كيف تغوص في أعماق نفسك لتكتشف دواخلك؟

الغوص في أعماق نفسك
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تُجبرنا التغيُّرات، سواءً كانت تروق لنا أو تخيفنا، على الخروج من مساراتنا المعتادة، وحينئذ تُمسي عاداتنا عديمة الجدوى. فمن أين نستمد الدعم عند التعرُّض لمواقف كتلك؟ تجيبنا رحَّالة معروفة عن هذا السؤال.
ندرك أحياناً أن الأسس التي بنينا عليها حياتنا لم تعد ملائمة في حال من الأحوال، ونُصاب بما يشبه الاختناق حينما تهتز ثوابتنا أو يثبت خطؤها أو تتعرَّض للتصدُّع. نحتاج حينئذٍ إلى شيء آخر؛ نريد شيئاً جديداً نرتكن إليه، ونشعر بأنه يتعين علينا التخلي عن العالم الذي اعتدناه كرفاق الدرب أو شركاء الحياة أو المدن التي عشنا فيها وألِفناها وألِفتنا والوظيفة التي عملنا فيها لسنين طِوال، والسعي إلى اكتشاف عالمٍ آخرَ أكثر رحابة وواعدٍ بمستقبل باهر. لكن الخوف من المجهول قد يمنعنا من اتخاذ الخطوة الأولى؛ بل وقد يمنعنا أحياناً من مجرد التفكير في اتخاذها.

ولأن الإنسان لن يستطيع خوض مغامرة حقيقية دون الترحال بين هنا وهناك، فقد طلبنا من المراسلة الصحفية الرحّالة التي تعشق السفر مشياً على القدمين، بريسيلا تيلمون أن تخبرنا عن الاكتشافات الداخلية التي توصَّلت إليها من خلال رحلاتها العديدة. ما الثوابت التي تخلّت عنها خلال رحلاتها؟ وما الجديد الذي اكتشفته في المقابل؟ كشفت لنا مشاهداتها عن الموارد التي نمتلكها جميعاً ويمكننا الاستعانة بها للمضي قدماً بثقة أكبر في أنفسنا.

احرص على الغوص في أعماق نفسك

أسترشد بالخرائط في رحلاتي كلها، ومع ذلك فقد ضللت الطريق أكثر من مرة، واكتشفت في أثناء المشي أن هذه الخرائط بها أخطاء أو أنني مطالبة بالارتجال والبحث بنفسي عن طريق في المناطق غير المُمهَّدة. وحينما كنتُ أضلُّ الطريق، كنت أصاب بالارتباك وأشعر بالخوف ينهش أحشائي لكنني كنت دائماً أجد طريقي في نهاية المطاف من خلال تتبُّع اتجاهات الشمس أو مجاري الأنهار أو التعليمات التي تلقيتها قبل خوض رحلتي. وعلى المنوال نفسه، فمن النادر أن تسير الحياة في المسار الذي كان المرء يتخيله. وحينما يضل المرء طريقه، فإن ذلك يعني أنه سيعيش تجربة يتعرّض فيها لأمور غير متوقعة تستلزم منه إظهار سِعة الحيلة، وهذا يجبره على الغوص في أعماق نفسه، وتُعتبر تلك فرصة ثمينة لاختبار ثوابته الشخصية.

اعرف أصول تكوين العلاقات الإنسانية مع الآخرين

يشكّل التواصل ضرورة لا غنى عنها في السفر والترحال، وبخاصة إذا كنتَ تطمح لمعايشة السكان المحليين خلال رحلتك. وقد تعلمتُ جُملاً وصيغاً مهذبة أستخدمها حينما أقدم نفسي للآخرين وأتعرَّف إليهم، واستطعت من خلال اتباع هذا الأسلوب في التواصل أن أحافظ على اتزاني حينما أتعرّض للمجهول. وقد جعلني حاجز اللغة أنتبه إلى وجود لغة عالمية تتمثَّل في نظرات العينين والإيماءات، وهكذا فقد أيقنت أن التواصل في الغالب يتجاوز حدود الكلمات أو مجرد التلفُّظ بها، وأننا نتعلم بمرور الوقت الانتباه إلى الإشارات غير اللفظية. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى الأهمية البالغة لواحدة من أهم حاجاتنا الإنسانية الأساسية، ألا وهي تكوين العلاقات الإنسانية مع الآخرين.

تمسّك بجذورك الثقافية

يتعين عليك أحياناً أن تتنازل عن بعض الثوابت التي تؤمن بها وألا تحاول فرض قيمك على الآخرين، وأن تتخلى عن كل ما تعتقد أنك تعرفه حق المعرفة إذا وجدتَ أنه سيقف حائلاً بينك وبين اكتشاف الآخر. لكنني لا أعتقد أننا مطالبون بأن نذوب تماماً في ثقافة أولئك الذين يرحبون بنا، فإذا تخليت عن هويتك وتجرَّدت منها تماماً سينتهي بك الأمر إلى الوقوف حجر عثرة في طريق تعرُّف الآخرين إليك فهم يمتلكون من الفضول وحب الاستطلاع بقدر ما تمتلك أنت! لذلك أحرص دائماً على الاحتفاظ بصور لأفراد أسرتي وحياتي في باريس حتى أتمكن من مناقشة أوجه الاختلاف بيني وبين الآخرين.

مهما فعلت، فلن تستطيع التجرُّد من ثقافتك وجذورك في واقع الأمر، وقد علمتنا المواجهات جنباً إلى جنب مع احترام أوجه الاختلاف بيننا وبين الآخرين ألا نخجل من تفردنا بل على العكس من ذلك؛ علينا أن نعتبرها كنزاً يمكن تقاسمه معهم.

اعرف كيف تعيش وحيداً

كنت أتقاسم طبقاً من الأرز مع السكان المحليين وأنام في بيوتهم وأسافر لمسافات طويلة بصحبة الأطفال والحجاج؛ لكنني عشتُ أيضاً لفترات طويلة من الزمن في حالة من العزلة التامة غير أنني لم أشعر خلالها بالوحدة، فقد شعرتُ بعد فترة من الزمن بأنني على تواصل مع الأشجار والنجوم والصخور. لم يكن هناك جدول مواعيد ولا هواتف محمولة ولا مبانٍ مرتفعة، كنتُ أعيش في أحضان الطبيعة معتمدة على أساسيات الحياة كالمشي والنوم والأكل والتفكير والتأمل”.

ما الذي نريده خلاف ذلك؟ ماذا لو كان مفتاح السعادة الأبدية يتمثّل في العودة إلى الملذات الأساسية؟

خفّف من الأمتعة

لكي تخوض هذه الرحلة سيراً على الأقدام، فمن الأفضل أن تخفِّف من أمتعتك قدر الإمكان عند السفر. وبحكم عيشنا في ظل ثقافتنا التي عوّدتنا على الراحة، فقد ترسَّخ في أذهاننا أن الاحتفاظ بقميصين فقط في حقيبة سفرنا لن يكون كافياً، وهذا خطأ! فقد كنت أحتفظ في حقيبتي بالحد الأدنى من الملابس، بالإضافة إلى كيس نوم وموقد غاز وكاميرا تصوير فوتوغرافي وكاميرا فيديو ودفتر. كان من الممكن أن أفقد كل ذلك لكنني لم أكن لأفوت على نفسي فرصة الاستمتاع بالرحلة، فإذا كان هناك أناس يستطيعون العيش في هذه المناطق فهذا يعني أنني أستطيع أنا أيضاً تدبُّر أموري في حدود الإمكانيات المتاحة لهم. الشيء الوحيد الذي لا غنى عنه حقاً والذي كان من الممكن أن يسبب لي فقدانه مشكلة حقيقية، هو جواز سفري.

نحن غالباً نثقل كواهلنا بالمقتنيات المادية التي نتمسك بها على الرغم من إمكانية الاستغناء عنها، ومن ناحية أخرى فإن هويتنا هي أغلى ما نملك.

اجعل لحياتك معنىً وهدفاً أسمى

كنت قد وضعتُ أمامي هدفاً يتمثّل فيما يلي: أن أنجز هذا المسار الذي لطالما حلمت به مستلهمة قصة ألكسندرا ديفيد نيل الواردة في كتابها الذي جاء تحت عنوان “رحلة باريسية إلى لاسا” (Voyage d’une Parisienne à Lhasa) (بوكيت، 2004). لقد ساعدني هذا الهدف على التحلي بالشجاعة للمضي قدماً عندما كنت أشعر بالإعياء أو أخشى أن ينال مني الخوف من المواجهات. لطالما حلمتُ بحياة الزهد والأصالة، وأسعى جاهدة في باريس لمواصلة رحلتي وتغذية شعوري بحب الاستطلاع ومحاولة التعلم من كل لحظة ومن كل مواجهة.

إن الاستمتاع بالرحلة وعلامات الدهشة التي ترتسم على محياك عند التعرَّض لمواجهات جديدة قد يمنحونك طاقة لا مثيل لها.

المحتوى محمي !!