من الطبيعي أن تتبادر إلى ذهن أي إنسان يطمح لأن يحقق شيئاً في هذه الحياة القصيرة التساؤلات التالية: ما الذي يجعل شخصاً ما قائداً بارعاً، والِداً جيّداً أو متحدثاً متمكّناً؟ ولماذا يصل بعض الناس إلى أهدافهم بينما يفشل آخرون بصورة مريعة؟ وما الذي يصنع الفارق بين فرد وآخر؟
وفي حين قد يلهّى كثير من الناس بزعم أن تحقيق الطموحات يأتي نتيجة الموهبة أو الذكاء أو بهما معاً، فإن عدداً كبيراً من مختصي علم النفس يجدون أن الصلابة النفسية والعقلية بمقدورها صنع فارق ملحوظ بيننا كبشر!
وبالنظر لمصطلح "الصلابة النفسية" يمكن أن نجد ألفاظاً متعددة تتوازى مع ما يعنيه في المنشورات العلمية؛ يتجه بعض المختصين للاسم الحرفي (Mental Toughness) وذلك يشيع في الأوساط الرياضية، أما آخرون فيذهبون مع (Grit) والتي تعني "الثبات والعزيمة".
ومن الملاحظ أن هذه السمة الشخصية المُكتسبة تلعب دوراً أكثر أهمية من أي شيء آخر لتحقيق طموحات الإنسان وأهدافه في العمل والحياة والصحة؛ ما يعني أن بمقدور أي منّا تطويرها وتسخيرها متى ما وُجِدت المُمكنّات والبيئة المناسبة.
يشير بعض مختصي الصحة النفسية والعقلية إلى أن هذه السمة يتم بناؤها من خلال انتصارات محسوسة صغيرة ومستمرة، إلى جانب بناء العادات المتكررة والتركيز عليها بصفة أكبر دون المحفزات والرغبة التي قد تتأثر بصورة سلبية من حين لآخر.
ما هي الصلابة النفسية؟ وكيف تؤثر في ما يمكننا تحقيقه؟ وأكثر.
ماهية الصلابة النفسية
تُعرِّف الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA) مفهوم "الثبات والعزيمة" (Grit) على أنه "سمة شخصية تتميز بالمثابرة والشغف لتحقيق أهداف بعيدة المدى".
وتستلزم هذه العزيمة عملاً جاداً للتغلب على أي تحديات يواجهها الإنسان مع استمرار اهتمامه ببذل جهد جسدي وذهني بمرور الوقت حتى في أحنك الظروف وأكثرها سوداوية.
ويتسق مع الجزء الأول "الثبات" والذي يشير إلى تقدم المرء بخطوات مستمرة رغم الإخفاقات والمِحن والعقبات التي قد تُعكِّر صفو الحياة لوقت من الزمن.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن هذه السمة قد تكون أكثر صلة من الذكاء في تحديد الإنجاز العالي للشخص بحسب الجمعية الأميركية لعلم النفس، فعلى سبيل المثال؛ قد تكون الصلابة النفسية مهمة خصوصاً لإنجاز مهام معقدة عندما تتضاعف محفزات الاستسلام.
وتشير "سبرنغر نيتشر" (Springer Nature) في عدد الصحة الجيّدة والرفاهية والذي نُشِر مطلع 2019، إلى أن الصلابة النفسية (Mental Toughness) شاملة وتستلزم موارد نفسية إيجابية حاسمة عبر مجموعة واسعة من سياقات الإنجاز وفي مجال الصحة النفسية والعقلية.
كما أنها سمة شخصية ليّنة ترتبط بكيفية التفكير؛ ما يجعلها تشرح إلى حد كبير كيف يستجيب الناس بصورة مختلفة لمصادر القلق والضغوط والفرص والتحديات بغض النظر عن الظروف السائدة.
وكمفهوم نفسي تعبر الصلابة النفسية عن حالة الأشخاص الأقوياء نفسياً وعقلياً؛ أي تلك القوة التي تجعلهم يتمتعون بصحة نفسية أفضل ما يمكّنهم من التغلّب على تجارب الحياة الصعبة أو التعامل معها بأسلوب مناسب.
كيف تؤثر الصلابة النفسية في ما يمكننا تحقيقه؟
في مراجعة علمية نُشرت في قسم علم النفس بمجلة فرونتيرز (Frontiers) صيف 2017، حلل فريق بحثي من أميركا وبريطانيا وروسيا الصلابة النفسية والاختلافات الفردية في كُلٍّ من التعلم والأداء التعليمي والعمل والرفاهية النفسية والشخصية.
وجمع العلماء بياناتهم من نحو 51 ورقة علمية وصف فيها الباحثون نحو 56 دراسة علمية متعلقة بالمجالات المحددة، ووجدوا أن الصلابة النفسية مرتبطة بالعديد من السمات النفسية الإيجابية واستراتيجيات المواجهة الأكثر كفاءة والنتائج الإيجابية في التعليم والصحة العقلية.
إضافة لذلك؛ أشار العلماء إلى إمكانية تفسير نحو نصف تباينات الصلابة النفسية من خلال العوامل الوراثية، كما يمكن تفسير الارتباطات بين الصلابة النفسية والسمات النفسية بصورة أساسية إما من خلال عوامل جينية مشتركة أو عوامل بيئية غير مشتركة.
كيف يمكن وصف العقلية وما يرتبط بها من مفاهيم مصطلح الصلابة النفسية؟
بغض النظر عن وصفها سمة شخصية أو حالة عقلية؛ تشير الدراسات إلى أن الصلابة النفسية لأي إنسان ترتبط بصورة كبيرة مع عدد من المفاهيم التي تكوّن مزيجاً باستطاعته وصف جوانب ما يُعرَف على العموم بمُسمى "العقلية" (Mindset).
وحسب عدد "سبرنغر نيتشر" السابق؛ ترتبط المفاهيم التالية بالصلابة النفسية وتجعلنا أكثر قدرة على وصفها بأسلوب صحيح:
- بلوغ الهدف أو الاداء (Attainment or Performance): يتبنّى الأشخاص الذين يتحلّون بصلابة نفسية نهج "يمكنني فعل ذلك" (I can do it) في معظم الأنشطة؛ ما يجعلهم أكثر عزيمة على بذل جهد أكبر وأكثر ثباتاً وتركيزاً مقارنةً بغيرهم، والفرق هنا ذو أهمية إحصائياً وعملياً.
- العافية (Wellbeing): يُظهر الأشخاص الذين لديهم مستويات جيّدة من الثبات والعزيمة حالة من الفعالية الإيجابية تجاه النكسات والتحديات وحالات القلق؛ ما يجعلهم أكثر اطمئناناً من غيرهم.
- المرونة والسلوك الإيجابي (Agility and Positive Behavior): يتمتع هؤلاء الأشخاص بنظرة أكثر إيجابية للحياة ويميلون إلى رؤية الفرص بدلاً عن التهديدات، وهو أمر مهم خصوصاً في السياقات المتقلبة وغير المؤكدة والمعقدة والغامضة؛ ما يجعل استجابتهم أكثر إيجابية.
- الطموحات (Aspirations): يُظهر الأشخاص الأقوياء عقلياً أكثر من غيرهم استعداداً ضخماً لتحسين ذواتهم وتنمية شخصياتهم.
- تطوير العلاقات مع الأقران (Development of Peer Relationships): يحظى هؤلاء الناس بعلاقات قوية من الناحية الذهنية مع أقرانهم بأسلوب سريع وأكثر فعالية نظير قدرتهم على استيعاب الاختلافات مقارنةً مع الآخرين.
بالإضافة إلى ما سبق؛ يجمع مفهوم الصلابة النفسية بين أربع بُنىً أساسية مستقلة وهي: التحكم والالتزام والتحدي والثقة. وتعتمد كل بنية منهم على عدة عوامل؛ بحيث تمثل هذه القواعد الجوانب المختلفة للطريقة التي يفكر بها الفرد في حدثٍ ما عند حدوثه.
ختاماً؛ يمكن أن تتعدد مرادفات الصلابة النفسية بين اللغة التي يستخدمها مختصو علم النفس وغيرهم إلّا أن الجميع يتفق على دورها الأساسي في جعل الأشخاص أكثر ثباتاً وعزيمة وجَدية فيما يخص تحقيق أهدافهم وطموحاتهم.