يمزج بين المتعة والبهجة واليقظة أيضاً. يسمح بمواجهة تقلبات الحياة بابتسامة على الوجه والمضي قدماً. هذا هو فرح العيش؛ القوة الوجودية التي نتطلع إليها جميعنا. لكن هل نبحث عنها في المكان الصحيح؟
فرِحون! يُصرِّح 84% من الفرنسيين أنهم فرحون! (وفقاً استطلاع رأي أجرته مؤسسة إيبسوس (Ipsos) بمعرض باريس - أبريل/نيسان 2012). ويؤكدون أن هذا الفرح ينبع من القيام بأفعال بسيطة كالاستمتاع بوجبة شهية، أو سماع الموسيقى، أو أخذ حمّام، أو الاسترخاء على كرسي تشميس؛ كثير من الردود التي تشي بالتأمل، والانتباه إلى ما هو كائن لا ما قد يكون.
هل يتحلّى الفرنسيون بالحكمة إذن؟ إذا كان "شراء فستان" يتربّع على رأس قائمة أسباب الفرح عند النساء، فإن ذلك يُعدّ إشارة إلى خلل في هذا الاستطلاع، أو على الأقل، خلطٍ حاصل في تعريف مفهوم الفرح. ذلك أن "الفرح" كلمة رهيبة وساحرة بالتأكيد؛ إذ بمجرد التلفظ بها يُفتح الفم ولا يعود لينغلق، وكأنها قالت كل شيء. لكن ماذا قالت على وجه الدقة؟
لم يُجمِع الفلاسفة على قول واحد؛ بعضهم يرتاب من اضطرام الروح والجسد هذا إذ يجده الرواقيّون الذين ينشدون الطمأنينة (الأتاراكسيا) مفهوماً تعبيرياً للغاية. فيما يراها الأبيقوريون الذين على عكس ما يشيع عنهم لا يبحثون عن المتعة ولكن عن تفادي المعاناة، مُضلِّلة. ثمّ يقف على النقيض من مناصري التحكم في الذات هؤلاء، الدعاة إلى تحريرها، والذين يرغبون بشدّة في الفرح. ولنأخذ على سبيل المثال نيتشه الذي يعتبرها ثمالةً مُفرطة تَمُدُّ الفرح قوّته وحيويته! لكن الأمر مختلف عند الفيلسوف هنري بيرغسون الذي يرى في الفرح الإشارة "المنشودة" التي تخبرنا عبرها الطبيعة أننا "بلغنا مرادنا" وأن إرادة الحياة انتصرت؛ إذ يتحقق الفرح بالنسبة إليه بتحقيق الذات، أو على حدّ تعبيره: "أينما حلّ الفرح، كان الإبداع (الخلق)" وكذا "بثراء الإبداع يتعمَّقُ الفرح". ونختم بسبينوزا وكتابه "علم الأخلاق" (Éthique) والذي رغم بنائه بالغ الصرامة إلا أنه يقدم نفسه شعاراً للفرح. ففي هذا الكتاب، لا يعود الفرح شعوراً واحداً؛ بل يصير خطوة نحو الكمال، وحركة تجمع بين الكائن وجسده وروحه؛ تتغذى على المعرفة والفعل والرغبة وتتحدث بلسان الحرية.
كن يقِظاً وواثقاً في الوقت نفسه
يتسع مفهوم الفرح ليشملَ تعريفات كثيرة لكنه يضيق فور أن نقرنِه بكلمة "العيش". "تعني هذه العبارة أن الفرح لا يرتبط فقط بالقيام بهذا الفعل أو تلك التجربة" كما يشير الدكتور في الفلسفة ومؤلف كتاب "من العدم" (Ex Nihilo)، بول كلافيي. ويتابع: "إنها تفيد بأن الوجود بأكمله، بسرّائه وضرّائه، هو مادة للابتهاج"، وبالتالي فالعيش بحد ذاته مصدر للفرح. أو لنقل أن فرح العيش يحصل "بلا عِلّة" كما قال أندريه جيد، دون أي سبب آخر عدا واقع أننا موجودون.
أليست قدرتنا على احتمال واستيعاب ومحبّة كل شيء، هي ما يُصطلح عليه في التحليل النفسي بدافع الحياة؟ هذا ما يؤكده المحلّل النفسي جون-بيير وينتر بقوله: "إن جاز لي التعبير، ففرح العيش هو كل انتصار على السَّقم والتكرار والملل والكراهية. أجل، إنه دافع الحياة الذي يعي أنه مرتبط في جوهره بدافع الموت". لا نُجانِب الصواب إذن حين نشير إلى الفرح بكلمات تعود على "المتعة" و"الضحك" ولحظات الاستمتاع تلك التي يتطابق فيها فجأةً ما نعيشه مع ما نطمح إليه. هكذا هو فرحنا بالحياة؛ يتغذّى بأجمل ما في تجاربنا.
لكننا في المقابل لسنا مُحقِّين تماماً؛ إذ إن الحزن والخوف والمعاناة وخيبة الأمل بدورهم يُعبِّرون عنه". ويكمل المحلل النفسي بقوله: "الفرحة الزائفة في جوهرها هي تلك التي تُسِرّ بكل سذاجة: (كل شيء سينتهي على خير ما يرام)، فيما تؤكد الفرحة الحقيقيّة اليَقِظة: (سينتهي كل هذا على أسوأ ما يكون). دون أن تُحبطك". ولننظر إلى ببولين، الفتاة اليتيمة غير المحبوبة التي ظلّت طوال صفحات رواية الكاتب زولا تُظهر حيوية تشع شجاعة وعطفاً، تلك الرواية المعنوَنة: "شهوة الحياة". أو إلى مونتين والذي بعد أن أغرق في وصف آلامه قبل أفراحه دَوَّن في كتابه "مقالات": "أحب الحياة وأغتنمها كما طاب للربّ أن ينعم بها علينا". صحيح أنها شخصيات استثنائية، فتلك بطلة في رواية خيالية وذاك فيلسوف معجون بالحكمة؛ إلا أن بولين ليست مُنزّهة عن الخطأ إذ تنتابها نوبات غضب وغيرة. أما مونتين فكما كتب بنفسه، هبطت عليه الحياة من السماء، أما الحب الذي يحمله لها فلم يفعل؛ بل "اغتنمَه" بنفسه كلما مشى أو أكل أو كتب أو عاني أو تذكر.
إن مدى سهولة تماهينا مع فرحنا بالعيش، يتأثر بتاريخنا العائلي، وتجاربنا، وظروف حياة كلّ منا. ولكن لأننا نحملها في دواخلنا فإننا نملك لا فقط القدرة بل الواجب على حدّ تعبير الفيلسوف آلن في تغذيتها، وتدريبها على مجاراة كل ما يقدم إليها، بسلاسة.