ملخص: أجرت إحدى المجلات الطبية دراسة بحثية توصلت من خلالها إلى أن إجراء الأطباء للعمليات الجراحية الطارئة في أعياد ميلادهم قد يؤدي إلى وفاة المرضى بسبب تشتُّت انتباههم، فما تأثيرات عدم الفصل بين الحياة المهنية والخاصة؟ وكيف يمكنك تحقيق التوازن بين حياتك العملية والشخصية؟
محتويات المقال
إذاً، أين نرسم الخط الفاصل بين الحياة المهنية والخاصة؟ وهل ثمة وجود لهذا الخط من الأساس؟ وما التأثيرات النفسية المحتمَلة لعدم الفصل بين الحياة المهنية والخاصة؟ إليكم الإجابة عن هذه التساؤلات كافةً من خلال هذا المقال.
نصيحة: لا تخضع لعملية جراحية في يوم عيد ميلاد الطبيب!
يشير مختص علم النفس التنظيمي والكاتب الأميركي الشهير آدم غرانت (Adam Grant)، إلى أن هناك احتمالية كبرى أن يفارق المرضى الحياة إذا أجروا عملياتهم الجراحية في الأيام التي توافق أعياد ميلاد الجراحين!
وقد توصل غرانت إلى هذه النتيجة بناء على دراسة بحثية نشرتها مجلة ذا بي إم جاي (The BMJ) الطبية؛ حيث حللت بيانات البقاء على قيد الحياة من قُرابة مليون عملية طارئة أجراها أكثر من 47,000 جراح في الولايات المتحدة بين عامَيّ 2011 و2014، وكان المرضى جميعهم بعمر 65 عاماً على الأقل، وخضعوا لواحدة من 17 عملية طارئة شائعة؛ مثل جراحة الشريان التاجي أو استئصال المرارة.
ووجدت الدراسة أن عدداً أكبر من المرضى مات في غضون شهر من الجراحة عندما أُجريت العملية في عيد ميلاد الجراح بنسبة (6.9%) مقارنة بأيام أخرى من العام (5.6%)، ويُعد هذا الاختلاف ذا دلالة إحصائية. وقد أوضح الباحثون المسؤولون عن الدراسة أن تشتيت انتباه الجراحين يمكن أن يكون أحد أسباب حدوث الوفاة؛ ربما لأنهم كانوا أقل تركيزاً نتيجة رغبتهم في العودة إلى المنزل سريعاً من أجل الاحتفال بأعياد ميلادهم.
وربما أيضاً أثرت محادثات عيد الميلاد مع أعضاء الفريق أو رسائل أعياد الميلاد على هواتفهم في أثناء الجراحة في تركيزهم؛ ما أدى إلى حدوث أخطاء طبية. وهناك احتمالية أخرى هي أنه من غير المرجح أن يعود الجراحون إلى المستشفى لرؤية مرضاهم الذين تظهر عليهم علامات التدهور، إذا كانوا يتناولون العشاء مع العائلة والأصدقاء في أثناء الاحتفال بعيد الميلاد.
لماذا قد يصعب الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية؟
يؤدي الأشخاص أدواراً مختلفة في حيواتهم، فقد تكون أحد الوالدين وصديقاً وعضواً في نادٍ رياضي وموظفاً في إحدى الشركات أيضاً، ومن الطبيعي أن تؤدي مطالب العمل المتغيرة إلى تغيرات حتمية في أدوار الحياة الشخصية.
ومع ذلك، يسعى الأفراد إلى تخصيص حصص متساوية من الوقت والطاقة للأدوار جميعها، وفي الوقت نفسه، يرغبون في الشعور بالرضا عن أدائهم في مختلف مجالات الحياة، ويشعرون بأنه يجب أن يعملوا على النحو الأمثل في هذه المجالات مع عدم تعارض أدائهم ووظائفهم، وهو ما قد يكون صعباً من الناحية الواقعية، وبخاصة في ظل التطورات التكنولوجية التي لم تؤدِّ فقط إلى زيادة أعباء العمل؛ لكنها أسهمت أيضاً في نقل ذلك العبء إلى الحياة الخاصة عبر الأجهزة الذكية التي تخبرنا بكل ما يحدث في العمل على مدار الساعة عبر إشعارات البريد الإلكتروني التي لا تتوقف عن الرنين في البيت.
في هذا السياق، تعود بنا أستاذة الإدارة في "مدرسة إي إس إس إي سي للأعمال" (ESSEC Business School) في باريس، آيونا لوبو (Ioana Lupu) إلى أوائل القرن العشرين حين ظهرت لأول مرة فكرة التوازن بين العمل والحياة (Work–Life Balance)، حتى لو لم تسمَّى صراحةً على هذا النحو آنذاك.
وقتذاك، كافح العمال بضراوة من خلال المظاهرات والإضراب للفوز بالحق في العمل لمدة ثماني ساعات يومياً. وتضيف لوبو إنها كانت خطوة كبيرة وحاسمة نحو فكرة تحقيق التوازن بين الحياة والعمل؛ لكن الحاجز الذي ظهر سابقاً للفصل بين العمل والحياة الشخصية تآكل بمرور الوقت، ووجد العمل طريقه إلى المنزل حتى في أوقات العطلات، وأصبحت الحدود الهشة بين الحياة المهنية والشخصية أكثر ضبابية.
اقرأ أيضاً: لماذا عليك ألا تفوت إجازتك من العمل؟
أسباب تجعل من الضروري الفصل بين حياتك في العمل وخارجه
وجدت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية ونُشرت في مجلة ذا لانسيت (The Lancet) الطبية عام 2021، أن ساعات العمل الطويلة هي واحدة من أكبر مخاطر الصحة المهنية؛ حيث تؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتة الدماغية والإرهاق والقلق والتوتر والاكتئاب ومشكلات النوم. ومن الطبيعي أن يكون لإرهاقك في حياتك العملية تأثير أيضاً في علاقاتك وحياتك الاجتماعية وهواياتك وشعورك بالذات، وفيما يلي أهم الأسباب لضرورة الفصل بين حياتك في العمل وخارجه:
- تقليل الإرهاق والحصول على المزيد من الاسترخاء.
- زيادة الإنتاجية والإبداع.
- تحسين الصحة العامة.
- تحقيق الرضا الوظيفي.
- تحسين العلاقات العائلية والشخصية.
- ارتفاع جودة الحياة.
اقرأ أيضاً: هل إدمان العمل خيار صحي للتأقلم مع ضغوط الحياة؟
كيف تفصل بين حياتك المهنية والشخصية؟
صاغ المختص في علم النفس، آرلي هوكتشايلد (Arlie Hochschild) مفهوم "العمل العاطفي" في إشارة إلى التوقعات المتزايدة في مكان العمل وارتباطنا عاطفياً به إلى درجة تضر بصحتنا النفسية. وعادة ما يسلط هوكتشايلد الرائد في مجال علم النفس الإيجابي الضوء على ضرورة وضع حدود واضحة تفصل بين وقت العمل والحياة الشخصية، والحقيقة أن قول ذلك أسهل بكثير من تنفيذه، وغالباً ما تكون الخطوة الأولى هي الأصعب لكن الأمر يستحق المحاولة، وإليك كيفية النجاح في الفصل بين الحياة المهنية والشخصية:
- ذكّر نفسك أن وظيفتك هي ما تفعله وليست ما أنت عليه: قد يبدو هذا الأمر محيّراً، وبخاصة مع الكثير من المنشورات التي تقابلنا على وسائل التواصل الاجتماعي من نوعية "ابحث عن شغفك" و"حقق حلمك" و"أحِبَّ عملك". بالطبع يمكنك أن تحب عملك وتبدع من خلاله؛ لكن هناك الكثيرين الذين يعملون من أجل دعم عائلاتهم. ولهذا؛ ذكّر نفسك دائماً أن وظيفتك هي ما تفعله وليست ما أنت عليه، فنحن أكثر تعقيداً من مجرد كوننا وظائفنا التي نعمل بها، وعليه؛ يمكنك أن تمنح لنفسك الإذن بالحياة خارج نطاق العمل.
- ادمج بعض الأنشطة الروتينية في رحلتك من العمل إلى المنزل: أحياناً يكون الجزء الأصعب هو وقت العودة إلى المنزل، ففي ذلك الوقت تحديداً نفكر في ما قاله المدير والعمل الذي لم نُنهِه والحالة المزاجية للعميل. لهذا؛ من الأفضل القيام ببعض الأنشطة في أثناء رحلة العودة إلى البيت مثل الاستماع إلى بعض الموسيقا الهادئة، أو قراءة كتاب، أو التخطيط للذهاب في نزهة مع الأصدقاء، وفور الدخول إلى المنزل، قم بتغيير ملابسك على الفور وتوقف تماماً عن التفكير في عملك.
- اعرف أدوارك: تؤكد المختصة النفسية السعودية أروى عرب إن معرفة أدوارنا في الحياة يساعدنا على الفصل بين الحياة المهنية والحياة الشخصية، بالإضافة إلى أهمية عملنا على تنظيم وقتنا وأولوياتنا.
- مارِس اليقظة الذهنية: تساعدك تمارين اليقظة الذهنية في التركيز على اللحظة الحالية بدلاً من التفكير في الماضي أو المستقبل، وتساعدك أيضاً على ملاحظة ما يحدث حولك وداخلك، وهناك عدة طرائق يمكن من خلالها ممارسة تمارين اليقظة الذهنية.
- تجنَّب قراءة رسائل العمل في السرير: لا تفعل أبداً أي شيء متعلق بالعمل في السرير، فربما يبدو لك التحقق من الرسائل الإلكترونية الخاصة بالعمل أمراً سهلاً يمكنك القيام به قبل الذهاب إلى النوم؛ لكن العمل في السرير يخلق ارتباطات سلبية تعلّم جسمك أن سريرك مخصص للعمل وليس للنوم، وكذلك يؤدي الضوء الأزرق المنبعث من شاشة هاتفك أيضاً إلى تعطيل إنتاج هرمون الميلاتونين ما قد يؤثر في جودة نومك.
- تقبَّل أن الفصل بين العمل والحياة الشخصية لن يكون فصلاً تاماً: لأن عملنا وحياتنا الخاصة مترابطان للغاية؛ فإن الفصل التام بينهما لا يُعد دائماً هدفاً واقعياً؛ حيث أن فرض قواعد صارمة للغاية حول متى وأين يُسمح لنا بالتفكير في العمل أو التعامل مع القضايا الشخصية يمكن أن يؤدي إلى ضغوط غير ضرورية في كلا المجالين من حياتنا. وبدلاً من محاولة فصل حياتك الخاصة عن حياتك العملية تماماً، اجعل هدفك هو إيجاد التوازن المريح بينهما، وبمجرد قبولك أن الاثنين سيتقاطعان من حين لآخر، ستكون قادراً على إدارة مسؤولياتك في كلا المجالين على نحو أفضل، والاستمتاع بعلاقات أكثر صحة أيضاً.
في النهاية، يمكننا أن نختار إما السماح للبيئة من حولنا بتشكيلنا والسيطرة على حياتنا، وإما تدريب أنفسنا على تنفيذ تغييرات صغيرة من شأنها أن تُحدث فرقاً كبيراً في تحقيق التوازن بين مهمات العمل والحياة الشخصية. إنها خطوات صغيرة تدفع عقلك إلى طريقة مختلفة للتعامل مع تحديات اليوم؛ لكن من المهم إدراك أن تغيير الروتين والعادات لا يحدث أبداً بين عشية وضحاها، فهو يتطلب التزاماً وممارسة.