في عصر "العلاقات التي يمكن التخلص منها بسهولة"، أصبحت الصداقة الحقيقية المخلصة والدائمة تسير نحو طريق التلاشي والاضمحلال. فيما يلي تحدثت إحدى الصحفيات عن مدى متانة هذه الروابط الجديدة.
هل تغيرت الصداقة؟ تاريخياً؛ ليس لدي فكرة (ليس بعد!). لكن وفق ما عشته فإنها رابطة واسعة النطاق ولا يمكن إنكارها. في مرحلة ما من حياتي لم يكن لدي الكثير من الأصدقاء. من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، كنت أتذكر جيداً فترات ما بعد الظهيرة؛ كيف كنت أقضي الوقت بأكمله في محاولة تجميع عشرة أصدقاء وتدوين أسمائهم على ورقة بيضاء لدعوتهم في عيد ميلادي.
لا يعني ذلك أنني أعيش وحيدة. لكن ببساطة، في ذلك الوقت؛ كانت معايير الصداقة مختلفة تماماً. سواء وجدت الصداقة بسهولة أو بعد بحث مطول تخللته المصاعب، فالمسألة بالنسبة لي ليست إلا قدرة على الاختيار، وثقة حميمة وخبرات مشتركة.
في الحقيقة؛ إن شخصين أو ثلاثة أشخاص فقط يستحقون منذ فترة طويلة في نظري اسم "الأصدقاء الحقيقيين". لكن ذلك كان قبل ألف عام، قبل فترة طويلة من ظهور موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" الذي يسمح لي اليوم بمصادقة شخص غريب بنقرة واحدة.
في الواقع؛ بسبب التعلق بالمفهوم الكلاسيكي الرومانسي للصداقة، فقد رفضت الاشتراك في الشبكة الرقمية لفترة طويلة. وبعد ذلك؛ سمحت لنفسي بالاقتناع بها مؤكدة لنفسي أنني سأتخذ الأصدقاء الجيدين فقط كأصدقاء حقيقيين.
ولكن نظراً لأن وجود أقل من عشرة أصدقاء على فيسبوك يجعلك تشعر بأنك فتاة فقيرة العلاقات نوعا ما، فقد قلصت معاييري للصّداقة بسرعة، لأنني أيضاً لم أعد مخدوعة بموقع "فيسبوك". اليوم ليس عليك أن تكون صديقاً في الحياة حتى تصبح صديقاً مقرباً. إنه أمر سخيف؛ لكن هذا هو الحال.
نهاية البحث عن الحقيقة
توضح إلسا جودار؛ المحللة النفسية والفيلسوفة (وصديقتي على موقع فيسبوك): "نحن نكتب على فيسبوك فقط لنكون موجودين. نحن نمثّل باستخدام هذا الموقع، فنحن نعيش على وقع وضع مغاير لما يصنع الصداقة الحقيقية؛ الأصالة والإخلاص وكل ما يساعد على بناء الثقة". وفقاً لها؛ إذا بدت الصداقة الحقيقية صعبة المنال، فذلك لأن الحقيقة لم تعد مهمة يبحث عنها الجميع.
تتابع إلسا جودار: "في عصر الصورة وتشابه كل شيء ومنطلق الرؤية الذاتية، فلا أحد يزال يهتم بالبحث عن الحقيقة، رغم أن ما يهم في الصداقة الصادقة هو إمكانية قول الحقيقة وسماعها". اليوم مَن سيتحمل سماع حقائقه الأربع التي قالها صديق عن صديقه؟ نرجسيتنا الهشة تجعلنا أقل انتظاراً للحقيقة مقارنة بحاجتنا للدعم والتشجيع.
في المقابل؛ تفترض الصداقة التزاما بالمخاطرة، لأن خيبة الأمل ممكنة دائماً طبقاً لإلسا جودارت. ومع ذلك فإننا نعيش في بيئة يسودها "كل الأمن"؛ حيث يسعى الجميع لحماية أنفسهم من كل شيء؛ بما في ذلك المعاناة العاطفية. كيف تعيش شغف الحب الحقيقي دون أن تكون مستعداً للمعاناة منه؟ هذا مستحيل!".
على صعيد آخر؛ لا يُعتبر موقع "فيسبوك" المسؤول الوحيد عن عدد الأصدقاء على هاتفي الخاص، فظروف العمل ومدرسة ابنتي والإجازات سمحت لي بإجراء لقاءات ممتعة أود أن أتعمق في بعضها لكن ليس لدي وقت. لكن ليس المهم الوقت؛ بل المدة الزمنية للصداقة بحسب إلسا جودار. فمثل أي التزام؛ من المفترض أن تستمر الصداقة بشكل دائم.
لكننا نعيش في عصر صداقات "تتغير"! اليوم، نتحدث بشكل أساسي عن" شبكة الأصدقاء"، كما يعلّق عالم النفس والمحلل النفسي جان-كلود ليودي. وفي هذه "الشبكة الرقمية" لا نرى إلا حب المصلحة. مثلما "نستخدم" موقع "فيسبوك" أو "تويتر"، فإننا "نستخدم" شبكتنا لخدمة طموحاتنا والترويج الذاتي في عصر يقوده المنطق الليبرالي؛ حيث يكون الآخر وسيلة لتحقيق غايتنا الخاصة. لذلك لا عجب أن العثور على"صداقة حقيقية" أمر صعب للغاية في الوقت الراهن.
ولأن اهتماماتنا تتمحور حول الذات، فلن نكون أصدقاء حقيقيين. الصداقة الحقيقية تتمتع بهذه الخصوصية مقارنة بالحب، فهي تتضمن بالضرورة الاختلاف والانفصال - الجسدي والنفسي؛ حيث لا يوجد اندماج ودي ممكن. نحن أصدقاء "لأنه صادق معي وأنا كذلك"، واعين باختلافاتنا. فهل مازال هذا القبول ممكناً في عصر النرجسية؟
يتطلّب الشعور بصداقة حقيقية "استيعاب أن الشخص الآخر مهم في حياتك" كما أشار إيمانويل كارير، في كتابه "حياة أخرى غير حياتي" (D’autres vies que la mienne)، إلى اثنين من أبطال روايته - إتيان وجولييت؛ وهما شخصيتان تربطهما صداقة قوية يجب على أزواج كل منهما الاعتراف بها.
لكن كم منا مستعد لإعطاء مكان لهذا الصديق في حياته الزوجية وضمن عائلته؟ كيف لا نخشى تعريض هذا البناء الهش بالفعل للخطر؟ على الرغم من أن أسطورة الحب الأبدي يزعزعها الواقع، فإنها تظل الهدف الذي يرغب المرء أن يستثمر فيه معظم طاقته. فمَاذا تبقى إذاً للصداقة؟
أخبرني الطبيب النفسي والمعالج النفسي أوليفييه سبينلر، أن إحدى عبارات الشكاوى المتكررة من مرضاه هي: "الوحدة". ويوضح: "بعد أن أجعلهم يتحدثون بانسياب عن محيطهم؛ بحيث أستطيع فهمهم، أصبحت أقول:" أنت لست وحدك، ربما تشعر بهذا لأنك أعزب! هكذا الأمر يختلف، فهل لديك أصدقاء؟".
لذلك كان من الممكن أن ينتصر إيروس؛ الحب الجسدي والرغبة، على فيليا؛ محبة الصداقة التي يمكن أن يتصورها الإغريق أيضاً بين الأب وابنه، والمعلم وتلميذه وحتى كأساس للمدينة الحاكمة بين جميع المواطنين. نعم، الحجج قوية وتثبت لي أن هذه الصداقة الحقيقية في طريقها إلى الانقراض.
تكمن المشكلة في أن هذه الحجج ليست جديدة. الافتقار إلى الصدق في علاقاتنا بدأ منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ حيث قال باسكال، لسخرية القدر: "إذا كان المرء يعرف ما يقوله الآخرون عنه، فلن يكون هناك أربعة أصدقاء في العالم"، واستدرك مونتسكيو في نفسه بمرارة: "من غير المعقول أن تنعدم الصداقة الحقيقية بين الناس".
في الحقيقة؛ نحن لم ننتظر ظهور الفيسبوك لنعرف مدى قيمة الصداقة الحقيقية. لكن بالنسبة لفكرة أننا أصبحنا "نفعيين" للغاية، فإن جان كلود ليودي يتذكر اعترافات للكاتب جون-جاك روسو (Les Confessions de Rousseau)؛ حيث يضع هذا الأخير قائمة بجميع صداقاته المهمة. "الشبكات الاجتماعية" ليست من مميزات العصر الافتراضي كما أن النفعية الودية ليست من ضمن معايير العالم الليبرالي.
في سياق متصل؛ تشير الأرقام إلى أن 68% من الفرنسيين يقولون إن الصداقة تقوم أولاً وقبل كل شيء على القيم المشتركة. ويعتقد 59% أن الصداقة قائمة أساساً على مساعدة الأشخاص بعضهم بعضاً. علاوة على ذلك؛ تقول الأرقام أيضاً أن متوسط الأصدقاء "الحقيقيين" المُعلن عنه على مدار العمر يقتصر على 5 إلى 6 أشخاص فحسب.
من جهة أخرى، فإن 83% من أصدقاء النساء هم من النساء و 72%،من أصدقاء الرجال هم الرجال. بالإضافة إلى ذلك؛ تشير التقديرات إلى أن 55% من العلاقات السرية تُنشأ مع أشخاص من نفس المستوى الاجتماعي.
حنين مثالي
إذاً من أين يأتي هذا الانطباع بأننا لم يعد لدينا "أصدقاء حقيقيون"؟ يأتي هذا التفسير الأول عندما أسمح لعقلي بتصنيف صداقاتي الاستثنائية. إنه يعيدني قبل كل شيء إلى الطفولة؛ إلى الأصدقاء الذين ربما فقدتهم لكن بصماتهم تظل سليمة بشكل مثالي. ولست الوحيدة، فالغالبية العظمى من الكتابات حول الصداقة هي إعادة سرد لقصص ماضية قاطعتها مرحلة البلوغ والحرب، والمسافة الجغرافية والموت. وحتى عندما تستمر هذه الصداقة العميقة، ما الذي تتغذى عليه؟ طبعاً الذكريات.
بالنسبة لميلان كونديرا، فهذا هو المعنى الكامل للصداقة؛ إذ تقول: بدون توفير مرآة يمكن للآخر من خلالها أن يتأمل صورته السابقة؛ لمُحيت الذكريات الأبدية بين الأصدقاء منذ وقت طويل. لذا فإن "الصداقة الحقيقية" ستكون مفهوماً غارقاً في الحنين إلى الماضي؛ الحنين إلى الفردوس المفقود منذ الطفولة والشباب. إذا تبادر إلى ذهني يوماً أن الصداقة لم تختفِ، فسأكون ببساطة في زمن الأبدية "عندما كانت الروابط مع الأصدقاء أفضل من الآن".
في الحقيقة هناك تفسير آخر محتمل؛ كلما زادت علاقات الصداقة اليوم، أتيحت لنا الفرصة لمراقبة وفهم الصداقة العميقة والحقيقية أفضل. أن نكون شفافين مع الذات ومع الآخر، لقبول بعضنا البعض وحب اختلافاتنا، والقيام بالتزام دائم؛ بمثابة تحدٍ هرمي وعنيف للغاية لا يصلح إلا لزمن عاش فيه أرسطو أو ماركوس توليوس سيسرو أو ميشيل دي مونتين. لكن الأمر لا يقل عن ذلك في مجتمعاتنا القائمة على المساواة والسلام.
أساساً؛ التغيير الوحيد الذي أراه بيني وبين هؤلاء القدامى هو أن لدي الفرصة للتواصل مع ملايين الآخرين في الوقت الراهن. إن العقبة التي تعيق عملية عثوري على المزيد من "الأصدقاء الحقيقيين" تجعلني أرى أن كل الآخرين أصدقاء محتملون أو "إخوة"، كما قال الكاتب ريجيس ديبراي. بالطبع أنا أبالغ؛ ولكن بين هذا النموذج المثالي للصداقة العالمية والصديق المثالي، لا يوجد إلا "أنا فقط"، فأيهما يستحق أحلامي أكثر؟