هل يجب أن تسامح من آذاك؟

4 دقائق
العفو والمسامحة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)

ملخص: في حين أن التعاليم الدينية تحثنا على العفو عمَّن أخطأ في حقنا، فإن الفلاسفة قد ناقشوا هذه المسألة من منظورهم، فتساءلوا إذا كان الموقف الأكثر أخلاقية أن نعفو عن الآخرين أو لا. وبعد الفلاسفة، انقسم المعالجون النفسيون في هذا الشأن؛ إذ رأى بعضهم أن للعفو عن الآخرين دوراً إيجابياً في العلاج النفسي في حين خالفهم آخرون الرأي. لطالما كانت مسألة العفو عن الآخرين محطَّ جدل في الفلسفة إذ رآها بعض الفلاسفة تنحية للمنطق السليم لصالح العواطف، فكانط مثلاً استنكر هذا السلوك وسماه "تساهل الضعف". يمكن أن يكون رفض العفو عن الآخر موقفاً أخلاقياً، ولا يرجع إلى الشعور بالحقد تجاهه بل يمثل طريقة لنقول له: "كفى، لقد تماديت جداً" إذ ثمة أفعالٌ لا تُغتفر، فما آراء الفلاسفة الآخرين وعلماء النفس حول هذا الموضوع؟

في حين أن التعاليم الدينية تحثنا على العفو عمَّن أخطأ في حقنا، فإن الفلاسفة قد ناقشوا هذه المسألة من منظورهم، فتساءلوا إذا كان الموقف الأكثر أخلاقية أن نعفو عن الآخرين أو لا. وبعد الفلاسفة، انقسم المعالجون النفسيون في هذا الشأن؛ إذ رأى بعضهم أن للعفو عن الآخرين دوراً إيجابياً في العلاج النفسي في حين خالفهم آخرون الرأي، ولذلك يبقى هذا السؤال مفتوحاً.

تحض التعاليم الدينية على العفو عن الآخرين لما لهذه الفضيلة من فائدة تعم المجتمع كله؛ إذ إنها تضع حداً لسلوكيات الانتقام. نحن ندعو الله دائماً أن يعفو عنا ويغفر ذنوبنا ونعلم أن نوال هذه المغفرة يتطلب منا التعبير عن رغبة صادقة في التغيير وتصحيح أخطائنا. وفي الصوفية؛ وهي أحد التيارات الروحية في الإسلام، يتطلب الحصول على المغفرة معرفة الذات من خلال تأمل النفس وتحريرها من الظنون السيئة والأفكار المتعصبة ليصبح المرء شخصاً أفضل قادراً على حب الخليقة كلها.

ثمة أفعال لا تُغتفر

لطالما كانت مسألة العفو عن الآخرين محطَّ جدل في الفلسفة إذ رآها بعض الفلاسفة تنحية للمنطق السليم لصالح العواطف، فكانط مثلاً استنكر هذا السلوك وسماه "تساهل الضعف". يمكن أن يكون رفض العفو عن الآخر موقفاً أخلاقياً، ولا يرجع إلى الشعور بالحقد تجاهه بل يمثل طريقة لنقول له: "كفى، لقد تماديت جداً" إذ ثمة أفعالٌ لا تُغتفر. ووفقاً للفيلسوف فلاديمير يانكيليفيتش (Vladimir Jankélévitch) فإن رفض العفو والمسامحة أفضل من العفو الزائف. ويوضح أستاذ الفلسفة جاك ريكو (Jacques Ricot) أن فكرة العفو استعادت أهميتها في فرنسا المتأثرة بفلسفة ديكارت في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان السؤال وقتها: هل يمكن أن نغفر ما لا يُغتفر؟ وذلك في إشارة إلى جرائم النازية. يقول فلاديمير يانكليفيتش في كتابه "غير قابل للتقادم" (L’Imprescriptible): "لقد مات الغفران في معسكرات الموت. عندما تغفر فإنك تخون الضحايا، بخاصة وأن الجلادين لم يطلبوا العفو أبداً ولم يكفروا عن جرائمهم أبداً". ومع ذلك يؤكد الفيلسوف في مقال "المغفرة" (Le Pardon)، أن المرء يسمو حينما يعفو عن الآخرين ولهذا يمثل العفو أسمى صور الأخلاق، دون إنكار أن بشاعة بعض الأفعال والجراح العميقة التي تخلفها تجعل العفو غير ممكن دائماً. قد نفهم دوافع الشخص الذي ارتكب الإثم، وعلى الرغم من ذلك ثمة أفعالٌ لا تغتفر.

من ناحية أخرى، يذكرنا الفيلسوف بول ريكور (Paul Ricœur) في كتاب "الذاكرة والتاريخ والنسيان" (La Mémoire, l'histoire, l'oublie)، بأنه لا يمكن اختزال قيمة الفرد بأفعاله وأن العفو عن شخص ارتكب إثماً يمثل أحياناً فرصة له ليثبت أن بإمكانه فعل الخير. وتقول الفيلسوفة حنا أرنت (Hannah Arendt) إن العفو عن شخص ما يعني ولادته من جديد رمزياً؛ إذ يجعله ذلك مهيأً لتبنّي أفكار وسلوكيات جديدة. هل يمكننا العيش كجماعة معاً دون أن نعفو عن بعضنا بعضاً؟ وفقاً لتلميذ بول ريكور، الفيلسوف أوليفييه أبيل (Olivier Abel) فإن الإجابة هي لا؛ إذ جاء في كتابه "العنف والمصالحة والسلام" (Violence, paix et réconciliation): "بوصفنا مواطنين، فنحن ورثة العنف وجرائم الدولة وما لم ننسَ هذا الموروث وننبذه فإننا سنُهزم جميعاً".

تأثير العفو والمسامحة في تحسين الذات

يعني العفو عن الآخرين تحرير النفس، وهو الجانب الذي تركز عليه أساليب تطوير الذات والعلاجات النفسية إذ تتمحور حول تحرير المرء من معتقداته السامة والأعراض النفسية التي يعانيها والأحقاد القديمة في داخله؛ ولكن المشكلة الكبيرة التي تظهر هنا هي أن من أذنب في حق شخص ما (والد مسيء أو غير محب، أو زوج خائن) لن يأتي إلى جلسة العلاج مثلاً ليطلب العفو منه. علاوة على ذلك، يرى العديد من المحللين النفسيين أن هذه الفكرة غير مجدية بل وحتى مؤذية، لأن المريض سيتمكن منطقياً بفضل العملية العلاجية من الانفصال عن الماضي الذي يسبب له الاضطراب والحزن والقلق.

ومن ناحية ثانية يرى بعض المعالجين النفسيين أنه ثمة مراحل للعفو تماماً كما هي مراحل الحداد التي تلي الفقدان الذي يسبب ألماً نفسياً. تقول مختصة علم النفس آن ماري سونال (Anne-Marie Saunal): "العفو لا يعني التسامح أو تفهم الأذى الذي حدث أو نسيانه، ولا يمكن أن يُمنح قبل أن يشفى الجرح". وتتابع: "يجب ألا يعفو الإنسان عمَّن آذاه أسرع من اللازم وإلا فإن ذلك سيكون بمثابة هروب من الألم وإنكار له". يمكن للمريض في جلسة العلاج النفسي أن يحاول فهم سلوك والديه في الماضي معه مثلاً في ضوء ظروفهما الشخصية وتقبُّل ما كانا عليه، وهذا جوهري لأننا حين نتخلص من مشاعر الاستياء تجاه أحد ما سنتحرر من توقعاتنا منه، وبعد اكتمال هذه العملية يرجع إلى الشخص تحديد ما إذا كان يريد العفو عمَّن آذاه أو لا. ولا يعني العفو عنه استئناف العلاقة أو إجراء صلح معه بالضرورة، ففي بعض الأحيان من المناسب الحفاظ على مسافة أمان. وفقاً لمختصة التحليل النفسي، فإن من يعفو عن الآخرين يتجدد من الداخل ويتخلص من المشاعر السلبية التي تتمركز حول الأذى الذي تعرض له، ومن ثم فإنه يكسر سلسلة الكراهية ولا ينقلها إلى أطفاله وهذا هو الهدف الرئيسي من العلاج النفسي.

العفو عن الآخرين من منظور علم النفس الاجتماعي

العفو يجعل العلاقات أكثر سلاسةً

حينما يعتذر إلينا الآخرون مباشرة عما ارتكبوه في حقنا فإنهم قد يجعلوننا نتساهل معهم، وهذا ما أثبته الباحث في علم النفس الاجتماعي نيكولاس غيغن (Nicolas Guéguen) من خلال التجربة التالية: يمشي متطوع بين المارة في الشارع ويصطدم بهم فيعتذر منهم أحياناً أو يتابع طريقه دون قول كلمة أحياناً أخرى. في المرة الأولى اصطدم المتطوع بأحد المارة برفق وتابع طريقه دون أن ينبس ببنت شفة، ثم اصطدم بآخر وجها لوجه واعتذر إليه صراحةً، وفي كلتا الحالتين، كان على المتطوع الاستمرار في طريقه وإسقاط شيء من يده بطريقة تبدو غير مقصودة. وجاءت نتيجة الاستطلاع كما يلي: 90% من المارة الذين اعتذر منهم المتطوع لفتوا انتباهه إلى أنه أسقط شيئاً وذلك على الرغم من أنه اصطدم بهم بعنف نوعاً ما، وعلى النقيض من ذلك، نصف الذين اصطدم بهم دون أن يعتذر إليهم فقط لفتوا انتباهه إلى الأمر. تشير التجربة إلى أن كلمة "آسف" هي في الواقع الكلمة السحرية التي تزيل من نفس المرء الرغبة في إظهار الضغينة، لأنها تمنحه شعوراً بأن من آذاه قد أخذ في الاعتبار مقدار الضرر الذي تسبب فيه. تقدم دراسة حديثة لمحة عن نفسية الأشخاص الذين يترددون في العفو عن الآخرين، وقد أظهرت أن لدى هؤلاء قناعة بأن عليهم رد الأذى بمثله وأن من آذاهم لا يستحق التساهل معه، وهم يميلون إلى عدم التسامح في مجالات الحياة كافة كما أن لديهم رغبة كبيرة في السيطرة تصعّب عليهم العفو والمسامحة.

المحتوى محمي