ملخص: تتيح لنا أنشطة المشي أو البستنة أو السفر الفرصة للاندماج مع الطبيعة وزيارة عوالم كاملة، والاستمتاع بلحظات بعيداً عن الحياة اليومية والشعور بالسكينة؛ وتوسع رؤيتنا لما حولنا. نتعرف إلى تفاصيل أكثر حول تجارب شائقة في الطبيعة والصحاري، من خلال المقال التالي.
محتويات المقال
"المشي في الطبيعة عرَّفني إلى سحر الوجود مرة أخرى"
عالم الاجتماع والكاتب دافيد لو بريتون (David Le Breton)؛ وهو مؤلف كتاب "المشي وحب الدروب والتمهل" (Marcher, éloge des chemins et de la lenteur).
لا يتطلب المشي أكثر من مواردك الجسدية الأساسية، فأنت لست بحاجة إلى أي تكنولوجيا؛ كل ما عليك فعله هو أن تمشي مشيتك المعتادة دون استعجال. حينما أمشي يتباطأ الزمن وفقاً لسرعتي ورغبتي، أعبر الدروب وأستكشف الغابات أو الجبال، وأتسلق التلال لأستمتع بنزولها، وحينما أصل إلى ارتفاع متر ونصف أو مترين، أسلم نفسي لقواي الجسدية لتتحكم وحدها في حركتي دون تفكير؛ ما يمنحني إحساساً متدفقاً بذاتي والعالم من حولي.
أعاد المشي إليّ الشعور بجمال الوجود، لأنني حينما أمشي لا أتواصل مع ما حولي بالنظر فقط؛ بل أشم وأسمع وألمس أيضاً، فإذا واجهتُ نهراً أو نبعاً فجأة في أثناء المسير تمتد يداي لا إرادياً لتتحس عذوبة مائه، وأتحسس طبقة طحالب الغابة الرقيقة التي تغطيها الظلال وأشم رائحة الأرض أو الأشجار وكأنني أتحسس "نسيج" النهار في حد ذاته، وأسمع زقزقة العصافير، وصوت الرياح أو صرخات الأطفال في القرى، وصرير زيز الحصاد وقرقعة أكواز الصنوبر تحت أشعة الشمس، وبحسب الفصل من السنة، فإنني أجمع الفراولة البرية والبندق والفطر. المشي في الطبيعة تجربة حسية كاملة تشترك فيها الحواس كلها، وهي أكثر من مجرد رؤية المناظر الطبيعية، فأنا أشعر أنني زرتُ عوالم أخرى.
اقرأ أيضاً: الانسجام بين الروح والعقل مفتاح السعادة والثقة بالنفس
"أعمال البستنة علَّمتني التمهل"
الكاتبة بيليندا كانون (Belinda Cannone)؛ مؤلفة كتاب "فاعل خير" (Don du passeur).
لطالما كنتُ امرأة تتسم بالاستعجال، وقبل أن أسكن في منزلي الكائن بين الحقول لم أكن لأتخيل أن أشغف بالنباتات. حدث الأمر كله حينما قررتُ أن أزرع شجريتين من نبتة القرطاسية (Hydrangeas) أمام المنزل، لأجد نفسي بعدها وقد وقعت في حب البستنة، وعلى هذا النحو تعلمتُ معنى التمهل والهدوء الذي يفرضه الاستغراق في هذه المتعة.
أدخل إلى حديقتي وأنسى الوقت ثم أشعر فجأة وكأنني استفقتُ من حلم جميل، فلا أعي كم مضى عليّ وأنا أزرع النباتات وأعتني بها، ربما ساعتين أو حتى ثلاث! يمضي الوقت دون أن أشعر به وأنسى خلال ذلك هموم الحياة كلها، لأنني أبحث أولاً عن أزهار البنفسج وأطيل تأملها بشغف، ثم أتفحص شجيرات الفاوانيا لأرى إذا كانت سيقانها قد بدأت تنمو وتحمر وتكتسب ثخانةً، ثم ألتفتُ إلى شقائق النعمان اليابانية التي تبدو أنها تنمو بسهولة.
بعد ذلك، عليّ أن أسحب النباتات الذابلة بصبر بالغ، وأختار مواقع زراعة الأزهار السنوية، وأن أحفر الحفر، وعلى الرغم من اتساع تأثير الأعشاب الضارة بعد النمو الربيعي فإنني أتحلى بالصبر والتأني اللازمَين لأنجز العمل بالكامل. بعد أن صرتُ بستانية تغيرت أحوالي كلها، فتعلمتُ كيف أنسجم مع تدفق الوقت الذي أمضيه مع الطبيعة؛ والذي ينسيني نفسي وقلقي ورغباتي، لأن العمل في الحديقة مثل سماع الموسيقا؛ يمثل فرصة لنتخلى عن أنفسنا مؤقتاً وننسجم مع هذا العالم الواسع.
"لا أشعر بالسلام الداخلي إلا حينما أجوب الصحاري"
الفيلسوف والكاتب جوزيف شوفانيك (Josef Schovanec)؛ وهو مؤلف كتاب "فوائد السفر للأشخاص المصابين بالتوحد والتوحد الخفيف" (Eloge du voyage à l’usage des autistes et de ceux qui ne le sont pas assez).
ما الذي يمكنك فعله حينما ينظر إليك الآخرون كشخص غريب الأطوار لا يمكن علاجه، على الرغم من الجهود التي بذلتها والمعارف التي اكتسبتها؟ اخرج في نزهة على الأقدام! ومن المفارقات أن هذا ما قادني لأن أصبح مسافراً متوحداً يستكشف ما أود أن أسميه الفراغ، الصحاري، أو صحراء آسيا الكبرى فهناك فقط أشعر بالسلام الداخلي.
ما المشكلة إذا كان صوتي غريباً، طالما أن صخور صحراء بلوشستان تعيد صداه؟ ما أهمية عدم استقرار وضعك الاجتماعي حينما تقضي لياليك في الصحراء تحت خيمة سوداء؟ يقول رحالة الصحاري تيودور مونو (Théodore Monod): "نحن مهوسون بممتلكاتنا"، وبعيداً عن صورة الطبيعة الغنّاء وأوهام التملُّك والتجذُّر في الأرض، فإنه لا منظرَ طبيعياً أكثرُ عدائية من الصحراء؛ إذ إنها لا تعدنا بتقديم أيٍّ مما يمكننا الاستعانة به للبقاء على قيد الحياة.
ولكن على العكس من ذلك، يرى مونو أن هذه البيئة التي تدفعنا إلى التفكير في فطرتنا العميقة مجدداً هي معلّم مخلِص يعرّفنا شيئاً فشيئاً إلى إنسانيتنا. بالنسبة إليّ، ربما كان الإقصاء الذي تعرضتُ له بسبب ظلم المعايير الاجتماعية نعمة؛ إذ أُجبرت على أن أصبح عالم أنثروبولوجيا في مجتمع لا يتقبل المصابين بالتوحد، وبعد العديد من الرحلات والمغامرات، تركت الأدوية التي كنتُ أتناولها وهربت من الوعود الكاذبة بالحياة الطبيعية، وأحلم في بعض الأمسيات أن أصبح مرشداً سياحياً، لأساعد أولئك العابرين قليلي الصبر الذين يهملون ذواتهم، على رؤية الحياة من جانب مختلف.