قد يبدو الغناء مع زملاء العمل أمراً غريباً أو محرجاً؛ لكن قبل أن ترفض الفكرة، تذكر أن رفض الغناء الجماعي يعني التخلي عن تقليد إنساني عميق جمع الناس آلاف السنين، وتواصلوا عبره ودعموا بعضهم بعضاً.
محتويات المقال
فمن تراتيل القبائل القديمة، إلى احتفالات مباريات كرة القدم، وصولاً إلى الفرق الغنائية التي تملأ قاعات الأوبرا، لطالما غنى الناس معاً، ليس لمجرد ممارسة الفنون، بل لأن الغناء أثار فيهم شعوراً بالحياة والتماسك والانتماء إلى شيء أكبر.
واليوم في عالم يتسم بالعزلة والوحدة، على الرغم من وجود بعضنا بجانب بعض، يمكن للغناء مع الآخرين، حتى مع زملاء العمل، أن يضفي الدفء والضحك والتفاعل الإنساني الصادق. الأمر لا يتعلق بالموهبة، بل بالتواصل.
لذا، وإن بدا الأمر سخيفاً في البداية، عليك أن تمنحه فرصة. فالغناء مع الزملاء قد لا يغير الجو العام فحسب، بل قد يغير أيضاً مشاعرك تجاه فريقك ومكان عملك، وحتى تجاه نفسك. وإن كنت ما زلت غير مقتنع، فانظر إلى ما تقوله الدراسات العلمية عن ذلك.
اقرأ أيضاً: متوتر في العمل؟ لعل ما ينقصك هو كلمة تقدير!
ماذا يحدث في أدمغتنا عندما نغني؟
الغناء نشاط ذهني معقد؛ إذ ينشط أنظمة عصبية متعددة تمتد عبر نصفي الكرة المخية في آن واحد، وهي أنظمة غالباً ما تعمل على نحو مستقل. تشمل هذه الأنظمة تلك المسؤولة عن المعالجة السمعية، والأنظمة الصوتية الحركية (تحريك الفم والأحبال الصوتية والحجاب الحاجز)، ومراكز اللغة مثل منطقتي فيرنيك المسؤولة عن فهم اللغة وبروكا المسؤولة عن إنتاج الكلمات، والأنظمة الإدراكية والعاطفية.
في الواقع وبفضل دراسات التصوير العصبي، بات من المعلوم الآن أن الغناء يستلزم تفاعلاً مستمراً بين نظاميين قشريين؛ هما مسار إنتاج الصوت الجداري الجبهي (المسار الظهري)؛ الذي يساعد على التحكم في الصوت وتنسيق الحركة. ومسار الإدراك السمعي الصدغي الجبهي (المسار البطني)؛ الذي يساعد على السمع وضبط درجة الصوت بناء على ردود الفعل الحسية الجسدية والسمعية.
ومقارنة بالكلام العادي، ينشط الغناء المناطق الجبهية الصدغية بدرجة أكبر، وخاصة في الجانب الأيمن من الدماغ. وهذا ليس كل شيء، فالغناء يشمل أيضاً مناطق الدماغ المرتبطة بالانتباه والذاكرة العاملة والإيقاع والعواطف، مثل مناطق القشرة الجبهية والجهاز الحوفي والمخيخ.
باختصار، عندما تغني تشتعل سيمفونية من النشاط في دماغك، ما يجعله واحداً من أكثر السلوكيات البشرية ثراء من الناحية المعرفية والعاطفية.
اقرأ أيضاً: كيف تصمد أمام ضغوط العمل وتحمي صحتك النفسية من الانهيار؟
4 فوائد نفسية وجسدية رئيسية للغناء
حتى لو لم يكن صوتك عذباً مثل صوت عبد الحليم حافظ أو محمد عبده، فإن للغناء في حد ذاته آثاراً نفسية إيجابية كبيرة، مثل:
- تحسين المزاج وتعزيز الاسترخاء: يعزز الغناء إفراز الدوبامين والإندورفين والسيروتونين، وهي مواد كيميائية عصبية مرتبطة بالمتعة والرفاهية والمشاعر الإيجابية. هذا ما يفسر ربما شعورك بالسعادة عند الغناء أكثر من مجرد الاستماع إلى الموسيقا أو التحدث عن أحداث الحياة الإيجابية.
وبناء على دراسة منشورة في مجلة الصحة البريطانية، فإن الأشخاص الأصحاء أو ممن يعانون حالات نفسية مختلفة، يشعرون بتحسن في الصحة النفسية والمزاج والرفاه بعد الانضمام إلى مجموعات غنائية.
- تخفيف التوتر: تقول مختصة علم النفس والعلاج بالموسيقا، لينا رياشي، إن الموسيقا ترفع المعنويات وتقلل هرمونات التوتر مثل الأدرينالين والكورتيزول. وينطبق الأمر نفسه على الغناء، إذ وفقاً لدراسة منشورة في دورية الحدود في علم النفس، فإن الغناء يخفض هرمون الكورتيزول، سواء كان غناء منفرداً أو ضمن مجموعة. إضافة إلى أنه يحسن التنفس ووضعية الجسم ويشد العضلات.
- تحسين الوظائف الإدراكية: يحسن الغناء الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والتركيز واليقظة الذهنية. إذ يمثل تذكر كلمات الأغاني والألحان وتنسيق التنفس والنطق تمريناً شاملاً للدماغ؛ فهذه العملية المعقدة، كما أسلفنا الذكر، تنشط مسارات عصبية مختلفة، ما يحسن صحة الدماغ ووظائفه عموماً.
- تحسين الصحة الجسدية: بينت دراسة منشورة في دورية الصوت أن الغناء يحسن مستوى تشبع الأوكسجين في الدم، ما يعزز الصحة الجسدية والذهنية عموماً من خلال تحسين وظائف الخلايا. ونظراً لأن الغناء يتضمن التنفس العميق واستخدام العضلات على نحو متحكم به، فقد يفيد المصابين ببعض أمراض الرئة؛ نتيجة القوة التي تكتسبها عضلات الجهاز التنفسي.
اقرأ أيضاً: 7 استراتيجيات فعالة لكسر وصمة الصحة النفسية في مؤسستك
كيف تتضاعف فائدة الغناء عندما يصبح جماعياً؟
بالإضافة إلى الفوائد المترتبة على الغناء منفرداً، فإن الغناء مع مجموعة يزيد هذه الفوائد، وإليك كيف:
- تعزيز التواصل الاجتماعي والشعور بالانتماء: كما هو الحال في الرياضات الجماعية، يعزز الغناء الجماعي روح الزمالة والروابط الاجتماعية. وقد أظهرت دراسة منشورة في دورية علم نفس الموسيقا أن البالغين الذين يغنون في مجموعات يشعرون بسعادة أكبر مقارنة بالمغنين المنفردين.
يعزى هذا التأثير جزئياً إلى هرمون الأوكسيتوسين المعروف أيضاً باسم "هرمون الحب"، الذي يفرز خلال التجارب المشتركة مثل الغناء العفوي الارتجالي على سبيل المثال. يعزز هذا الهرمون مشاعر الثقة والتقارب، ما يقوي الروابط الاجتماعية ويساعد على الشعور بالارتباط والاندماج.
في الواقع، وجدت الباحثة في علوم الأعصاب والنفس والسلوك في جامعة ليستر البريطانية، كاثرين ستيل، أن الضغط النفسي الناتج عن العمل ينخفض عند 96% من الموظفين الذين يغنون مع زملائهم بصوت عال ضمن العمل، في حين يقل الشعور بالوحدة عند 86% منهم.
- تخفيف الألم: ذكرت دراسة منشورة في دورية علم النفس التطوري أن الغناء مع المجموعة يعزز إطلاق هرمون الإندورفين، الذي يحسن الحالة المزاجية ويعزز المشاعر الإيجابية ويقلل الإحساس بالألم.
- تعزيز المناعة: قد يبدو أمراً غريباً بعض الشيء، لكن وفقاً لدراسة منشورة في مجلة الطب السلوكي، فإن الغناء مع فرقة غنائية يزيد إفراز الغلوبولين المناعي (أ) ويخفض الكورتيزول المسبب للتوتر، ما يعزز صحة الجهاز المناعي.
- تخفيف ألم الفقد: قد يمثل الغناء الجماعي دعماً عاطفياً قوياً للأشخاص الذين يعانون الحزن والفقدان. فقد وجدت دراسة منشورة في المجلة الطبية البريطانية، أن الأشخاص الذين انضموا إلى فرقة غنائية بعد فقدان أحد أحبائهم حافظوا على استقرار صحتهم النفسية وتجنبوا تفاقم أعراض الاكتئاب. كما شهد المشاركون على مدار 12 أسبوعاً تحسناً تدريجياً في تقدير الذات، على عكس المجموعة التي لم تغن. وهذا التأثير ناتج عن أن الغناء الجماعي يوفر شعوراً بالتواصل والتحرر العاطفي، وهو أمر يمكن أن يكون مفيداً بصورة خاصة خلال فترات الفقد.
اقرأ أيضاً: كيف يعزز القادة راحة الموظفين ورضاهم دون إنفاق مبالغ طائلة؟
8 نصائح تساعدك على دمج الغناء مع الزملاء في روتينك بالعمل
تذكر أن الأمر لا يتعلق بالموهبة، بل بالمشاركة، فليس من الضروري أن تكون بارعاً في الغناء لتجني ثماره. لذا إليك بعض النصائح المختصرة والعملية حول كيفية دمج الغناء مع زملائك في حياتك المهنية:
- جرب الغناء الصباحي: ابدأ يومك بغناء جماعي مدة 5-10 دقائق. اختر أغاني مألوفة ومفعمة بالحيوية يمكن للجميع المشاركة فيها. يمكن لهذا الروتين أن يرفع المعنويات دون إضاعة وقت طويل.
- اقترح استراحة غناء أسبوعية: اقترح جلسة غناء قصيرة مدة 10 دقائق خلال استراحة الغداء أو القهوة.
- استغل الاحتفالات: اقترح الغناء الجماعي خلال حفلات أعياد الميلاد أو احتفالات نجاحات الفرق أو غيرها من المناسبات المهمة، فذلك يساعد الناس على الاسترخاء وتوطيد العلاقات.
- أنشئ مجموعة غناء: ادع الزملاء المهتمين بالغناء أو العزف على الآلات الموسيقية لتأليف فرقة غير رسمية تجتمع بانتظام، ربما أسبوعياً خلال استراحات الغداء أو بعد العمل. يمكن لهذه المجموعة التدرب على أغان ممتعة معاً، أو التحضير لفعاليات الشركة.
- اختر الأغاني المحببة: اختر الأغاني السهلة والممتعة والمألوفة للناس معظمهم، وتجنب الأغاني المثيرة للجدل.
- أبق الأمر تطوعياً دون إكراه أو إلحاح: لا تجبر أحداً على المشاركة أبداً، فالهدف هو الاستمتاع والتواصل، وليس الأداء.
- احترم بيئة العمل: حافظ على مستويات الضوضاء مناسبة، واختر الوقت والمكان المناسبين لتجنب إزعاج الآخرين.
- غن مع نفسك: إن كنت ما زلت تستهجن فكرة الغناء مع الفريق، فلا بأس، غن بمفردك، أو مع أطفالك، أو خذ دروساً تعليمية عند مدرب خاص. فقط غن من قلبك.