء فهم بعضنا بعضاً. في المقابل يمكننا أن نصل إلى مواقفَ صعبة مثل رفض الزوجة ممارسة العلاقة الحميمة مع زوجها لأي سبب من الأسباب؛ إلا أن المواجهة والاعتراف بذلك صراحةً بالغ الأهمية لنجاح العلاقة الزوجية.
هل المواجهة طريقة لوضع الحدود دون المساس بسلامة العلاقة؟
طبعا؛ كما أنها طريقة لفهم حدودك أيضاً. على سبيل المثال: قد تبدو مراحل الزواج الأولى مثالية ثم سرعان ما تبرز الكثير من العراقيل التي تدفعنا للشعور بأن الآخر يخنقنا وأننا بحاجة إلى أن نكون بمفردنا أحياناً.
حقيقةً الاعتراف بذلك مخاطرة برفض الآخر واعتراف بخيبة الأمل؛ إلا أنه يؤكد خصوصية كل منكما "أنتما غير متشابهَين" وينزع فتيل الأزمة.
وماذا عن الأطفال؟
الصراع جزء من تطور العلاقة بين الوالدين والطفل، فإنكاره أو التغاضي عنه لا يعود عليهم بالمعروف. الخلافات بين الآباء والأطفال طريقة صحية لإدارة التوتر والسماح للطفل بالخروج من الانهيار والنمو. ينبغي أن يتقبّل الطفل اختلافه عن والديه حتى يتطور.
ما الخطر الحقيقي الذي ينجرّ عن المواجهة؟
أن يصبح الصراع مَرَضياًّ، فتنقلب موازين القوى لتدمّر أي رابط حقيقي في العلاقة. وقد يميل معظمنا إلى تفضيل الاستقرار على أرضية مألوفة، حتى ولو كانت سيئة، عنه في أرضية مجهولة تماماً. وماذا لو حدث الانفصال فعلاً؟ ماذا في ذلك؟ هذا ليس فشلاً وإنما مجرد نهاية قصة!
وما الفائدة الحقيقية التي سنجنيها من المواجهة؟
البحث عن ذات وعلاقة حقيقية وصادقة. نشقّ السُّبُل بحثاً عن الامتنان ونظرة من الآخر نحسّن من خلالها هويتنا؛ لكن سرعان ما تصبح الصورة ضبابية عندما تبدأ النزاعات، فتكون المواجهة سبيلَ العثور على هويتك. على سبيل المثال: إن إنكار شركة "فرانس تيليكوم" (France Télécom) هوية موظفيها هو سبب اندلاع الأزمة فيها.
كيف تجد هذه القوة؟!
ينبغي أن ندرك أن الدخول في علاقة لا يعني الانصهار في الآخر. قد يكون أي إزعاج بسيط سبباً للصراع، وإذا لم نجد القوة للمواجهة فهناك أشخاص مهمتهم مساعدتنا مثل المعالجين النفسيين؛ إلا أن الأمر متروك لنا لحل المشكلة والخروج من الشعور بالذنب وأيديولوجية التضحية التي تجعلنا ننكر ذواتنا. إن التعايش مع عدم الرضا أمر سقيم لكنه ضروري!
شهادة مالك وهو فنّيّ كهرباء: "أفضّل عدم خيانة قناعاتي!"
يوضح فنّيّ الكهرباء مالك ذو الـ51 عاماً: "أنا أعبّر بسهولة عن عدم موافقتي لرئيسي في العمل بكل سلاسة وبنبرة فكاهية، وإذا لم يكن ذلك كافياً أعارض بوضوح؛ إلا أن ذلك لا يحدث أبداً عندما أكون غاضباً لأن كلماتي مدروسة".
ويضرب مثالاً على ذلك: "كان عليّ العمل في موقع محفوف بالمخاطر وطُلب مني التوقيع على ورقة أشهد فيها أنني واعٍ بالخطر. لقد رفضت هذا الإجراء وأوضحت لرئيسي أهمية تدريبنا على هذا النوع من العمل؛ لكنني قمت بهذه المهمة على أي حال. استدعاني مديري يومَ الثلاثاء التالي منوّهاً بعرقلتي لسير العمل. في الحقيقة اعتقدت أنه سيتم فصلي لكنني سرعان ما شرحت له أهمية التدريب على إجراءات الأمن السلامة، وأجبت بنفس الحجج عن رسالة التحذير التي تلقيتها بعد يومين!".
ويتابع: "وبعد هذه المواجهة تم تدريبنا أخيراً. قد نلتزم الصمت خوفاً من النتائج؛ أما أنا فلا أخاف العواقب لأنني متأكد من قدرتي على النهوض والاستمرار مهما حصل. لقد ورثت عن والدي الجرأة والقدرة على المواجهة لكن لم تنتهِ النزاعات في صالحي دائماً، فأحياناً يسبِّب لي أسلوبي المتمرد الضرر. مثلاً بعد قضاء 33 عاماً من عمري في نفس الشركة لم أتطور أبداً ولكنني كنت أفضّل عدم خيانة قناعاتي، وبمرور الوقت هدأت وتركت الأمور تسير على حالها طالما لم ألحظ ظلماً أو سبباً يدعو للمواجهة. العمر يمر، وقد علّمتني وفاة زوجتي أن أنظر إلى الأمور بطريقة نسبية!".
اقرأ أيضاً: هل تخوّلنا الصداقة بأن نبوح بالحقيقة؟