كيف يسهم العطاء والتضحية في تعزيز الصحة النفسية؟

3 دقائق
العطاء والتضحية
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: يمكن أن تكون سلوكات العطاء والتضحية أدوات فعّالة لمكافحة الاكتئاب وتعزيز الرفاهية الشخصية؛ ما من شأنه أن يمهّد الطريق نحو حياة أكثر صحة وسعادة وإرضاءً؛ لكن الإفراط والمغالاة على حساب الراحة الشخصية لا يمكن أن يمرّا دون سلبيات محتملة.

في عالم يُصوَّر أحياناً كغابة يأكل فيها القويّ الضعيف، تُعد سلوكات اللطف والكرم والعطاء والتضحية بالنفس نقطة ضوء نهتدي بها جميعاً. فهذه الإيماءات النبيلة المتجذّرة في جوهر الإيثار، تؤكّد نسيج مجتمعاتنا المترابط وتعكس روح التعاطف التي كانت سمةً أساسية للتطّور البشري والنموّ الثقافي؛ إذ تؤدّي دوراً محوريّاً في تعزيز الصحة النفسية والجسدية. ومع ذلك، فقد لا نستمرّ في جني ثمار العطاء والتضحية في حالات معيّنة. تعرّف إلى الفوائد العميقة وغير المتوقّعة للعطاء والتضحية بالنفس، ومتى وكيف يمكن أن يصبح هذا السلوك النبيل ضارّاً ولا يخدم تطوّرك الشخصي ورفاهيتك. 

4 مزايا صحية للعطاء 

ليست ثمّة حاجة إلى دلائل علمية تؤكّد السعادة التي يشعر بها المرء عند الانخراط في سلوكات العطاء. ومع ذلك، قد نحتاج إلى التعرّف إلى المزايا الفيزيولوجية والنفسية التي يجلبها على المدى الطويل من خلال نتائج الدراسات التي أُجريت حول الموضوع. فما هي تلك الفوائد الصحية المحتملة؟

  • زيادة احترام الذات والرضا عن الحياة: تشير نتائج البحث العلمي حول التطوع في المنظمات الإنسانية وأنشطة المساعدة غير الرسمية المقدَّمة للعائلة والأصدقاء إلى أن مثل هذه الأنشطة يمكن أن ترفع تقدير الفرد لذاته، وتزيد الرضا عن الحياة، وتعزّز الشعور بالهدف.
  • انخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب: قد تسهم المشاعر الإيجابية المستمَدة من العطاء في تخفيض خطر الإصابة بالاكتئاب والأعراض المرتبطة به مثل الخمول والحزن؛ حيث تشير الأبحاث إلى أن كبار السن الذين يساعدون أحباءَهم يميلون إلى الشعور بإحساس متزايد بالتحكم في حياتهم؛ ومن ثَمّ يقللون فرصهم في المعاناة من أعراض الاكتئاب.
  • صحة بدنية أفضل: يرتبط الاكتئاب وتدني احترام الذات بأمراض القلب والعديد من الحالات الصحية الأخرى؛ ما يشير إلى وجود صلة بين فوائد الصحة النفسية والبدنية المستمَدة من سلوكات العطاء. فقد أظهرت نتائج دراسة انخفاض مستويات الكوليسترول الضار (LDL) ومتوسط مؤشر كتلة الجسم (BMI) لدى مجموعة من طلاب المدرسة الثانوية بعد تطوعهم مرة واحدة في الأسبوع لمدة شهرين. وقد أعزى الباحثون ذلك إلى الارتفاع في الحالة المزاجية واحترام الذات بين المتطوعين بوصفه سبباً محتمل لهذه التحسينات في الصحة البدنية. كما تُظهر الدراسات المرتكزة على البالغين في منتصف العمر وكبار السن نتائج مماثلة؛ إذ يظهر لدى المتطوعين في منتصف العمر انخفاض في دهون البطن، وانخفاض نسبة السكر في الدم، وحالات أقل من ارتفاع ضغط الدم لدى كبار السن؛ ومن ثَمّ تقل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية مقارنة بغير المتطوعين.
  • حياة أطول: حتى بالنسبة إلى الأفراد الذين شُخِّصت إصابتهم بأمراض القلب، فإن تخصيص الوقت للآخرين يمكن أن يكون ذا آثار وقائية، وفقاً لدراسة حديثة كشفت أن البالغين المصابين بأمراض القلب والذين كرّسوا ما يصل إلى 200 ساعة في السنة لمساعدة الآخرين كانوا أقلّ عرضة للإصابة بنوبة قلبية أو الموت في العامين التاليين. قد يعزى ذلك إلى الشعور بالهدف والإنجاز المستمدين من مثل هذه السلوكات. 

اقرأ أيضاً: كيف نتعلم العطاء للآخرين والتلقي منهم بطريقة صحيحة؟

الفوائد غير المتوقّعة للتضحية بالنفس في العلاقات العاطفية

يُقصد بالتضحية بالنفس التخلّي طواعيةً عن المصلحة الذاتية، إما من خلال التخلي عن شيء ذي قيمة مثل الوقت أو المال، أو الانخراط في مهمات غير مرغوب فيها لصالح طرف آخر.

وتشير دراسة تحليلية من جامعة كامبريدج حول دور التضحية في العلاقات العاطفية إلى أن استعداد الفرد للتضحية يسهم في استثمار عميق ورعاية تجاه العلاقة؛ حيث تؤدّي التضحيات المدفوعة بالنوايا الإيجابية عادةً إلى نتائج إيجابية، في حين أن تلك التي تحفّزها دوافع التجنّب والتفادي يمكن أن تؤدي إلى تداعيات سلبية لكلا الطرفين المعنيَّين.

ونظراً للتكلفة الشخصية المرتبطة بالتضحيات؛ فمن المحتمل أن يمر الأفراد بمشاعر سلبية. لكن الدراسة تؤكّد مع ذلك أهمية عدمِ قمع هذه المشاعر أو إخفائها عن الشريك؛ حيث رُبط هذا القمع بتدهور جودة العلاقة من وجهة نظر الشريكين، بينما يؤدّي العطاء دوراً حيويّاً في تعزيز ديناميات العلاقات الصحية واستدامتها.

متى يصبح العطاء والتضحية مضرَّين؟

متى يتحوّل السلوك النبيل المتمثّل في العطاء والتضحية من مصدر إشباع شخصي ومنفعة مجتمعية إلى ساحة استنزاف للذات وإيذائها؟ الحدّ الفارق يكون غالباً غير واضح وغير موضوعي؛ حيث يمكن أن يصبح مغلّفاً بشغف نكران الذات؛ ما يؤدّي إلى آثار ضارة في الصحة النفسية والجسدية للأشخاص الكثيري العطاء.

وقد لا يكون من المفيد الانخراط في مثل هذه الأنشطة فقط لتعزيز الرفاهية الشخصية، فالدافع وراء اختيارك العطاء يمكن أن يؤثّر تأثيراً كبيراً في النتيجة؛ حيث يشير بعض الدراسات إلى أن التطوع لصالح الآخرين قد يكون أكثر فائدة للمتطوّع من التطوّع لتحقيق مكاسب شخصية.

غير أنه ثمّة ظروفاً وأوقاتاً لا يختار الناس فيها العطاء؛ حيث يجد بعض الأفراد نفسه مضطرّاً لأن يصبح مقدم رعاية بدوام كامل لأحبائه، وهو ما يمكن أن يكون دوراً شاقّاً.

إذ يمكن أن يؤدّي الإفراط في العطاء حدّ التضحية بالراحة أو ممارسة الرياضة إلى التسبّب في الإجهاد المفرط وآثار سلبية في الصحة والرفاهية العامة. وبغض النظر عما إذا كان الشخص يتطوع أو يعطي الأولوية للرعاية الذاتية، فمن الأهمية بمكان تخصيص وقت كل يوم للأنشطة التي تجلب الفرح والبهجة.

اقرأ أيضاً: العيدية و"حق الملح": كيف تعزز هدايا العيد صحتنا النفسية؟

وأخيراً، لا يمكن إنكار سعادتنا حين ننخرط في سلوكات العطاء والتضحية بالنفس؛ إذ لا يقتصر الأمر على تحسين رفاهنا النفسي من خلال تعزيز الشعور بالهدف؛ بل ويمتد أيضاً إلى تحقيق فوائد صحية جسدية ملموسة، ونحصل على هذه المكافآت غير المتوقعة عندما نكون مدفوعين بنوايا حقيقية لمساعدة الآخرين. إلاّ أنه من الضروري تحقيق التوازن؛ حيث إن الإفراط في العطاء يمكن أن يؤدّي إلى الإجهاد والإرهاق، فتبطل بذلك آثاره الإيجابية.