يعود له الفضل في تعميم مصطلح "المرونة والأمل" الذي يعني قدرة المرء على التعافي من أسوأ المحن. نقدّم لكم في السطور التالية نظرةً على حياة مختص الطب النفسي العصبي الكبير بوريس سيرولنيك وأعماله.
يُعتبر بوريس سيرولنيك الأب الروحي لمفهوم "المرونة النفسية" وهو المفهوم الذي انتشر انتشاراً واسعاً اليوم إلى درجة أننا أصبحنا نتحدث حتى عن "مرونة الأحزاب السياسية". ورغم ذلك فإن نَسب هذا المفهوم إليه يزعجه أشد الإزعاج، فقد حرص في كتاباته على أن يوضح وبصورة متكررة أنه لم "يخترع" أبداً مفهوم المرونة (1). لكن من جهة أخرى فلا شك في أن الفضل يعود إليه في تعميم هذا المفهوم وتعليمه؛ إذ تطرقت مؤلفاته إلى فكرة قدرة المرء على استئناف مساره في الحياة بعد تعرضه لحدث صادم. والسؤال هنا: لمَ انصبَّ اهتمام الطبيب النفسي على هذا المفهوم إلى درجة جعلته محور أعماله طيلة حياته؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بكل تأكيد بمرحلة طفولته.
بدأت قصتي عندما كنت في السادسة
كتب بوريس سيرولنيك (2): "عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أدرك أنني لطالما أردتُ أن أصبح طبيباً نفسياً. نشأت هذه الرغبة لدي منذ كنت في الحادية عشرة من عمري وذلك لأتمكن من فهم نفس الإنسان، لأتمكن في الدرجة الأولى من دون أدنى شك من فهم نفس ذلك الطفل الذي عانى ما يفوق القدرة على التحمل منذ كان في السادسة من عمره، وأن أفهم من جهة أخرى أولئك الذين أرادوا قتله بعد أن قتلوا والديه وأرادوا له أن يختفي من الحياة وكل ذنبه هو أنه كان طفلاً يهودياً آنذاك.
استند بوريس سيرولنيك في مؤلفاته في الطب النفسي العصبي؛ والتي كانت سبب شهرته، إلى مأساة طفولته المحطمة هذه ليستكشف هذا اللغز النفسي؛ ما سمح له وللكثيرين ممن عانوا من المآسي باستئناف حياتهم مجدداً. لقد ضمّن بوريس سيرولنيك مأساته في كل أعماله وكان هذا الشرخ في حياته أساس وجوده وتفكيره، فما هي تفاصيله؟
وقعت المأساة الأولى عندما اعتقل الألمان والدة بوريس سيرولنيك عام 1942، بعد أن عهدت برعاية ابنها البالغ من العمر عامين إلى خدمة المساعدة العامة لتختفي في إحدى القوافل التي قادت اليهود الفرنسيين إلى معسكر أوشفيتز، وكان والده في الجيش عندما اعتُقل واحتُجز في فرنسا قبل ترحيله إلى المعسكر ذاته أيضاً. ويوضح الطبيب النفسي أنه ليس لديه أي ذكرى عن هذه الحسرة الأولى في حياته ويقول: "لم يُمثل موت والديّ حدثاً بالنسبة لي، فلم يكن لموتهما أثر في نفسي، إنما ما كان له أثر هو اختفاؤهما من حياتي وليست المسألة مسألة معاناة، فنحن لا نعاني في الصحراء إنما نموت وهذا كل شيء (3). بعد هذه التجربة المؤلمة اللاواعية يخوض بوريس سيرولنيك تجربةً واعيةً تماماً هذه المرة، ففي سن السادسة وبينما كان تحت رعاية معلمته مارغو فارج، دخل الجنود الألمان عليهما في منتصف الليل. ويقول عما جرى في تلك الليلة: "أوقفني رجال مسلحون أحاطوا بسريري كانوا قد جاؤوا لأخذي وقتلي، وفي تلك الليلة وُلدت قصتي". وجد الصبي الصغير نفسه في كنيس بوردو وسط البالغين والأطفال الآخرين الذين اعتُقلوا ليتم ترحيلهم، وما أثار خوفه هو سماعه لأحد الجنود يقول لآخر: "لقد تلقينا أمراً بوضع الأطفال في العربات تمهيداً لنقلهم للعمل في مناجم الملح". ورغم أن بوريس الصغير لم يكن يعرف كلمة "مغلق" فإنه فهم بوضوح الرعب الكامن خلفها. قرر الهرب ونجح؛ حيث تأرجح على طول جدار المرحاض ثم قفز في سيارة إسعاف واختبأ تحت جثة امرأة تحتضر بناءً على نصيحة "ممرضة جميلة".
أمي رسّخت تعلقاً آمناً لدي
يروي الطبيب النفسي هذا المشهد الذي خلق قصته ويحلله بطريقة رائعة في كتابه (5). لقد كان هذا الموقف أول علامة على تمتعه بالمرونة النفسية وكانت رغبته الشديدة في أن يحيا هي القوة التي دفعته للتشبث بأقل الآمال الممكنة، ورغم ذلك فقد كان أصغر من أن يتمكن من استعادة توازنه بعد تعرضه لهذه الصدمة.
يوضح بوريس سيرولنيك أن الإنسان الذي تعرض لصدمة خطيرة يحتاج إلى عنصرين أساسيين ليستأنف حياته مجدداً وهما: قوته الحيوية وما يسميه "مرشد المرونة"؛ وهي نقطة ارتباط يمكن للمرء الاعتماد عليها ليعود إلى حياته تماماً كطريقة نمو النباتات.
ومع ذلك فإن هذه القوة الحيوية لن تتوفر ما لم يترعرع الطفل في بيئة آمنة؛ أي أن ينشأ محاطاً باهتمام وعاطفة المسؤولين عن تربيته. ويقول الطبيب أن "ذراعيّ" والدته كانتا المصدر الرئيسي لهذا الاهتمام إضافةً إلى ما قدمه له كل المحيطين به. يُصاب الطفل الرضيع الذي لم يُؤَمَّن تأميناً صحيحاً في الأشهر الأولى من عمره باضطرابات التعلق والسلوك، وفي حالة التعرض لصدمة خطيرة سيكون الانطلاق مرةً أخرى واتخاذ مرشد مرونة لنفسه أمراً أكثر صعوبةً. يقول بوريس سيرولنيك: "خلال السنوات الأولى من حياتي كانت والدتي قد رسّخت لدي التعلق الآمن وساعدني هذا الأسلوب العلائقي الذي يشجع على الاقتراب من الآخرين على قبول مساعدتهم لي". إنها تلك الثقة الداخلية بأنك تستحق الحب والاهتمام، ومن ثم فأنت تستحق أن تعيش.
أصبحتُ بطل القصة التي كنت أرويها لنفسي
بالإضافة إلى ما ذُكر ثمة عامل آخر عند الحديث عن تجاوز الصدمات، فمن خلال تذكُّر ماضيه والاستماع إلى مرضاه ومرافقة الأطفال في المؤسسات يُدرك الطبيب النفسي أهمية الذكريات؛ ولكن قبل كل شيء القصة التي أنشأها كل شخص عن الحدث الذي تعرض له. وهكذا أدرك بوريس سيرولنيك قبل عدة سنوات أن الذكرى التي يحملها حول إخفائه عن أعين الألمان تحت جثة امرأة محتضرة ما هي إلا ذكرى لقصة، ليست بكاملها وإنما بمعظمها، غير حقيقية. ولكن ماذا كان الهدف منها؟ لقد كان الهدف من هذه القصة هو تجاوز فظاعة ما تعرض له عبر إعادة صياغة الذكرى المؤلمة بما يكفي لتكون محتملة. "لم أعد عنصراً خاضعاً للقدر بل أصبحت موضوع القصة التي كنت أحكيها لنفسي وربما حتى بطلها" (6). ونحن غالباً ما نتجاهل دور هذه القدرة التعبيرية في بناء المرونة النفسية، إنها ضرورية جداً، إن العاملَين الوقائيين الأكثر قيمة في التعافي من الصدمات هما التعلق الآمن والقدرة على التعبير". وهكذا سمح بوريس الصغير لـ سيرولنيك الكبير بتحقيق حلمه وهو أن يتزوج من جين تماماً كما فعل طرزان في قصته التي قرأها في طفولته، ليصبح طبيباً نفسياً ويعيش في منزل يمكنه رؤية البحر من خلاله، ويالها من عودة!
(1) عزز بوريس سيرولنيك بصورة مستمرة عمل ميريام ديفيد (1917-2004)؛ وهي متخصصة في طب نفس الأطفال والتحليل النفسي رُحِّلت إلى معسكر أوشفيتز واعتنت بعد الحرب بالعديد من الأطفال الذين تعرضوا للمعاناة.
من (2) إلى (6) مقتطفات من كتاب "أنقذ نفسك، الحياة تدعوك" (Sauve-toi, la vie t’appelle).