Search Open Side Panel

ما بين الإنجاز والخذلان: كيف يفسر العقد النفسي أزمة محمد صلاح؟

1 دقيقة
العقد النفسي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

العقد النفسي في بيئة العمل ليس بنداً مكتوباً، بل وعداً ضمنياً يقوم على الثقة والعدل والتوقعات المتبادلة. وعندما يكسر هذا العقد، لا ينهار الحافز فقط، بل تبدأ مشاعر الخذلان والانسحاب بالتسلل، ما يفرض سؤالاً عملياً: كيف يمكن التعامل مع هذا الخرق بوعي يحمي مهنيتك وصحتك النف…

تصدر اسم لاعب نادي ليفربول ونجمه المصري محمد صلاح عناوين الأخبار مؤخراً، بعد تصريحات أدلى بها إثر استبعاده ثلاث مباريات متتالية للفريق، حيث عبر عن شعوره بقوله: "النادي رمى بي تحت الحافلة"، وهو تعبير إنجليزي يقصد به التضحية بشخص لتجنب اللوم أو للتخلي عن المسؤولية.

أدى هذا الجدل وتبادل التصريحات إلى تصاعد الأقاويل حول احتمال انتقال صلاح من النادي، بعد أن ارتبط اسمه بليفربول أكثر من 8 سنوات، حقق فيها العديد من الألقاب، واحتل المركز الثالث في قائمة هدافي النادي عبر التاريخ، ومع ذلك، يبدو أن هذه الإنجازات لم تكن كافية لمنح اللاعب الشعور بالحصانة تجاه مكانته الحالية داخل الفريق، إذ بدا أن شيئاً ما "انكسر" في العلاقة بينه وبين إدارة النادي.

ما حدث مع محمد صلاح، بعيداً عن أي تحليل رياضي، يحدث لموظفين موهوبين ومخلصين في الشركات؛ إذ إن ما يربط بين الإنسان والمؤسسة ليس عقداً مكتوباً فقط، بل شبكة توقعات غير مرئية نسميها العقد النفسي. فما هو هذا العقد؟ وكيف يؤثر في الاستقرار المهني للفرد؟ وماذا يفعل الشخص عندما يشعر بخرق هذا العقد؟ هذا المقال يجيب.

ما هو العقد النفسي؟

في بيئة العمل، لا تنشأ التصدعات في العلاقات المهنية دائماً نتيجة أخطاء واضحة أو انتهاكات صريحة للعقود الرسمية. في كثير من الأحيان يكون السبب شعورياً بحتاً. ربما يكون تغيراً في نبرة الحديث، أو صمتاً غير معتاد، أو اتخاذ قرارات دون تمهيد أو توضيح، أو حتى الإحساس المفاجئ بأن مكانتك لم تعد كما كانت، كلها إشارات خفية قد تولد شعوراً بالخذلان والاغتراب النفسي.

هنا يتجلى مفهوم "العقد النفسي"، وهو مصطلح صاغته عالمة النفس دينيز روسو، وصنفته باعتباره إطاراً لفهم علاقات العمل التي لا تلتقط بالعقد القانوني وحده، إنه الاتفاق أو مجموعة المعتقدات والتوقعات غير المكتوبة بين الفرد والمؤسسة أو بين القائد والتابعين، وهذا العقد يجعل الموظف يعتقد أنه أكثر من مجرد وسيلة للإنتاج، أو أن إنجازاته وتفانيه وقيمته الرمزية محفوظة، وعندما تسوء الأمور، ستتعامل معه المؤسسة باحترام وسرية.

أي يمكن القول إن ما ينتظره الموظف من المؤسسة ليس الراتب فقط، بل هو الأمان الوظيفي والتقدير وفرص التطور وبيئة العمل العادلة والداعمة والاعتراف بالإنجازات. في المقابل، إن ما تتوقعه المؤسسة هو أن يلتزم الفرد بتقديم الولاء والتفاني والعمل الجاد والمهارات العالية، وتقديم التضحيات من أجل مصلحة الفريق.

اقرأ أيضاً: علمياً: مفتاح سعادة الموظفين الصحة والمرونة لا زيادة الرواتب!

كيف يظهر خرق العقد النفسي على أرض الواقع؟

على عكس عقود العمل الرسمية، فإن العقد النفسي ليس ملزماً قانونياً، فإذا شعر أحد الطرفين أن الآخر لم يوف بما وعد به، يحدث "خرق للعقد" على الرغم من أن الأوراق الرسمية سليمة، ولم يخالف أحد بنداً مكتوباً، ومع ذلك يشعر بأنه لم يعد في المكان نفسه الذي وقع عقداً للبقاء من أجله.

في حالة محمد صلاح، فإن التوقع النفسي غير المكتوب هو تقدير خاص لمكانته ودوره القيادي واحترام تضحياته وسنوات عطائه مع النادي، مثل ضمان اللعب في مركز أساسي ثابت، لذا فإن استبداله أو تركه على دكة الاحتياط، يعد خرقاً للعقد النفسي.

النادي هنا قد لا يكون قد انتهك أي بند قانوني، لكنه زعزع ثقة صلاح وولاءه، ما يجعله يفكر في الرحيل، ليس طلباً للمال، بل بحثاً عن بيئة تقدر قيمته النفسية المتصورة.

غالباً ما يتجلى خرق العقد النفسي في مظاهر مثل:

  • وعود بالترقية أو التطور تؤجل بلا سبب واضح، أو تمنح لشخص آخر أقل أداء.
  • الحديث المتكرر عن بيئة داعمة، ثم تركك وحيداً في مواجهة ضغوط أو تنمر أو ظلم دون حماية حقيقية.
  • استغلال التزامك وولائك لزيادة عبء العمل دون مقابل عادل أو تقدير صريح.
  • قرارات مفاجئة تغير دورك أو مكانتك دون تشاور أو تفسير يحترم تاريخك ومساهمتك.

وفي هذا السياق، توصلت الباحثة في علم النفس التنظيمي، إيمان التميمي، في دراستها التي أعدتها حول أهمية تنظيم العلاقة بين صاحب العمل والعامل، إلى بعض الشروط التي يجب أن يلتزم بها الطرفان لنجاح العقد النفسي، وهي:

بالنسبة لصاحب العمل:

  • تطوير وتحسين مهارات الموظف.
  • سماع توقعات الموظف.
  • معرفة طموح الموظف المهني.
  • العدالة وتكافؤ الفرص.
  • مشاركة القرارات.
  • تمكين الموظفين.
  • الاتصال المفتوح.
  • تبني أنماط قيادية فعالة.
  • بناء روح الفريق.
  • إشباع حاجات الموظف المهنية والتطويرية.

بالنسبة للموظف:

  • الالتزام بقوانين العمل.
  • تنفيذ المهام.
  • اقتراح المبادرات التطويرية.
  • الإبداع والابتكار.
  • الرغبة في تحقيق أهداف المؤسسة.
  • التنافس المهني.
  • تبادل الخبرات والعمل الجماعي.
  • بناء وتطوير الذات.

 اقرأ أيضاً: تجاهل ثقافة الموظف يقلل الرضا الوظيفي

كيف يؤثر العقد النفسي في استقرارك المهني؟

لا يتعلق الاستقرار المهني فقط بالراتب أو المنصب، بل بالشعور الداخلي بالأمان. فاليوم، وبعد أن جرى خرق العقد النفسي بين محمد صلاح وليفربول، ينتظر مشجعو النادي الإنجليزي قرار صلاح؛ هل سيغادر النادي أم سيبقى؟ 

عموماً، لا يؤدي خرق العقد النفسي فقط إلى الشعور بالاستياء، بل يترجم إلى آثار نفسية وسلوكيات واضحة تؤثر في الاستقرار المهني للفرد وفي أداء المنظمة، من أبرزها:

  • انخفاض الرضا الوظيفي: بسبب الشعور بأن التضحيات لم تقابل بالتقدير المناسب.
  • الإرهاق العاطفي: الشعور بخيبة أمل، بعد توقع الحصول على معاملة خاصة أو تقدير، يخلق حالة من الإرهاق العاطفي، حيث يشعر الفرد بأن جهده ضائع.
  • ضعف الثقة: خرق العقد النفسي يجعل الفرد يشكك في نوايا القيادة، ويتوقع المزيد من الإحباطات في المستقبل، ما يدمر استقراره النفسي في بيئة العمل.
  • الانسحاب المنظم: يبدأ الفرد بتقليص جهده إلى الحد الأدنى المطلوب قانونياً أو مادياً فقط، ويتوقف عن تقديم "الجهد الإضافي" مثل المبادرات أو تقديم النصائح. فقد كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة نانجينغ لعلوم الطيران والفضاء، وجامعة العلوم الإلكترونية والتكنولوجيا في الصين أن الموظفين الذين بقوا بعد قرارات التسريح الجماعي، شعروا بأن الشركة لم تف بوعودها النفسية لهم، ما دفعهم للتفكير الجدي بترك العمل.
  • البحث عن بدائل: يصبح الفرد أكثر انفتاحاً على الفرص خارج المنظمة. في حالة صلاح، أقر في إحدى مقابلاته إلى أن الفترة الحالية قد تكون الأخيرة له في صفوف ليفربول. وفي هذا السياق، أشار محلل لغة الجسد، دارين ستانتون، إلى ما أبدته لغة جسد صلاح خلال مباراته الأخيرة ضد نادي برايتون في الدوري، إذ أحرز هدفاً وصنع آخر. فبعد صافرة النهاية، تجول صلاح ببطء حول أرض الملعب محيياً جمهور ليفربول الذي حمل لافتات تشيد بإنجازاته، ورد عليه بتصفيق حار ومطول.

وفقاً لستاتن، حملت تلك اللحظة طابعاً نهائياً ونوعاً من الوداع، فقد كانت الدموع تملأ عينيه وهو يصفق مع الجمهور، مع وجود تعابير حزن دقيقة وخيبة أمل تعلو وجهه، وكأنه يعلم في قرارة نفسه أنه لن يكون في ذلك الموقف ولن يمشي على تلك الأرض مرة أخرى.

  • السلوكيات العدوانية السلبية: قد يظهر التوتر في شكل خلافات مع الزملاء أو انتقاد القرارات أو حتى التعبير عن الاستياء أو الغضب على نحو غير مباشر في وسائل الإعلام أو عبر لغة الجسد. على سبيل المثال، أفاد خبير لغة الجسد، ستاتين، أن الشفة السفلية المتدلية لصلاح خلال إحدى مقابلاته، دليل على شعوره بالإحباط والغضب.

اقرأ أيضاً: على خطى محمد صلاح وباسم يوسف، كيف تقنع جمهورك وتثير تعاطفه؟

ماذا تفعل عندما تتعرض لخرق العقد النفسي؟

يحتاج التعامل مع خرق العقد النفسي إلى مزيج من الوعي والهدوء والواقعية، وليس انفجاراً عاطفياً لحظياً. إليك ما تستطيع فعله:

  1. حدد شعورك: حاول أن تميز بين شعور عابر بـ "الإهمال أو الإحباط" و"انهيار في الثقة". ابدأ بسؤال نفسك: هل هذا الخرق حقيقي أم هو مجرد شعور؟ هل الإدارة وعدتني صراحة بشيء وتراجعت، أم إنني أنا من وضع توقعات عالية جداً للمعاملة الخاصة؟
  2. ركز على الحقائق لا النوايا: قد لا يكون خرق العقد النفسي نابعاً من سوء قصد، بل نتيجة سوء تنظيم أو قرارات لم تشرح على نحو كاف، لذلك، وجه حديثك نحو أثر ما حدث على شعورك وسلوكك، لا نحو اتهام الآخرين في نواياهم بعبارات مثل: "أنتم خنتموني" أو "تعمدتم إهمالي". هذا الأسلوب الواقعي يرفع فرص الفهم والإصلاح، ويقلل احتمالات التصعيد والدفاعية.
  3. تواصل بوضوح مع صاحب القرار: اطلب لقاء فردياً مع الجهة المعنية، وتحدث بأسلوب هادئ ومهني بعيداً عن الاتهام. اشرح كيف فهمت الوعود أو التوقعات، وما الذي لم يتحقق منها، ثم ركز على أثر ذلك فيك مهنياً ونفسياً. استخدم عبارات تبدأ بـ "أنا أشعر" أو "أنا توقعت" بدلاً من لغة اللوم في عبارات مثل: "أنتم لا تقدرون جهودي" أو "عاملتموني بعدم العدل". هذا الأسلوب يفتح باب الحوار ويزيد فرص الوصول إلى حل، بدلاً من إثارة الدفاعية.
  4. حدد التوقعات الجديدة: حدد بوضوح ما تحتاج إليه في المستقبل لاستعادة ثقتك. مثل "أحتاج إلى الشعور بأنني أحظى بثقة كاملة بقراراتي"، أو "أتوقع استشارتي قبل تنفيذ أي خطوة".
  5. اهتم بصحتك النفسية: إذا كان الخرق يهدد صحتك النفسية أو مسيرتك المهنية على المدى الطويل، فإن أفضل قرار هو البحث عن مكان آخر يقدم لك "عقداً نفسياً" أفضل. قد لا يكون هذا المكان أعلى سعراً، ولكنه سيعيد لك شعورك بالقيمة والاحترام والمكانة التي تحتاجها لمواصلة التفوق. كما قد يكون من المناسب استشارة مختص لمساعدتك على إعادة صياغة الحدود المهنية، وبناء مقاومة نفسية، واستعادة الثقة.

المحتوى محمي