ملخص: تطرّق العديد من الدراسات إلى العلاقة بين الدخل والصحة النفسية. يمكن أن يزيد الدخل المنخفض للأفراد مستويات القلق والاكتئاب لديهم؛ لكنهم لا يتحملون هذا العبء بمفردهم؛ بل تتحمله اقتصادات دولهم أيضاً.
محتويات المقال
"موقعك الاجتماعي قد يحدّد حتى سرعة التئام الجرح لديك"! هكذا أشار مختص العلوم السلوكية والاجتماعية، محمد الحاجي (Mohammed Alhajji) إلى مستوى الألم الجسدي الذي يمكن أن يسبّبه الدخل المتدني مقارنةً بمستوى دخل مجموعة الأفراد التي ننتمي إليها، فللضغوط والقلق المستمرَّين جرّاء المقارنة معهم، آثار نفسية وجسدية رصدها العديد من الدراسات على نحوٍ ثابت في الدول الغنية والفقيرة.
دُرِست العلاقة بين الدخل والصحة النفسية على نطاق واسع؛ حيث أظهرت الأبحاث أن الحالة الاجتماعية والاقتصادية؛ التي تشمل الدخل والتعليم والمهنة، ذات تأثير كبير في الصحة النفسية للأفراد.
كيف يؤثّر الفقر في ولوج خدمات الرعاية النفسية؟
أجرت مؤسسة مايند (Mind) الإنجليزية للصحة النفسية عامَ 2021، بحثاً لفهم تجارب معيشية تخصّ الصحة النفسية لأكثر من 500 شخص عانى أو يعاني الفقر وإحدى مشكلات الصحة النفسية، وذلك بهدف وضع خطة لمنع أولئك الذين يعانون مشكلات الصحة النفسية من الوقوع في براثن الفقر. حيث كشفت النتائج الرئيسة الآتي:
- ثمّة وصمة عار واضحة بشأن المال والصحة النفسية؛ إذ يشعر العديد الأشخاص الذين يواجهون الفقر بأنهم لا يستحقون الاستفادة من الدعم النفسي، وبأن موضوعات الصحة النفسية تخصّ الأشخاص من الطبقات الميسورة.
- أحد العوائق أمام طلب الدعم النفسي هو القلق من فقدان التحكّم والاختيار، والخوف من المنظومة العلاجية.
- خدمات الرعاية النفسية قد تكون غير عملية أو محترمة، وامتلاك المال للحصول على الدعم النفسي المطلوب هو عائق كبير. ذلك إضافةً إلى أنّ الأشخاص الذين يديرون هذه الخدمات قد يستخفّون بالأفراد، فلا يأخذون مشكلات الصحة النفسية لديهم على محمل الجد.
- يحصل الأشخاص الذين يعانون الفقر على خدمات الصحة النفسية التي تركّز على التحدّث عن المشاعر ليس إلا.
اقرأ أيضاً: كيف توضح العلاقة بين البطالة والصحة النفسية أن العمل أكثر من مجرد راتب؟
كلّما ارتفع دخلك، انخفضت احتمالات إصابتك بالاكتئاب؛ لكن إلى أيّ حد؟
قد تبدو علاقة بديهية للبعض، فمواجهة التحدّيات المالية قد تسهم بالفعل في الإصابة بالاكتئاب أو زيادة مشاعر الكآبة عموماً. غير أن دراسة أجراها الأستاذ المشارك من جامعة شاندونغ الصينية، تشاو لي (Chao Li) عامَ 2022 إلى جانب باحثين آخرين، تكشف تفاصيل أدقّ فيما يخصّ العلاقة غير المنتظمة بين الدخل والصحة النفسية؛ حيث تسلّط الضوء أيضاً على أهمية معالجة التفاوتات في الصحة النفسية عبر المجموعات المختلفة.
وتوصلت النتائج إلى وجود انخفاضٍ في مستويات الاكتئاب لدى الأشخاص الذين استفادوا من زيادة نمو الدخل، في حين يعاني الذكور والعاملون الأكبر سناً والأقليّات العرقية وذوو الحالة الصحية والاجتماعية الاقتصادية المنخفضة، مستويات أعلى من الاكتئاب.
كما أن سكان المناطق الحضرية من ذوي التعليم العالي أكثر عرضةً للمعاناة من الاضطرابات النفسية. وتشير النتائج أيضاً إلى تمتّع الأفراد أصحاب المعتقدات الدينية أو الانتماءات السياسية القوية بصحة نفسية جيّدة على الرغم من مستويات الدخل المنخفضة لديهم؛ ما يشير إلى أن المعتقدات الدينية والسياسية تعمل على تعديل العلاقة بين الدخل والصحة النفسية.
وفي دراسة أخرى أشار إليها المستشار المالي والكاتب الاقتصادي عاصم الرحيلي، وأُجريت على 1.7 مليون شخص في العالم، تشير النتائج إلى أن ارتفاع الدخل يؤثّر في جودة الحياة النفسية ويؤدّي إلى السعادة؛ ولكن هذه العلاقة تبدأ بالتلاشي عند بلوغ الدخل حداً معيّناً يغطّي الاحتياجات الأساسية والمهمة للأفراد، ويختلف بين دولة وأخرى.
استراتيجيات تعزيز الصحة النفسية في المجتمعات المنخفضة الدخل
على الرغم من أن اعتلال الصحة النفسية للأفراد يكلّف الدول مبالغ طائلة قد تصل إلى تريليونات الدولارات سنوياً؛ لكن مشكلات الصحة النفسية لا تعالَج كما يجب في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، مع انخفاض الإنفاق وعدم كفاية العلاجات.
وتمثّل الصين والهند ثلث العبء العالمي للأمراض النفسية؛ حيث ترتفع معدلاّت الاكتئاب والانتحار في البلدين كليهما وفقاً لمنتدى الاقتصاد العالمي (WEF). ذلك أن كثرة السكان الذين يعانون اعتلالات الصحة النفسية، تزيد معدلات البطالة والفقر والوفيات المبكرة؛ ما يؤثّر سلباً في النمو المستدام.
لمعالجة هذه الأزمة؛ من الضروري تمكين المجتمعات وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لتوفير رعاية صحية نفسية جيدة، مع توحيد الجهود على المستوى العالمي لمعالجة القضايا النظامية التي تؤثّر في الرعاية النفسية، فالاستثمار في علاج مشكلات الصحة النفسية يمكن أن يؤدي إلى عوائد كبيرة؛ حيث إن كل دولار ينفَق على توسيع نطاق علاج الاكتئاب والقلق يولّد عائداً قدره 4 دولارات من حيث الصحة والقدرة على العمل على نحوٍ أفضل.
5 أولويات لتعاون أفضل في مجال الصحة النفسية
- تعزيز التعاون بين أصحاب المصلحة المتعددين للنهوض بالجهود المحلية والوطنية والعالمية لصالح صحة نفسية جيدة: يجب أن تعمل المنظمات المجتمعية، ومؤسسات المجتمع المدني، والحكومات، والمنظمات الدولية، وشركات القطاع الخاص، والمؤسسات الأكاديمية معاً للنهوض بالصحة النفسية وتوفير خطط لمعالجة مشكلاتها.
- وضع سياسات ترسم إطاراً أخلاقياً وتوجّه استخدام التقنيات والبيانات الجديدة للتشخيص المبكّر والوقاية من اعتلالات الصحة النفسية: الاستفادة من البيانات والتكنولوجيا لتمكين التشخيص المبكر والدقيق، وبناء أنظمة حوكمة من شأنها توجيه الاستخدام الأخلاقي والمناسب لهذه التقنيات لتمكين النتائج الإيجابية التي تهم المريض.
- تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية وتشجيع تطوير أدوية وعلاجات جديدة لعلاج حالات الصحة النفسية: يُحرم العديد من الأشخاص الوصول إلى العلاج إما بسبب العيش في مناطق منخفضة الوصول وإما لعدم القدرة على تحمّل تكاليف العلاج. لذا؛ يجب أن يجمع علاج الصحة النفسية الناجح بين التدخلات السلوكية والنفسية والطبية عند الاقتضاء.
- تحسين مسارات الرعاية وخطط التأمين لعلاج اضطرابات نفسية معينة من خلال تحديد واعتماد معايير الرعاية: اتبّاع نهج مرن قائم على الأدلة لعلاج اعتلالات الصحة النفسية؛ بحيث يكون مصمماً تصميماً خاصاً بالسياق الثقافي لكل بلد، ومغطىً بموجب خطط التأمين الوطنية، فذلك من شأنه أن يضمن العلاج المناسب لكل شخص يدخل نظام الرعاية الصحية الخاص بالصحة النفسية دون التسبب في ضائقة مالية.
- زيادة عدد المتخصصين في الصحة النفسية وتدريب غير المتخصصين على تقديم الرعاية الصحية النفسية على المستوى المجتمعي: يجب توفير الرعاية الصحية النفسية على مستوى المجتمع، والاستفادة من نقاط القوة للبلد لتوفير رعاية الصحة النفسية في البيئات المباشرة للمرضى؛ إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين حياة الأفراد وأُسرهم على نحوٍ مستدام.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يحد رفع الحد الأدنى للأجور من نسب الطلاق؟
وختاماً، العلاقة بين الدخل والصحة النفسية موضوع شائك يتطلّب المزيد من الاهتمام والتعاون بين أصحاب المصلحة جميعهم، فنسبة كبيرة من سكان العالم تعاني مشكلات الصحة النفسية، ويزداد العبء الثقيل على نحوٍ خاص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل؛ حيث تتفاقم هذه التحديّات بسبب محدودية الوصول إلى خدمات رعاية الصحة النفسية، وعدم كفاية العاملين في مجال الصحة النفسية، ونقص التكامل بين مختلَف مقدمي العلاج.