ملخص: "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه" هكذا قالها ابن خلدون وبمرور السنين تثبت مقولته حقيقتها بالأخص في وقت المحن والأزمات التي نرى فيها البشر يؤازرون بعضهم بعضاً بالجهد والمال والدعم المعنوي، وتعد معادلة العطاء عجيبة من نوعها إذا يمكن أن نطلق عليها المعادلة المزودجة فكلا الطرفين يستيفيدون من ورائها، فالطرف الذي يتلقى الدعم تتحسن حياته في وقت تكون فيه على المحك، أما الطرف الذي يعطي يستفيد بنتائج ملموسة تظهر على صحته النفسية والجسدية، فيزداد رضاؤه عن حياته وتقديره لذاته ومعدل سعادته، كما يقل اكتئابه وضيقه النفسي وكذلك ضغط دمه! التغيرات السابقة أثبتتها دراسات علمية مثيرة للاهتمام يستعرضها مقالنا.
"سعادتنا في العطاء وشرفنا في خدمة المحتاج وبلادنا محظوظة بالخير الذي نفعله والبلاء يرتفع بالصدقة".
كلمات نبيلة عبر بها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات عن أهمية التطوّع والعطاء، فانعكاسه الإيجابي يكون جلياً ويأخذ أشكالاً متعددة على المستوى الفردي والمجتمعي، وربما ينتشر الحديث عما يقدمه العطاء للمستفيد وتأثيره في تغيير حياته، لكنه على الناحية الأخرى فهو يسهم جلياً في الدفع بحياة المعطي إلى الأفضل.
فقد أثبتت العديد من الدراسات العلمية التي سنستعرضها في مقالنا أن العمل الخيري يحسن الصحة النفسية والجسدية للمتطوع أو المتبرع، ومن ناحية أخرى قد يزيد مهاراته الاجتماعية ويكسبه مهارات جديدة تطور شخصيته.
اقرأ أيضاً: تخفف آلامك وتسعدك، 7 أسباب لمعاملة الآخرين بلطف
ما هو التطوّع؟ وما أنواعه؟
يُعرِّف "تقرير حالة التطوّع في العالم 2022" مصطلح التطوّع على أنه "مجموعة واسعة من الأنشطة؛ بما في ذلك الأشكال التقليدية للمعونة المتبادلة والمساعدة الذاتية وتقديم الخدمات الرسمية، وغير ذلك من أشكال المشاركة المدنية، المتبرَّع بها من تلقاء النفس".
بالإضافة إلى ما سبق؛ تتميّز الأعمال التطوّعية بأنها ذات فائدة عامة للناس دون أن يكون دافعها الرئيسي هو الحصول على مكافأة مالية.
وقد تأثر التطوّع بانفتاح العالم في السنوات الأخيرة وثورة التقنية والإنترنت وتقارب شعوب العالم وعدد من العوامل الأخرى التي أسهمت في انتشاره؛ حيث انعكس ذلك بصورة ملحوظة في تتعدد فرص التطوّع الشائعة من حولنا؛ ومنها ما يلي:
- التطوع التقليدي: يتبرع المتطوّعون بوقتهم من أجل سبب نبيل يؤمنون به دون توقع أي مردود في مقابل عملهم، ويُعتبر من أشهر الأنواع ويعرفه معظم الناس.
- استراحة لأجل التطوّع: قد يتجه بعض الاشخاص إلى التطوّع من أجل الابتعاد عن زخم الحياة العملية أو الدراسية المتسارع، وقد يصاحب ذلك الانتقال إلى مدينة أخرى تحقيقاً لفكرة العيش بعيداً عن البيئة المعتادة أو حتى السفر إلى بلاد أجنبية.
- التطوّع السياحي: يمزج المتطوّع بين السياحة والتطوّع في تجربة واحدة حيث تساعده تجربته على رؤية جزء مختلف من العالم وإحداث تغيير إيجابي ملموس من خلال الأعمال التطوّعية والتعرّف إلى أشخاص جدد.
- التطوّع عبر الإنترنت: تتفرّد هذه التجربة بأنها مشاركة لا تتطلب من المتطوّعين مغادرة منازلهم كالتدريس أو التواصل مع كبار السن أو تقديم خدمات الترجمة.
التطوّع يعني صحة جسدية ونفسية أفضل
على وجه العموم؛ وجد علماء من جامعة تينيسي الأميركية (Tennessee State University) وجامعة سونغسيل الكورية الجنوبية (Soongsil University) في دراسة نُشِرَت فبراير/شباط 2020 أن الأفراد الذين شاركوا في العمل التطوعي كانوا أكثر إفصاحاً عن شعورهم بحالة صحية أفضل.
وتتماشى نتائج مراجعة علمية نُشرت صيف 2017 لصالح "بي إم سي للصحة العامة" (BMC Public Health) مع ما سبق.
فقد وجد علماء من جامعة مدينة هونغ كونغ (The University of Hong Kong) أن الكثير من الأبحاث السابقة برهنت على أن المشاركة في الخدمات التطوّعية تنبئ بصورة ملحوظة بصحة نفسية وعقلية وجسدية أفضل.
كما تحدث الباحثون عن الأثر المعلوم للتطوّع المتعلق بالرضا عن الحياة وتقدير الذات والسعادة وتقليل أعراض الاكتئاب والضيق النفسي والوفيات والعجز الوظيفي.
كما دفع ذلك العلماء لتقديم توصيات حول تعزيز أهمية العمل التطوعي من قبل ممارسي الصحة العامة والتعليم والسياسة كنوع من نمط الحياة الصحي.
وتتأثر الصحة النفسية والعقلية بالسلوكيات التي تُركِّز على مساعدة الآخرين من حولنا؛ تلك التي تكوّن لُب الأعمال التطوّعية وتجعلها قادرة على تغيير مزاجنا وتحسين صحتنا الجسدية والنفسية والعقلية.
ومن الممكن أن يسهم فعل شيء ممتع ومُحبَّب كما يحدث عندما يتطوع الإنسان ويمارس العطاء في خلق شعور بالسعادة؛ ما يحفّز مشاعر النشوة والرضا والرفاه الجسدي والنفسي والعقلي.
ففي دراسة بريطانية نُشِرَت في مارس/آذار 2020 في مجلة دراسات السعادة (Journal of Happiness Studies) حلل الباحثون بيانات حوالي 70 ألف مشارك من المملكة المتحدة، ووجدوا أن أولئك الذين تطوعوا في العام الماضي كانوا أكثر رضا عن حياتهم.
كما وجد الباحثون أن صحتهم العامة كانت أفضل، وبالمثل فالأشخاص الذين تطوعوا مرة واحدة على الأقل شهرياً أفادوا بصحة نفسية أفضل من أولئك الذين تطوعوا نادراً أو لم يتطوعوا على الإطلاق.
بالإضافة إلى ما سبق؛ يمكن أن يؤدي عدم التواصل مع الآخرين أو الشعور بالوحدة إلى إفراز هرمون الكورتيزول الذي يسبب عند ارتفاعه في الجسم ازدياد حالات التوتر والقلق وتثبيط قدرات الإنسان المعرفية والسلوكية، بحسب كليفلاند كلينيك (Cleveland Clinic).
وبصورة معاكسة؛ يسهم العمل التطوعي في خلق بيئة اجتماعية إيجابية يحارب بها المتطوّعون الشعور بالوحدة كما يدعم التواصل مع الآخرين؛ ما يسهم في مواجهة التوترات وضغوط الحياة من خلال عمل يحب فعله الإنسان.
وبالمثل؛ يبني التطوع الصداقات الوطيدة عابرة الحدود ويعزز التفاعل الاجتماعي والمشاركة في تقديم الدعم العاطفي للآخرين وحتى الحصول عليه بسهولة، إلى جانب بناء الثقة والتعرّف إلى الذات؛ ما يسهم في تحسين مستوى الصحة النفسية والعقلية.
اقرأ أيضاً: ما أهمية الشعور بالامتنان في حياتنا؟
كيف أتطوّع؟
وضعت عالمة النفس تيري ليون (Terri Lyon) خارطة طريق سهلة المتابعة تأمل من خلالها في مساعدة الناس على تحديد الهدف الأكثر شغفاً وتحديد كيفية القيام بذلك؛ ما يسهم في توجيه تركيزهم على قضية واحدة ويجعل جهودهم أكثر فعالية. ومنها ما يلي:
- ابحث عن شغفك الخاص من خلال إنشاء رؤية شخصية تتمحور حول كيفية تغيير العالم.
- حدد المواهب الفريدة التي يمكنك تقديمها لمجال التطوّع، ثم اصنع فرصاً تطوّعية فريدة تتناسب مع ما تملكه وما يحيط بك.
- راقب فعاليتك على المدى الطويل وابق متحمساً وتجنب الإرهاق.
كيف يزيد تبرعك سعادتك؟ الأمر أعقد مما تتصور!
أجريت العديد من الدراسات العلمية بهدف قياس إنعكاس التبرع على الصحة النفسية للفرد ووجدت أنه يزيد مستوى سعادته، ومن ضمنها دراسة أجرتها جامعة زيورخ السويسرية (University of Zurich) أعطى الباحثون فيها لأفراد المجموعة البحثية 100 دولار وطلبوا من نصفهم إنفاقها على أنفسهم، بينما طلبوا من النصف الآخر إنفاقها على شخص آخر على مدار أربعة أسابيع.
وأجروا في النهاية تصوير بالرنين المغناطيسي لأدمغة المشاركين ليجدوا أن الذين أنفقوا المال على شخص آخر زاد عندهم نشاط المنطقة المرتبطة بالمتعة، إلى جانب تأكيدهم أنهم كانوا أكثر سعادة بالمقارنة مع الأشخاص الذين أنفقوا المال على أنفسهم.
تضرب تلك السعادة في جذور الدماغ ويشرح لنا عالم الأعصاب سيمون توماس (Simon-Thomas) ما يحدث بإشارته إلى أن المتعة التي يشعر بها الشخص عندما يفعل الخير للآخرين تنشط مسارات معينة في الدماغ تطلق هرمون الأوكسيتوسين الذي يرتبط بمشاعر إيجابية مثل الثقة والأمان، ويتميز هذا الهرمون عن غيره من الهرمونات التي تفرز من مركز المكافأة في الدماغ في إستمرار مفعوله لوقت أطول على عكس الدوبامين مثلاً الذي يتصف بتأثيره قصير المدى.
من اللافت للانتباه أن تأثير العطاء يتجاوز حدود الصحة النفسية إلى الصحة الجسدية، فوفقاً لدراسة علمية أجرتها جامعة كولومبيا البريطانية (University of British Columbia) توصل الباحثون إلى أن التبرع يسهم في خفض مستوى ضغط الدم ما يجعل تأثيره مشابه لما يحدث عند اتباع نظام غذائي صحي أو ممارسة الرياضة.
يتضح لنا مما سبق أن العمل الخيري من تطوّع وتبرع عنصر ضروري للعيش في مجتمعات متوازنة صحياً ونفسياً، لذا علينا أن ننشر قدر ما استطعنا ثقافة العطاء بجميع أشكاله الفردي والجماعي، المادي والمعنوي من أجل أن ترتسم البسمة على الوجوه وتنبض السعادة في القلوب.